بقلم أنتوني لوينشتاين
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
تخدم الحرب على الدوام الأعمال والنفوذ الجيوسياسي، فقبيل زيارة رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو إلى واشنطن في فبراير/شباط الماضي، وهي الأولى له منذ تنصيب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أطلق نتنياهو تصريحًا جريئًا حول الموقع الاستراتيجي لدولته في المنطقة.
في ذلك التصريح قال نتنياهو: “القرارات التي اتخذناها في الحرب منذ 7 أكتوبر 2023 غيّرت بالفعل وجه الشرق الأوسط، قراراتنا، وشجاعة جنودنا، أعادت رسم الخريطة، لكنني أعتقد أنه من خلال العمل عن كثب مع الرئيس ترامب، يمكننا إعادة رسمها بشكل أوسع”.
لكن، كيف يمكن تقييم هذه الخريطة الجديدة؟ إذ أن حماس لا تزال تنزف لكنها لم تُهزم في غزة، أما القطاع فهو مدمّر، وقد بات سكانه يفتقرون لأبسط مقومات الحياة، بينما يطاردهم الموت والجوع على حد سواء.
في لبنان، مُني حزب الله بخسائر عسكرية واختراقات استخباراتية، وهو يجد نفسه اليوم محاصرًا بقلة الخيارات الاستراتيجية، رغم أنه ما زال يمثل تهديداً، وقد صارت النخب السياسية اللبنانية تتحدث عن نزع سلاحه، لكن هذا الطرح يبقى بعيدًا عن التطبيق الواقعي.
وفي ساحة العلاقات الاقتصادية، استحوذت المغرب والبحرين والإمارات العربية المتحدة على 12% من صادرات الأسلحة التي توردها دولة الاحتلال، من إجمالي بلغ 14.8 مليار دولار في عام 2024، مقارنة بـ3% فقط في العام السابق، وهو ارتفاع لافت يعكس طبيعة التحالفات المتغيرة في المنطقة.
أما في اليمن، فلا تزال قوات الحوثيين تستهدف دولة الاحتلال، دون أن تمثل تهديدًا وجوديًا مباشراً لها.
وفي سوريا، ومنذ الإطاحة ببشار الأسد في أواخر 2024، صعّدت دولة الاحتلال من اعتداءاتها، في الوقت الذي تسعى فيه الحكومة السورية الجديدة إلى مغازلتها بغرض التطبيع، في مشهد يعكس تغيرًا تكتيكيًا في التوجه الإقليمي.
أما دول الخليج فمعظمها تواصل علاقتها الوثيقة بدولة الاحتلال دون أن يطرأ الكثير من التغيير خلال الأشهر العشرين الماضية على هذه الصيغة.
ومن المحتمل أن تُجبر السعودية، تحت ضغط التحالفات والمصالح، على توقيع اتفاق مع دولة الاحتلال في المستقبل، مقابل امتيازات تشمل الحصول على تكنولوجيا نووية ومبيعات أسلحة إلى هذه المملكة الديكتاتورية.
وفي الضفة الغربية، تتسارع خطوات الضم، وسط اعتراضات أوروبية باهتة لا تتعدى بيانات القلق، وها هو مشروع “إسرائيل الكبرى”، الذي يطمح إلى توسيع السيطرة الإقليمية، يتقدم بخطى ثابتة في سوريا ولبنان وربما أبعد من ذلك.
القوة الظاهرة والضعف الباطن
نظرياً وعلى الورق، يبدو أن دولة الاحتلال تعيش ذروة قوتها العسكرية، تتباهى بما تعتبره انتصارات لها وتراجعاً لأعدائها، غير أن الشعور العام بين الصهاينة المؤيدين للحرب، وكذلك بين قطاعات واسعة من اليهود في الشتات، ليس شعورًا بالنصر، بل قلق متزايد وشعور بالهزيمة المعنوية.
والواقع أن الخسارة الكبرى ليست في ميدان المعركة بل في ساحة الرأي العام العالمي، ذلك أن صور الإبادة اليومية في قطاع غزة أسهمت في تعرية دولة الاحتلال أمام ضمير العالم.
وما تسعى إليه دولة الاحتلال، وربما ما تحتاجه بشدة، ليس القوة فحسب، بل الشرعية، وهذه الشرعية مفقودة بدرجة مؤلمة في نظر الغالبية الساحقة من شعوب العالم.
ولأجل هذا، تنفق دولة الاحتلال هذا العام ما لا يقل عن 150 مليون دولار على ما يسمى “الدبلوماسية العامة”، وهو غطاء لحملات دعائية تحشد مؤثرين وشخصيات إعلامية، يتم استضافتهم في تل أبيب، في مسعى يائس لتجميل وجه “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”.
