بقلم إيلان بابيه
ترجمة وتحرير مريم الحمد
يقدم المؤرخ الإسرائيلي، إيلان بابيه، في مقالته توجهاً أكثر عقلانية نحو فهم النكبة وأبعادها ضمن السياق التاريخي وما حصل من وقائع على الأرض، على اعتبار أن الحركة الصهيونية كانت حركة استعمارية استيطانية قامت بممارسة تطهير عرقي ممنهج ضد الفلسطينيين، وفيما يلي نص المقال:
بعد الحرب العالمية الثانية، جلبت الأزمة الاقتصادية في بريطانيا حكومة عمالية إلى السلطة، كانت على استعداد لتقليص الإمبراطورية من أجل تلبية احتياجات شعبها الذي يعيش في الجزر البريطانية، وهنا ظهرت فلسطين كعبء على الحكومة المنتدبة وقتها، خاصة في ظل صراع محتدم بين الفلسطينيين السكان الأصليين والمستوطنين الصهاينة، الذين باتوا يقاتلون الانتداب البريطاني ويطالبون بإنهائه!
بدأت النكبة من اجتماع لمجلس الوزراء البريطاني في الأول من فبراير عام 1947، حيث عهدت بريطانيا إلى الأمم المتحدة، المنظمة الدولية عديمة الفائدة، بمصير فلسطين، في وقت كانت الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي قد بدأت فيه بالفعل، رغم ذلك، وافقت القوتان العظميان على السماح للدول الأعضاء الأخرى بتقديم حل لما أطلقوا عليه “قضية فلسطين” دون تدخل منهما.
أثار النقاش الذي دار في لجنة مكلفة في الأمم المتحدة، غضب الفلسطينيين والدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، فقد كانوا يتوقعون معاملة فلسطين ما بعد الانتداب بنفس الطريقة التي تم التعامل بها مع أي دولة منتدبة في المنطقة، بمعنى منحهم الاستقلال وحق تقرير المستقبل السياسي.
لم يكن أحد من العرب ليوافق على السماح للمستوطنين الأوروبيين في شمال إفريقيا بالمشاركة في تحديد مستقبل الدولة المستقلة حديثاً، وبالمثل، رفض الفلسطينيون فكرة أن الحركة الصهيونية، المكونة في الغالب من المستوطنين الذين وصلوا قبل عامين فقط من تعيين وكالة الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين “الأونروا” عام 1949، من الممكن أن يكون لها أي رأي في مستقبل وطنهم.
كما كان يخشى الفلسطينيون، اقترحت اللجنة إنشاء دولة يهودية على ما يقرب من نصف فلسطين كجزء من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 الصادر في 29 نوفمبر عام 1947، وقبلت القيادة الصهيونية بتقسيم فلسطين في ذلك الوقت، رغم أنها لم تكن تنوي الالتزام بذلك، لأنها ترى أن نصف السكان سيكونون من الفلسطينيين، وهذا سوف يسبب مشكلة لطموحات الحركة الصهيونية.
مخطط التطهير العرقي
منذ 30 عاماً، كشف المؤرخون ما يكفي من مواد أرشيفية إسرائيلية سرية فضحت الاستراتيجية التي اتبعتها الحركة الصهيونية خلال الفترة من نوفمبر 1947 إلى نهاية 1948، متمثلة بما تم وصفه بالتطهير العرقي لفلسطين.
ومع مرور الوقت، وكشف المزيد من الوثائق والمشاريع الفلسطينية لنقل التاريخ بشكل شفوي عبر شهود العيان، زاد التصاق مصطلح “التطهير العرقي” لوصف ما قامت به الحركة الصهيونية في تلك الفترة، الأمر الذي دعا الفلسطينيين إلى تسميتها بـالنكبة.
خلال العقد الأخير، تم إحياء المصطلح القديم الذي ارتبط بالصهيونية قديماً بوصفها حركة استعمارية استيطانية من قبل علماء التاريخ المهتمين بالتاريخ الفلسطيني، وهذا يفسر بوضوح لماذا لم تقبل القيادة الصهيونية تقسيم فلسطين، كأي حركة استعمارية استيطانية أخرى، كانت حركة الأوروبيين المنبوذين تبحث عن مكان لبناء حياة جديدة في مكان جديد حتى وإن كان يسكنه أناس آخرون.
