بقلم عبد الله العريان
ترجمة وتحرير مريم الحمد
في نهار 2 أغسطس الماضي ، أقبل الآلاف لصلاة الجنازة على إسماعيل هنية في مسجد الإمام محمد بن عبد الوهاب في الدوحة وذلك تكريماً لزعيم حماس الذي تم اغتياله، من بين هؤلاء العشرات من المبعوثين من جميع أنحاء العالمين العربي والإسلامي والذين سافروا إلى قطر للتعبير عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني في ظل الإبادة الحاصلة في غزة.
وفي المقابل، كان من أبرز الغائبين عن الجنازة ممثلو حكومات الأردن والسعودية والإمارات والبحرين ومصر والمغرب، رغم أنه يذكر أن الخلافات السياسية بين الزعماء العرب لم تمنعهم سابقاً من التغيب عن جنازة ياسر عرفات، والتي جمعت الزعماء العرب في رمزية دللت على الوحدة والحداد الجماعي.
تاريخياً، كانت قضية فلسطين بمثابة شماعة مريحة يستخدمها الحكام العرب المستبدون من أجل ترسيخ شرعيتهم من ناحية وتوجيه السخط الشعبي من ناحية أخرى
في ذلك الوقت، كانت الدول العربية ترى أنه من الضروري الاهتمام بمسألة تحرير فلسطين في عيون شعوبها على الأقل وبالأقوال لا بالأفعال على أية حال، ولكن منذ الربيع العربي، لم تعد الأنظمة الاستبدادية العربية بحاجة إلى إضفاء الشرعية على حكمها من خلال الدعم المعلن لفلسطين، حيث أصبح لديهم الحرية في اتباع سياسات لا تعبر عن رغبة شعوبهم بما في ذلك التطبيع مع إسرائيل.
ومن هذا المنطلق، تعد الغيابات في الدوحة أحدث مثال على التحول في أسلوب هذه الأنظمة وجوهرها منذ أكثر من عقد من الزمن، وقد أصبح الآن أكثر وضوحاً منذ 7 أكتوبر.
الحقيقة هي أن العديد من الدول العربية عرضت على إسرائيل دعماً كبيراً منذ شنت هجومها على غزة، مما ساهم في تسليط الضوء على الصورة الإقليمية التي تطورت حول كيفية انخراط هذه الدول في النظام الأمني الأمريكي الإسرائيلي.
ذهب البعض إلى حد حشد قدراتهم العسكرية لاعتراض الضربات الانتقامية التي شنتها إيران وميليشياتها الإقليمية وإعادة توجيه البضائع عبر طرق تجارية بديلة رداً على حصار البحر الأحمر ضد الشحن الإسرائيلي، ومن جانبها، قامت مصر بدوريات على حدودها مع غزة بالتنسيق الوثيق مع إسرائيل، مما أدى إلى تفاقم الكارثة الإنسانية غير المسبوقة في القطاع المحاصر.
لقد أصبحت الأنظمة العربية تتصرف بوضوح فيما يتعلق بتحالفها المفتوح مع إسرائيل، الأمر الذي يثير تساؤلات حول كيفية تدحرج المنطقة نحو ذلك، وما هو تأثير اللحظة الحالية في ظل ما يحصل في غزة على تطور هذه التحالفات؟!
فلسطين استثناء
تاريخياً، كانت قضية فلسطين بمثابة شماعة مريحة يستخدمها الحكام العرب المستبدون من أجل ترسيخ شرعيتهم من ناحية وتوجيه السخط الشعبي من ناحية أخرى.
منذ الخمسينات، جرى تشكيل فلسطين كمكون أساسي للهوية الوطنية العربية الحديثة، فكان تحرير فلسطين في قلب المشروع القومي العربي للرئيس جمال عبد الناصر في مصر وبرنامج حزب البعث عندما وصل إلى السلطة في سوريا والعراق، كما رفع ملوك الخليج راية فلسطين لتأسيس شرعيتهم الخاصة في مرحلة ما بعد الاستعمار وتعزيز صورتهم الإقليمية وإخضاع شعوبهم.
