بقلم ندى عثمان
لا يزال شعراء المنطقة يتعرضون لخطر السجن والنفي والموت بسبب شعرهم الذي غالبًا ما يتطرق إلى قضايا القمع والعدالة الاجتماعية.
ويعتبر الشعر في العالم العربي من أرقى أشكال الفن، ويمتد تراثه إلى عصور ما قبل الإسلام، والقصائد الملحمية لإمرئ القيس وعنترة بن شداد.
يواصل الشعر احتلال مكانة مركزية في المجتمعات العربية، وبالنسبة للعديد من الأطفال الذين نشأوا في المنطقة، تأتي دراسة اللغة العربية مقرونة بدراسة الشعر الكلاسيكي.
ومن السمات الشائعة للمناسبات الاجتماعية في المنطقة تلاوة الشعر بشكل عفوي بما يتناسب مع الأجواء العاطفية في المكان.
ولعدة قرون، كان الشعر في العالم العربي يتعامل مع قضايا متنوعة مثل أصل الإنسان، وصفات القادة الموقرين، ومُثُل الحب، والشرف، والعدالة، وقد تطور مع الزمن من نواحٍ عديدة واتخذ موضوعات جديدة تتوافق مع التطورات السياسية والاجتماعية في العالم العربي.
يتضح هذا بشكل خاص في القرن العشرين وما بعده مع نمو الحركات الثورية ضد الاستعمار والاحتلال الأجنبي والحكومات الاستبدادية.
وعلى مدى عقود، تعرض الشعراء لخطر الاعتقال والنفي وحتى الموت بسبب أشعارهم، لكن على الرغم من محاولات خنق حريتهم بالتعبير، يظل الشعراء جزءًا مهمًا من الحركات الاجتماعية في جميع أنحاء المنطقة.
وفي العصر الحديث، برز خمسة من الشعراء العرب الذين اشتهروا بأعمالهم الشعرية حول موضوعات السياسة والثورة بشكل كبير.
أولا: أحمد مطر
اشتهر الشاعر العراقي أحمد مطر بشعر يتنقل بسلاسة بين روح الدعابة السوداء واليأس، وهو ما يعكس حقيقة اعتاد عليها الكثيرون في العالم العربي.
تنتقد أعمال مطر، الذي ولد في عام 1952، بشدة الديكتاتوريين العرب لخنقهم الحريات واستخدامهم التعذيب ولتفشي الظروف المادية السيئة تحت حكمهم.
بدأ مطر مسيرته الشعرية عندما كان مراهقًا، وأنتج قصائد رومانسية، لكن شعره انتقل إلى انتقادات لاذعة للطبقة السياسية في سن الرشد، واكتسب سمعة بسبب قصائده الشرسة التي كان يؤديها أمام حشود كبيرة في وقت مبكر من حياته المهنية.
كانت مثل هذه الانتقادات ستلفت انتباه حزب البعث العراقي، مما أجبر مطر على الانتقال إلى المنفى الاختياري في الكويت في منتصف العشرينيات من عمره، ولاحقا إلى لندن.
وفي إحدى قصائده بعنوان “المنشق”، يكتب عن الانقسام والفساد داخل الحركات السياسية العربية، وينتقد وجود الكثير من الفصائل التي ابتلي كل منها بالصراع.
وفي قصيدة أخرى ذاع صيتها بعنوان “حتى أكثر وحشية من الإعدام” وجه انتقادات للقادة العرب الذين يتمسكون بالسلطة بينما يعاني مواطنوهم من الفقر. جاء في القصيدة: الإعدام أخف عقاب يتلقاه الفرد العربي. أهنالك أقسى من هذا؟ طبعا.. ما سيكون أكثر وحشية فالأقسى من هذا أن يحيا في الوطن العربي!
عمل مطر في إحدى الصحف في الكويت، واكتسب جمهورًا واسعًا في جميع أنحاء العالم العربي، خاصة بعد أن أقام صداقة مع رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي.
واصل الاثنان ارتباطهما في لندن، حيث اغتيل ناجي علي على يد مسلحين مجهولين عام 1987.
وفي إنجلترا، تحولت انتقادات مطر إلى الغرب، وخاصة حول نفاق الحكومات الغربية عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع العالم العربي وتهيئة الظروف التي يتم فيها تشجيع العرب على الشعور بالخجل من ثقافتهم.