الحقيقة أن ربع مليون فلسطيني كانوا قد أصبحوا بالفعل لاجئين قبل تاريخ 15 مايو عام 1948
ارتبط القضاء على السكان الأصليين بتلك الحركات كسمة لازمة، كما حصل في إبادة الأمريكيين السكان الأصليين لأمريكا الشمالية، فكان الحصول على أكبر قدر من المكان الجديد مع أقل عدد ممكن من السكان الأصليين موضوعاً مركزياً في أيديولوجية الحركة الصهيونية.
خلال الانتداب، لم يتمكن الصهاينة من الاستيلاء على ما كانوا يطمحون له من الأراضي، لم يملكوا إلا 6% من الأراضي الفلسطينية مع حلول عام 1948، إلا أنهم حرصوا على تطهير الأراضي التي اشتروها من المزارعين المحليين بموافقة السلطات البريطانية.
بدأت القيادة الصهيونية بالتخطيط للتطهير العرقي لفلسطين في فبراير من العام 1947، فبدأت بعمليات مبكرة رغم وجود سلطة الانتداب البريطاني، وبعد عام، في فبراير 1948، تسارعت عمليات التطهير ضد الفلسطينيين بدءاً من الإخلاء القسري ل3 قرى على الساحل بين يافا وحيفا، الأمر الذي نسف خطة التقسيم، فاقترحت وزارة الخارجية الأمريكية وصاية دولية على فلسطين من أجل إعطاء وقت لمزيد من المفاوضات.
حقائق على الأرض
كان أول ما حرصت عليه القيادة الصهيونية إثبات الحقائق على الأرض قبل انتهاء الانتداب بشكل رسمي في 15 مايو 1948، وذلك كان يتطلب تطهير الفلسطينيين من المناطق التي خصصتها الأمم المتحدة لليهود ومن أجل السيطرة على أكبر عدد ممكن من مدن فلسطين، حتى أن العالم كله انتظر حتى 15 مايو لإرسال أي مساعدة للفلسطينيين!
ظل الفلسطينيون فعلياً عزلاً منذ قرار التقسيم حتى انتهاء الانتداب الإنجليزي، الأمر الذي يشكل حقيقة تدحض الادعاء الرئيسي في الدعاية الإسرائيلية للحرب آنذاك، ومفادها أن “الفلسطينيين أصبحوا لاجئين لأن العالم العربي غزا فلسطين وأمرهم بالمغادرة”، خرافة لا يزال الكثير حول العالم يصدقونها حتى اليوم، لكن إن صحت الرواية هذه، لكان امتناع العرب عن مهاجمة إسرائيل سبباً في نجاة الفلسطينيين من مصير اللجوء!
هؤلاء الجنرالات أصبحوا السياسيين الذين قرروا الاستيلاء على الضفة الغربية عام 1967 لتعويض ما اعتبروه “خطأ” عدم احتلالها عام 1948
الحقيقة أن ربع مليون فلسطيني كانوا قد أصبحوا بالفعل لاجئين قبل تاريخ 15 مايو ذلك العام، وفي الوقت الذي أرسل فيه العالم العربي المتردد جيوشه كان جميع الفلسطينيين الذين يعيشون في حيفا ويافا قد تم إبعادهم بالقوة، كما تم إخلاء بلدات بيسان وصفد وعكا بالكامل، وفي المنطقة المحيطة بمنحدرات القدس، كان قد تم تطهير عشرات القرى عرقياً، كما حدث في دير ياسين في 9 نيسان 1948.
أفظع المجازر الإسرائيلية
لقد شكل دخول الجيوش العربية من مصر وسوريا ولبنان والأردن في مايو عام 1948، تحدياً خطيراً لدولة إسرائيل الجديدة، لكن في الوقت نفسه، كانت القوة العسكرية للمجتمع اليهودي قد زادت بشكل كبير، خاصة مع مساعدة الأسلحة التي تم شراؤها بموافقة السوفييت من تشيكوسلوفاكيا، ولذلك تمكنت القوات الإسرائيلية من مواجهة الجيوش العربية والاستمرار في التطهير ضد الفلسطينيين بذات الوقت.