لقد أثبتت الانتفاضات العربية إلى جانب أمور أخرى، أن فلسطين لم تكن تاريخياً مجرد مصدر إلهاء للمجتمعات العربية، بل كانت موقعاً للتعليم السياسي الجماهيري في حد ذاتها، ففي فلسطين تم صياغة الروايات والهويات السياسية البديلة في تحدٍ لتلك التي يقدمها الحكام
يمكن القول أن الأنظمة التي اشتهرت بعدم تسامحها مع فكرة التعبئة الشعبية بشكل عام، إلا أن فلسطين كانت استثناء، حيث سمحت تلك الأنظمة بالاحتجاجات الجماهيرية وتأسيس المنظمات غير الحكومية وبعثات المساعدة وازدهار أشكال التعبير الثقافي الشعبي لدعم الفلسطينيين، رغم رفض كل نشاط مماثل على الجبهة السياسية الداخلية.
ويقول علماء السياسة أن “استمرارية هذه الأنظمة الاستبدادية” يرجع بشكل جزئي إلى قدرتها على تشتيت انتباه السخط الشعبي وصرفه، وفي هذه الحالة، كانت فلسطين بمثابة صمام مفيد لتحرير الضغط الذي يتعرض له المجتمع من جوانب أخرى.
على سبيل المثال، رغم قيام دول مثل مصر والأردن بتوقيع معاهدات سلام مع إسرائيل منذ عقود، إلا أن حكامها شعروا بالحاجة إلى مواصلة دعواتهم الخطابية لتحرير فلسطين، فاتخذوا إجراءات قوية وإن كانت رمزية في الغالب، وذلك تماشياً مع الغضب الشعبي تجاه العنف الاستعماري الصهيوني، بما في ذلك قطع العلاقات الدبلوماسية بشكل دوري والحد من التبادلات الاقتصادية والثقافية مع إسرائيل.
كل ذلك انقلب رأساً على عقب بسبب الانتفاضات العربية وتداعياتها، ففي أعقاب الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت عام 2010 والتي أدت إلى إضعاف أو انهيار عدد من الأنظمة، اجتاحت المنطقة موجة من الثورة المضادة، وقد تجلى ذلك بشكل ملحوظ في الانقلاب العسكري عام 2013 والذي أطاح بالتحول الديمقراطي الهش في مصر ونصب عبد الفتاح السيسي كحاكم استبدادي لأكبر دولة عربية.
لقد شهدت تونس أيضاً نهاية مفاجئة لانتقالها الديمقراطي، وذلك عندما أقال الرئيس قيس سعيد البرلمان المنتخب وعلق الدستور في عام 2021.
في الوقت نفسه، أصبحت اليمن وليبيا والسودان دولاً غارقة في حروب أهلية مدمرة ترعاها قوى إقليمية، كما تم سحق الاحتجاجات الحاشدة في البحرين من قبل القوات التي أرسلها جيرانها في الخليج، إضافة إلى استسلام الحركة الثورية في سوريا للتدخلات الأجنبية، مما أدى إلى تدمير البلاد وعزلتها.
الإفلاس الأخلاقي
لقد أثبتت الانتفاضات العربية إلى جانب أمور أخرى، أن فلسطين لم تكن تاريخياً مجرد مصدر إلهاء للمجتمعات العربية، بل كانت موقعاً للتعليم السياسي الجماهيري في حد ذاتها، ففي فلسطين تم صياغة الروايات والهويات السياسية البديلة في تحدٍ لتلك التي يقدمها الحكام.
لقد كشف النضال من أجل فلسطين عن نقاط الضعف البنيوية والإفلاس الأخلاقي لدى الأنظمة العربية، مما سمح بنجاح وتوسع المشروع الصهيوني في وسطها، في وقت كانت تقترب منه من إعادة اصطفافها الاستراتيجي، ولذلك لا يمكن فصل ارتباط وتأثير التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي حدثت خلال العقد الماضي في المنطقة على حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل في فلسطين.
لقد تميزت تلك الحقبة بمحاولات عدوانية لإعادة ترسيخ النظام الإقليمي الاستبدادي، والتي تم توجيهها بشكل رئيسي من قبل حكومتي السعودية والإمارات، فإلى جانب نشر الجيوش والميليشيات المرتبطة بهما، تحملت كلتا الحكومتين أيضاً حصة كبيرة من العبء الاقتصادي لتحقيق الاستقرار في الدول المتعثرة من أجل محاولة كبت التعبئة الجماهيرية المدفوعة بالاضطرابات الشعبية.