وحتى الأصوات الصحفية الموالية بدأت تتساءل عن جدوى هذه المصاريف، مطالبة بمقاربة أكثر فاعلية واستجابة.
تفوق يهودي مسموم
موقف الغالبية من اليهود في دولة الاحتلال يكشف عن تحول خطير، إذ أبدى عدد كبير منهم دعمًا صريحًا لسياسات التطهير العرقي والإبادة الجماعية ضد غزة، وهذا التصاعد في الفاشية يُغذى بخطاب متطرف تروّج له وسائل الإعلام السائدة داخل دولة الاحتلال.
وفي الحقيقة فإنه لا يوجد بلد غربي آخر تشهد فيه الخطابات العنصرية والدعوات للإبادة مثل هذه الشرعية الواسعة والانتشار الشعبي كما هو عليه الحال في الدولة العبرية.
إذ وبحسب استطلاع أجري مؤخرًا في أوروبا الغربية، فإن نظرة الشعوب إلى دولة الاحتلال سلبية في دول مثل ألمانيا، الدنمارك، فرنسا، إيطاليا، وإسبانيا، ولا تتعدى نسبة المؤيدين لإجراءات دولة الاحتلال في هذه البلدان نسبة 13% إلى 21%، مقابل أغلبية تتراوح بين 63% و70% يحملون آراء مناهضة لها.
أما على الصعيد العالمي، فبحسب استطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث الأمريكي في 24 دولة، عبّر ما لا يقل عن نصف المشاركين في 20 من هذه الدول عن موقف سلبي تجاه دولة الاحتلال.
هل يمكن الاندماج في المنطقة؟
لكن وراء كل هذه الأرقام يكمن سؤال جوهري: هل من الممكن لدولة الاحتلال أن تُدمج يومًا ما بشكل طبيعي في منظومة الشرق الأوسط؟
بعيدًا عن الأنظمة الملكية والنخب الحاكمة من دبي إلى الرياض ومن المنامة إلى الرباط، فإن الجرائم الوحشية والإبادة الجماعية التي ارتكبتها دولة الاحتلال منذ 7 أكتوبر 2023، جعلت من فكرة التطبيع أمرًا أخلاقيًا وسياسيًا مستحيلًا، على الأقل في وعي الشعوب.
صحيح أن معظم أنظمة الحكم في المنطقة غير ديمقراطية، وتعيش انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، لكن دولة الاحتلال لطالما ادّعت التميّز بأنها “الديمقراطية الوحيدة” في المحيط العربي.
لكن هذا النظام السياسي، المبني على دعم غربي ضخم وهيكلية تفوّق عرقي، لا يتيح لها الاندماج الكامل في الإقليم، بل يضعها في مواجهة دائمة مع شعوب المنطقة.
نقطة تحوّل لا رجعة فيها
الصحفي الأمريكي مرتضى حسين كتب مؤخرًا في موقع Drop Site News مقالًا تحليليًا ثاقبًا أشار فيه إلى أن الإبادة في غزة شكّلت نقطة تحوّل لا يمكن التراجع عنها، ولا يمكن التعامل معها كأزمة عابرة أو ظرفية.
وفي هذا المقال قال حسين: “هذه الإبادة الجماعية كانت نقطة تحول سياسية وثقافية لا يمكننا بعدها الاستمرار كما كنا في السابق، وأعبر عن ذلك بقبول وليس برضا، لأن ذلك يعني أن أجيالاً عديدة من المعاناة تنتظرنا من جميع الجهات”.
لكنه دعا إلى تجاوز الانتقام أو الكراهية المجردة، مشددًا على أهمية بناء علاقات مع المعارضين في داخل دولة الاحتلال والعمل معًا على مهمة تاريخية لإعادة بناء نموذج سياسي عادل.
ما بعد نتنياهو
المسألة ليست محصورة في نتنياهو وحده، فجميع خلفائه المحتملين يتبنون رؤى متطرفة مماثلة، سواء في ما يتعلق بحقوق الفلسطينيين أو حقهم في تقرير المصير.
التحدي التاريخي الذي يواجه المنطقة لا يقتصر على إسقاط نظام سياسي، بل يتطلب بناء بديل جذري للنموذج الثيوقراطي اليهودي القائم حاليًا.
لكن المعركة لا تجري فقط في الشرق الأوسط، فهناك جبهة مهمة في الغرب، حيث ما يزال هناك عدد كبير من اليهود، المحافظين، والمسيحيين الإنجيليين الذين يتشبثون برؤية استعمارية تشرّع محو العرب، أو إسكاتهم، أو تهجيرهم من أرضهم.
مقاومة هذه الفاشية ليست خيارًا، بل ضرورة أخلاقية، وهي من بين أكثر المهام التاريخية إلحاحًا لجيلنا في هذه اللحظة المفصلية.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)