بقلم سمية الغنوشي
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
ما كشفه الرئيس الأميركي دونالد ترامب هذا الأسبوع في واشنطن لم يكن خطة سلام، بل كان أقرب إلى مهزلة سياسية، إنه اتفاق يُسوَّق باعتباره “اختراقًا تاريخيًا”، لكن الحقيقة أنه قد صيغ بين شريك أميركي متواطئ ومجرم احتلالي، مع تغييب كامل للشعب الذي يقرر مصيره.
جلس ترامب مبتسمًا بجوار رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو، يشكره على “الموافقة” على خطة كتبها بنفسه، في حين غاب الفلسطينيون تمامًا عن المشهد، ولم يكن هناك حضور لحركة حماس، ولا للسلطة الفلسطينية، ولا حتى بشكل رمزي يمنح المسرحية ذرة من المصداقية.
هذا استمرار للمنطق الاستعماري ذاته الذي أفرز “اتفاقيات أبراهام”، إنها صفقات تعقد حول أرض فلسطين من دون الفلسطينيين أنفسهم، واحتفالات تُسمى “سلامًا”، بينما الحقيقة هي تجاهل الاحتلال والحصار والتطهير العرقي، حيث يتم العزف على وتر “المصالحة” بينما يُقصى أصحاب الحق الشرعي من طاولة القرار.
هذه الخطة ليست تفاوضًا، بل فرض وإملاء وليست “دبلوماسية”، بل “استسلام مغطى بديباجة الدولة”.
ولطالما كان نهج نتنياهو واضحًا: “اقتل المفاوضين، تنتهِ المفاوضات”، فقد اغتال أو حاول اغتيال قادة مفاوضين سابقين، من رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، إلى من استُهدفوا في الدوحة بينما كانوا يناقشون مسودة الخطة الأميركية، وها هو بعدها يقف جنبًا إلى جنب مع واشنطن ليعلن خطة صاغها شركاء في الجريمة.
ولإضفاء شيء من الشرعية على هذا المشهد العبثي، جرى استدعاء مجموعة من القادة العرب والمسلمين، لا للدفاع عن الفلسطينيين، بل للضغط عليهم، لقد كانت مهمة هؤلاء القادة أن يوفّروا الغطاء السياسي لترامب ونتنياهو، أما دورهم الحقيقي فلم يكن حماية فلسطين، بل دفعها نحو الاستسلام.
وقد عبّر نتنياهو نفسه عن هذا المشهد بدهشة قائلاً: “من كان ليصدق هذا؟” في إشارة إلى أن أنظمة عربية وإسلامية باتت توفر الغطاء لإملاءاته.
مسرح بلا مضمون
إذا نزعنا الغطاء المسرحي، بدت الخطة مجرد “حساء سياسي بسيط” العنصر الوحيد الملموس فيها هو قضية عودة الأسرى، أما ما عدا ذلك، فلا انسحاب ولا التزامات ملزمة، بل وعود هشة بينما يبقى جيش الاحتلال راسخًا في الأرض.
ما قدمه ترامب لنتنياهو لم يكن تسوية، بل “نصرًا سياسيًا” فشل في تحقيقه بالقوة بعد عامين من القصف والمجازر.
لقد عجزت دولة الاحتلال عن سحق غزة، وعجزت عن استعادة أسراها بالحرب، وعجزت عن كسر إرادة الشعب الفلسطيني، فجاءت خطة ترامب محاولة لتحويل الهزيمة إلى انتصار، وإنتاج نصر دبلوماسي بعد أن فشل في الميدان العسكري.
لكن الحقيقة أن دولة الاحتلال ليست منتصرة، بل معزولة، ففي الأمم المتحدة، وقف نتنياهو يخطب بينما فغادر 77 وفدًا القاعة، ليتركوه يخاطب مقاعد فارغة.
أما استطلاعات الرأي في أوروبا والولايات المتحدة فتظهر أن الرأي العام ينقلب تدريجيًا ضد الاحتلال، خاصة في أوساط الأجيال الشابة، وهو هو المدّ العالمي المتصاعد من التضامن مع فلسطين يزداد قوة، الأمر الذي يرعب واشنطن وتل أبيب أكثر من أي شيء آخر.