لقد ظلت هذه القوى الإقليمية على ارتباط وثيق وتنسيق عالٍ مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة من أجل تحقيق “الاستقرار” عن طريق دعم الديكتاتوريات القمعية وترك المنطقة في أيدٍ موثوقة بالنسبة لهم إن صح التعبير، وفي نفس الوقت، سعت الولايات المتحدة إلى إعادة تثبيت نفسها أمام المنافسات الكبيرة القادمة من روسيا والصين.
لقد أصبحت صفقة الحكم الجديدة في معظم أنحاء المنطقة العربية صفقة قوة مبنية على العنف والاستبداد، وذلك يتضح من خلال سجن الجماعي المعارضين السياسيين وإسكات المعارضة وتشديد الرقابة على وسائل الإعلام وإضفاء الطابع الأمني على المجتمع.
من هنا، لم تعد هذه الأنظمة بحاجة إلى التشدق بالقضية الفلسطينية، بل على العكس فقد اقتربت أكثر فأكثر من رؤية أمريكية إسرائيلية للأمن الإقليمي تقوم على تجنيد عدد من الدول في الصراع ضد إيران وحلفائها، الأمر الذي أدى إلى ما يسمى باتفاقات أبراهام، حيث قامت دول عربية بتطبيع العلاقات مع إسرائيل.
لقد أصبح من الواضح للجميع بعد اتفاقيات التطبيع أن الموقف العربي التقليدي المتمثل في عدم قبول التطبيع إلا بعد تحقق تقرير المصير للشعب الفلسطيني لم يعد يمثل أكثر من مجرد كلمات فارغة من حقبة ماضية!
أرضية هشة
عقب اتفاقيات التطبيع التي أبرمها دونالد ترامب مع الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، اعتقدت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن أنها يمكن أن تقدم لإسرائيل الجائزة الأكبر على الإطلاق، وذلك بالتطبيع مع السعودية، على مبدأ سياسة الركائز الجديدة، بحيث يتم تمكين إسرائيل والسعودية عسكرياً واقتصادياً من أجل السيطرة على المنطقة بشكل مشترك في المستقبل المنظور.
تفاخر خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي بـ “ممر السلام والازدهار” الذي يربط آسيا وأوروبا من الإمارات إلى إسرائيل، وكانت قد انهارت في السابق جهود مماثلة لدعم السعودية وإيران، حيث كانت القوتان المزدوجتان في المنطقة خلال السبعينيات، ويبدو أن هذه النسخة الأخيرة من السياسة قد بنيت على أرضية أكثر هشاشة.
مع ذلك، ومع بداية أكتوبر الماضي، فقد تم فعلياً تطهير قضية فلسطين بالكامل من السياسة العربية، حيث أصبح محكوماً على الملايين من الفلسطينيين تحمل بؤس الحياة في معسكر الاعتقال في غزة أو الفصل العنصري والتطهير العرقي الجزئي في الضفة الغربية والقدس، ناهيك عن أجيال من الفلسطينيين في الشتات لا يعرفون وطنهم.
لقد أعادت أحداث 7 أكتوبر وحرب الإبادة الجماعية التي تلتها فلسطين على رأس جدول الأعمال الإقليمي، مما أثار إحباط الولايات المتحدة وإسرائيل وشركائهما العرب.
خيانة
لقد لعبت الدول العربية دورها جيداً من خلال تزويد إسرائيل بالدعم العسكري والاقتصادي، ولكنها مقابل ذلك، باتت تواجه الآن تحدياً أكبر بكثير من أجل شرعيتها الداخلية مما كانت عليه قبل هذه الحرب، فقد أعادت الأحداث الأخيرة فتح الأسئلة التي كانت مدفونة لفترة طويلة فيما يتعلق باحتمالات التعبئة الشعبية والتي قابلها المستبدون خلال سنوات بمزيد من القمع.
هذه لحظة تاريخية حاسمة للأجيال الجديدة ولا يمكن أن تُنسى، ففي حين أن الانتفاضات الماضية وأسبابها ربما تكون قد دُفنت تحت وطأة حملات القمع العنيفة والحروب الأهلية وعودة الاستبداد، إلا أن الشباب العربي اليوم يشهد هذه الإبادة الجماعية ودور نخبهم الحاكمة فيها، ومن المؤكد أن هذا سوف يساهم في تشكيل معتقداتهم الأساسية وخياراتهم السياسية لسنوات قادمة
في أواخر أكتوبر، عندما انحرفت مسيرة احتجاجية منظمة بعناية في القاهرة لدعم الفلسطينيين عن المسار الذي وافق عليه النظام وحاولت دخول ميدان التحرير، قامت قوات الأمن بتفريقها سريعاً ولم يسمح نظام السيسي بتنظيم أي احتجاجات منذ ذلك الحين.