سجلت منطقة الجليل الأعلى أفظع مجازر القوات الإسرائيلية، نظراً للمقاومة الشرسة من قبل الفلسطينيين لأنهم يعرفون مصيرهم، بالإضافة إلى إرهاق قوات الاحتلال.
في مجزرة الدوايمة التي وقعت بتاريخ 29 أكتوبر 1948 قرب الخليل، قُتل 455 فلسطينياً نصفهم من النساء والأطفال، فيما نجت منطقتان من فلسطين التاريخية من التطهير العرقي.
أما المنطقة التي باتت تُعرف باسم الضفة الغربية فتم السيطرة عليها من قبل القوات الأردنية والعراقية، حسب اتفاق ضمني بين إسرائيل والأردن على أن يشارك الأخير مشاركة عسكرية خجولة في المعركة لإنقاذ فلسطين، ومع الضغط الإسرائيلي، تنازل الأردن عن جزء مما كان من المفترض أن يكون من الضفة العربية، المنطقة التي تسمى وادي عارة وتربط بين البحر الأبيض المتوسط ومنطقة جنين.
شكل هذا الضم مشكلة لدولة استعمارية استيطانية مثل إسرائيل، فوجود المزيد من الأراضي يعني وجود المزيد من الفلسطينيين داخل الدولة اليهودية، ولذلك حصلت عمليات تطهير عرقي إضافية لتقليص عدد الفلسطينيين في وادي عارة.
لا يوجد طريق للحل سوى احترام حق العودة للاجئين الفلسطينيين وإقامة دولة واحدة على فلسطين التاريخية
أدى الارتباط بين الجغرافيا والديمغرافيا بهذا الشكل إلى رفض ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء إسرائيلي، ضغوط جنرالاته لاحتلال الضفة الغربية كاملة، ولكن هؤلاء الجنرالات أصبحوا السياسيين الذين قرروا الاستيلاء على الضفة الغربية عام 1967 لتعويض ما اعتبروه “خطأ” عدم احتلالها عام 1948.
النكبة المستمرة
تركت إسرائيل منطقة قطاع غزة خارج الاحتلال في النكبة، ليكون مستوعباً ضخماً لمئات اللاجئين الذين طردتهم من الأجزاء الجنوبية من فلسطين، وسمحت لمصر بالاحتفاظ بها كمنطقة عسكرية محتلة.
على أنقاض القرى الفلسطينية، قامت إسرائيل ببناء مستوطنات أو زراعة الحدائق، في محاولة لمحو أي أثر للثقافة والحياة والمجتمع الذي دمرته خلال عام، وأصبح نصف سكان فلسطين لاجئين بعد تدمير مئات القرى وتفكيك المدن.
لقد دمرت النكبة دولة وحياة وتطلعات الشعب الفلسطيني، وتم استثماررأس المال البشري الهائل الذي طوره المجتمع الفلسطيني، من خلال اللاجئين، في بلدان عربية أخرى، مما ساهم في تنميتها.
ومن جانب آخر،أرادت إسرائيل إيصال رسالة إلى العالم مفادها أن التطهير العرقي، الذي يعرفه الغرب جيداً، مقبول كتعويض عن الهولوكست وقرون معاداة السامية في أوروبا.
واصلت إسرائيل تطهيرها العرقي بعد عام 1967، عندما جلبت مساحة إضافية لأشخاص جدد غير مرغوبين، وهنا المقصود المستوطنات في الضفة والقدس الشرقية المستمرة حتى اليوم.
مقابل كل ذلك، يظهر الفلسطينيون صموداً ومقاومة مذهلة، رغم السنين الطويلة، ما لم تراجع إسرائيل حساباتها فسوف يستمر الاستعمار من جانب والنضال ضده من جانب آخر، فلا يوجد طريق للحل سوى احترام حق العودة للاجئين الفلسطينيين وإقامة دولة واحدة على فلسطين التاريخية على أساس الديمقراطية والمساواة وتعويض الأرض التي فُقدت بالحياة والوظائف في الدولة الجديدة وبمساعدة العالم.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)