ونشرت إحدى قصائده في هذه الفترة بعنوان “أنا إرهابي”، بينما كان لا يزال يعيش في لندن.
ثانيا: أحمد فؤاد نجم
ولد أحمد فؤاد نجم، المعروف باسم “الفغومي”، لعائلة من الفلاحين في قرية صغيرة شمال القاهرة في مصر عام 1929.
وكما هو حال العديد من أقرانه في تلك الفترة، تلقى الفغومي تعليمه في مدرسة دينية، لكنه أضطر إلى العمل عندما كان مراهقًا لمساعدة أشقائه بعد وفاة والده.
خلال هذه الفترة، وُضع نجم في دار للأيتام لبعض الوقت، وعمل راعيا للماشية، بالإضافة إلى بعض الأعمال الأخرى، وفي عام 1946، انتقل إلى القاهرة، حيث انضم هو وشقيقه إلى الاحتجاجات ضد الوجود البريطاني في مصر.
أثرت تلك التجارب المبكرة للفقر والنشاط المناهض للاستعمار على شعر نجم، الذي اشتهر بعد تعاونه مع الموسيقار الشيخ إمام عيسى في مقهى محلي يرتاده الطلاب واليساريون والمتعطشون للتغيير.
وكان يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه شاعر شعبي ورجل الشعب، بسبب أسلوبه السلس في الكتابة، حيث اختار نجم الكتابة باللهجة المصرية العامية على عكس الفنانين الآخرين، الذين فضلوا اللغة العربية الفصحى في شعرهم.
جعل ذلك أعماله مفهومًة وواضحة لدى الطبقات الفقيرة، وانتقدت أشعاره بشدة حكام مصر بمن فيهم جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك.
أمضى نجم بعض الوقت في السجن بعد هزيمة 1967 العربية أمام إسرائيل بسبب إهانته لقيادة عبد الناصر وسُجن مرة أخرى من قبل السادات لتقليده الساخر لصوته.
ونظرًا لسمعته التي امتدت لعقود كصوت للمعارضة، فقد حظيت قصائده بشعبية بين المتظاهرين الذين ساعدوا في إسقاط مبارك في الثورة المصرية عام 2011.
أذيعت إحدى قصائده، “الرجل الشجاع شجاع”، في ميدان التحرير بالقاهرة خلال الاحتجاجات المناهضة للحكومة قبل أن توافيه المنية في ديسمبر 2013 عن عمر يناهز 84 عامًا، وجاء في قصيدته: الرجل الشجاع شجاع الجبان جبان تعال مع الشجعان وصولا إلى الميدان
ثالثا: تميم البرغوثي
تميم البرغوثي، الملقب بـ “شاعر القدس”، كاتب عمود سياسي وناقد ثقافي معروف على نطاق واسع في العالم العربي.
اهتم البرغوثي بالأدب في سنوات المراهقة، ومثل أحمد فؤاد نجم استخدم اللغة العامية في شعره، وتأثر أيضا بكل من الشاعر الفلسطيني محمود درويش والكاتب العراقي سعدي يوسف.
ولد الفلسطيني المصري في القاهرة عام 1977 لعائلة تهتم بالأدب، فوالده هو الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي ووالدته الروائية المصرية الشهيرة رضوى عاشور.
كان مريد جزءًا من مجموعة مثقفين فلسطينيين أجبرهم الرئيس أنور السادات على مغادرة مصر، خلال محادثات السلام مع إسرائيل في أواخر السبعينيات.
وكان لكلا الثقافتين الفلسطينية والمصرية تأثير على شعر البرغوثي وكتاباته التي انتقدت بشدة الحكومة المصرية والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
يتحدث البرغوثي في قصيدته “في القدس” عن الاحتلال الإسرائيلي لوطنه، ورسم صورة لحياة الفلسطينيين الذين يعيشون مع نقاط التفتيش ومضايقات المستوطنين، كما صورت القصيدة مشاعر انتزاع الملكية والسلب التي يشعر بها الفلسطينيون، وأهمية القدس كمدينة مقدسة.
حظيت قصيدته “يا مصر هانت” بشعبية بين المتظاهرين في ميدان التحرير خلال ثورة 2011 وأداها البرغوثي للجمهور في جميع أنحاء العالم العربي على قناة الجزيرة.