أما في دول الخليج، فقد تم حظر التلويح بالأعلام الفلسطينية وارتداء الكوفية، حتى تم قمع الصلوات المقدمة لدعم الفلسطينيين من قبل الشرطة السعودية في مكة.
من جانب آخر، فقد أثارت مقاطع فيديو لشباب مغاربة يستمتعون بالحياة في الليلية الإسرائيلية ويشيدون بمضيفيهم غضباً جعل المغاربة يحملون النظام مسؤولية هذا المستوى من العرض.
الحقيقة أن الفجوة بين الحكام العرب وشعوبهم أكثر اتساعاً من أي وقت مضى، وهو وضع لا يمكن أن يستمر على المدى الطويل، فلحظة نقاش الإبادة الجماعية الواقعة في غزة ضمن المنطق النظام الليبرالي قد كشفت الأنظمة العربية أيضاً، فإذا ما اهتز النظام الليبرالي في جوهره على مستوى العالم، فسوف يكون لذلك أصداء هائلة في المنطقة، خاصة مع تفاقم الظروف الاجتماعية والاقتصادية وتفاقم الشعور بالإحباط والخيانة.
لحظة تاريخية للأجيال الجديدة
لقد أدت هذه اللحظة أيضاً إلى ظهور أسئلة حول الدور الذي من المتوقع أن تلعبه حركات المقاومة في مستقبل المنطقة، خاصة وأن الأنظمة العربية التي بذلت جهوداً كبيرة لفرض رؤية طائفية عميقة للسياسة الإقليمية لسنوات عديدة، قد أصبحت الآن في مأزق حول كيفية مواجهة الشعبية الجديدة التي اكتسبتها هذه الجماعات، حيث يُنظر إلى حزب الله في لبنان وأنصار الله في اليمن باعتبارهما الفاعلين الإقليميين الوحيدين المستعدين لتحدي العدوان العسكري الإسرائيلي.
الواقع أن الحسابات التي شكلت قرارات النخب الحاكمة في المنطقة قد تعرضت لتحديات لم يسبق لها مثيل، مما هيأ المنطقة إلى وضع أكثر خطورة وقابلاً للاشتعال في السنوات المقبلة، ويبدو أن استراتيجيتهم الوحيدة تتلخص في انتظار الوقت المناسب على أمل إمكانية استعادة النظام الذي كان قائماً قبل 7 أكتوبر.
الحقيقة أنه حتى لو واصلت السعودية خططها للتطبيع، فإنها سوف تتحالف مع دولة إسرائيلية ضعيفة تعاني من ناحية القدرات العسكرية وقد أفلتت من العقاب الدبلوماسي وتعرضت لهزائم غير مسبوقة، وفي الوقت نفسه، فإن الولايات المتحدة سوف تواجه مقاومة أكبر بكثير عند محاولتها السيطرة على هذا التحالف بسبب دورها في تسليح إسرائيل وحمايتها من المساءلة.
من ناحية أخرى، ونظراً للموت والدمار غير المسبوق تاريخياً في قطاع غزة، فإن فلسطين لن تختفي من الوعي الجمعي للمنطقة حتى لو تم محوها من الكتب المدرسية السعودية، فالمسائل المتعلقة بإعادة البناء وإعادة التوطين، فضلاً عن مسائل الحكم السياسي وتلبية احتياجات الناجين، سوف تظل محط اهتمام شعوب المنطقة للسنوات القادمة.
الأهم من ذلك كله هو أن هذه لحظة تاريخية حاسمة للأجيال الجديدة ولا يمكن أن تُنسى، ففي حين أن الانتفاضات الماضية وأسبابها ربما تكون قد دُفنت تحت وطأة حملات القمع العنيفة والحروب الأهلية وعودة الاستبداد، إلا أن الشباب العربي اليوم يشهد هذه الإبادة الجماعية ودور نخبهم الحاكمة فيها، ومن المؤكد أن هذا سوف يساهم في تشكيل معتقداتهم الأساسية وخياراتهم السياسية لسنوات قادمة.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)