وهذا هو الهدف الحقيقي من هذه الخطة: كبح هذا المد، وإطفاء زخم المقاطعة والاحتجاجات وكبح تنامي الوعي العالمي، المطلوب إذن استبدال السلطة الفلسطينية بوليّ أمر مفروض، تحت مسمى “مجلس السلام” برئاسة ترامب وإشراف توني بلير، ذلك الرجل الذي تلطخت يداه بدماء العراقيين والذي لا يصلح حتى لإدارة مدرسة ابتدائية، فكيف يُؤتمن على مستقبل غزة؟
التاريخ لن يرحم
إن ما يسمى “خطة السلام” ليست سوى إعادة إنتاج لنهج قديم: “مؤسسة إذلال غزة” بحلة إنسانية زائفة، وهي آلية للوصاية الخارجية مقنّعة بشعارات إنسانية، بينما الهدف الحقيقي هو نزع القرار الفلسطيني وإخضاعه.
أما القادة العرب الذين جلسوا إلى جانب نتنياهو، من الإماراتيين الذين همسوا معه بينما أعرض العالم عنه في الأمم المتحدة، إلى أولئك الذين اصطفوا خلف منصة ترامب، فليسوا شركاء في السلام، بل دعاة للاستسلام.
وقد لخّص المندوب المصري السابق لدى الأمم المتحدة، معتز خليل، الأمر بوضوح حين قال إنها ليست سوى “خطة استسلام”، فهي تخنق الصوت الفلسطيني، وتجرده من التمثيل، وتمنح نتنياهو “الانتصار المطلق” الذي وعد به ولم يستطع تحقيقه.
لن يتعامل التاريخ برحمة مع هذه اللحظة، فـ”خطة وقف إطلاق النار” التي تُقصي أصحاب الأرض ليست خطة سلام، بل هي “إملاء استعماري”، إنها إعادة إحياء لمفردات الانتداب والوصاية في القرن الحادي والعشرين، وهي ذات الغطرسة التي وعدت بالأرض الفلسطينية في غياب أهلها، من دون رضاهم، كما جاء في تصريح بلفور عام 1917.
الانتدابات والوصايات والوكالات الدولية، كلها مجرد أسماء مستعارة لإخفاء جوهر واحد: حرمان الفلسطينيين من حقهم في تقرير مصيرهم.
ضمير العالم
يمكن لترامب ونتنياهو أن يكتبا ما يشاءان من خطط في غرف مغلقة، لكن خارج تلك القاعات، هناك عالم يتغير، هناك ملايين البشر تخرج في مسيرات، وهناك حملات مقاطعة تتسع، وأيضاً رأي عام يميل بوضوح ضد دولة الاحتلال.
المدّ العالمي يتسع، والتغيير يزداد وضوحًا: فلسطين لم تعد قضية شعب محاصر فقط، بل تحولت إلى ضمير العالم، وهذا الضمير لا يمكن مصادرته باتفاقيات ولا طمسه بمشاريع سياسية.
“هذا ليس سلامًا، بل خطة إذلال واستسلام تُفرض من الخارج”، لكن الحقيقة التي تخشاها واشنطن وتل أبيب هي أن فلسطين أصبحت معيارًا أخلاقيًا للعالم يكشف زيف الشعارات الغربية عن الحرية والعدالة.
قد تحاول الخطة الأميركية فرض واقع جديد، لكن التاريخ يسجّل شيئًا آخر، إن ما يجري ليس سلامًا، بل استسلامًا مغلفًا، وأن ما كُتب باسم “المصالحة” لن يُقرأ سوى كصفحة أخرى في سجل الاستعمار الحديث.
فلسطين اليوم هي القضية التي تكشف المعايير المزدوجة، وتعرّي النفاق الدولي، وتفضح تحالف الاستبداد مع الاحتلال، إنها القضية التي تحولت إلى ضمير العالم، وهذا الضمير لا يمكن التفاوض عليه، ولا يمكن لأي صفقة أن تغيّبه.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)