وإلى جانب شعره، شهدت حياته المهنية عمله ككاتب عمود في صحيفة ديلي ستار اللبنانية، ومسؤول في الأمم المتحدة ومرشح لنيل الدكتوراه في جامعة بوسطن.
رابعا: فدوى طوقان
اشتهرت الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان بعكس تجاربها مع اللاجئين الفلسطينيين، لا سيما مشاعر التهجير التي جاءت مع طردهم من بلادهم وحلم العودة إلى الوطن.
ولدت في نابلس، وكان شعرها مستوحى إلى حد كبير من وعد بلفور، الذي أُعلن في عام 1917، عام ولادتها، وطورت طوقان أسلوبها الشعري خلال الاحتلال البريطاني الذي سبق قيام دولة إسرائيل.
خلال الاحتجاجات المناهضة لبريطانيا في ثلاثينيات القرن الماضي، تبادلت الشابة الفلسطينية الرسائل مع شقيقها الشاعر والكاتب المسرحي إبراهيم طوقان المقيم في بيروت.
من خلال هذه المراسلات، طورت فدوى أسلوبها في الكتابة، وكان التركيز الكبير الآخر في قصائد طوقان على النكبة، التي أدت إلى تهجير أكثر من 700 ألف فلسطيني لإفساح المجال لقيام دولة إسرائيل في عام 1948.
وتميزت طوقان بإظهار المظالم التي يتعرض لها الفلسطينيون كما أشادت بروح المقاومة.
وكتبت واحدة من أشهر قصائدها بعنوان “حمزة”، من منظور شخص مفجوع من الاحتلال الإسرائيلي، حيث يقاطع المدعو حمزة راوية القصيدة، موضحًا أن الفلسطينيين يمكنهم تحمل أي شيء، وجاء فيها:
“أختي ، قلب أرضنا النابض لا يتوقف عن الخفقان،
ويثابر، ويحتمل ما لا يحتمل، ويحفظ أسرار التلال والأرحام.
هذه الأرض التي تنبت فيها أشواك الصبار والنخيل تلد أيضًا مقاتلين من أجل الحرية.
هكذا أرضنا يا أختي هي أمنا!”
وبينما يعبر حمزة عن تحديه، رأى منزله ينهار.
أمضت طوقان منتصف حياتها في دراسة الأدب الإنجليزي في أكسفورد والسفر عبر أوروبا، بينما كانت تقوم أيضًا بحملات حول قضايا المرأة، وتوفيت عن عمر يناهز 86 عامًا في ديسمبر 2003.
خامسا: محمد الماغوط
أثناء وجوده في السجن بسبب عضويته في الحزب السوري القومي الاجتماعي المحظور، التقى محمد الماغوط بمفكرين معارضين ألهموه اهتمامه بالشعر.
ورغم عدم تلقيه تعليما رسميا، فقد طور الكاتب السوري موهبة الشعر وريادة مفهوم الشعر الحر في اللغة العربية، حيث كانت معظم القصائد، حتى عصر ماغوط، تُكتب ضمن القيود الصارمة للأسلوب الكلاسيكي.
وكما الآخرين في هذه القائمة، كان الماغوط ينتقد الظروف المادية للعرب العاديين، وتضمنت بعض الموضوعات التي استكشفها في كتاباته الظلم والتدهور الأخلاقي بين الحكام والحكومات الاستبدادية.
وكتب في إحدى قصائده عن حالة الوطن العربي والرقابة على الإعلام والفساد:
“مستقبل العراق قاتم مستقبل فلسطين قاتم مستقبل الحرية قاتم مستقبل الوحدة قاتم مستقبل التحرير قاتم مستقبل الاقتصاد قاتم مستقبل الثقافة قاتم مستقبل الحب قاتم مستقبل المناخ قاتم علاوة على ذلك: هناك تعتيم إعلامي تعتيم سياسي تعتيم عسكري تعتيم اقتصادي تعتيم ثقافي تعتيم طائفي علاوة على ذلك انقطاع التيار الكهربائي كل نصف ساعة، ومع ذلك، على الرغم من كل ذلك، فإنهم يتحدثون فقط عن الشفافية هذه الأيام”.
وإلى جانب شعره الذي حصل على العديد من الجوائز على مر السنين، عمل الماغوط أيضًا في مجال كتابة الأفلام والمسرحيات والكتب، وتوفي في أبريل 2006 عن عمر يناهز 72 عامًا.