ديفيد هيرست يودّع رفيق دربه: صوت الحقيقة الذي لم يخفت رغم القصف

بقلم ديفيد هيرست
ترجمة وتحرير نجاح خاطر

أنظر إلى الأيام التي عمل فيها الزميل ديفيد هيرست – الذي رحل عن عالمنا يوم الاثنين عن عمر ناهز الـ 89 عامًا – وقد كان محررًا مميزًا لشؤون الشرق الأوسط في صحيفة الغارديان البريطانية، بشيء من الحنين.

ففي تلك الحقبة، كانت الصحيفة تُعطي وزنًا حقيقيًا للرأي غير الغربي، وتهتم بعمق بقضايا الشرق الأوسط والأخبار الخارجية عمومًا، آنذاك كان للصحيفة مراسل دائم في بيروت، واثنان في القدس، ومراسلون متعاونون في كل عاصمة عربية تقريبًا، وكان مكتب الشؤون الخارجية يحظى بفريق تحرير متخصص.

لكن الغارديان كانت أيضًا مليئة بالغرائب والعجائب، فقد كانت صحيفة كُتّاب، حيث يفرض المراسلون أجندتهم على قسم الأخبار، وليس العكس كما هو الحال اليوم، مراسلها في باريس مثلاً كان يرفض تركيب خط هاتف، ما جعله عصيًّا على التواصل، وآخرون كانوا يتأخرون في إرسال تقاريرهم لأسابيع.

وكانت مطبعة الصحيفة في شارع “جريز إن” غريز إن رود بلندن كثيرة الأعطال لدرجة أن الصحيفة اكتسبت لقب “The Grauniad” بسبب كثرة الأخطاء المطبعية.

وكان لها كذلك عادة أخرى غريبة وهي توظيف صحفيين بأسماء متطابقة، كان هناك بول ويبستر في باريس، وبول ويبستر آخر رئيسًا للقسم الخارجي، وكان هناك أيضًا اثنان يحملان اسم ديفيد هيرست – على الأقل كما بدا الأمر للقارئ العربي في هذا المقال.

التمييز بين الـ ”هيرستين”

أطلقت على زميلي المرموق لقب “هيرست الحقيقي”، فهو صاحب المؤلف المرجعي “البندقية وغصن الزيتون”، العربي الهوى، الذي نجا مرتين من محاولات اختطاف في بيروت أثناء الحرب الأهلية، وكشف حصريًا عن مجزرة حماة على يد حافظ الأسد، وعن استخدام صدام حسين للغازات السامة ضد الأكراد في حلبجة.

أما أنا، فكنت الشاب المتحمس قليل الخبرة، عائلتي كانت تحمل اسم “هيرشترِيت” قبل أن تغيّره على عجل عام 1943، على متن فرقاطة بريطانية متجهة إلى سواحل ساليرنو الإيطالية خلال الحرب العالمية الثانية.

حينها قال قائد بريطاني لوالدي – وهو ضابط يهودي نمساوي – إن الجيش لا يمكن أن يخوض معركة تحت إمرة ضابط يحمل اسمًا ألمانيًا، شعر والدي بالإهانة مرتين: كيهودي، وكجندي مخلص، فاختار أن يغيّر الاسم إلى “هيرست” ليختلف عن حشود “الهِرست” و”الهارست” المنتشرين في بريطانيا.

ولأجل ألا أضرّ بسمعة زميلي المرموق – الذي لم يقترف أي ذنب – اخترت أن أبتعد عن الشرق الأوسط لأتخصص في دراسة روسيا، لكن الشرق الأوسط، كعادته، شدّني إليه بقوة لا تُقاوَم، وهكذا، تمامًا كما في رواية Scoop لإيفلين ووه، اختلطت شخصيتانا نحن الاثنين في أذهان كثير من القراء.

كنت أتلقى شيكات البي بي سي المرسلة لزميلي، وأذكر أن دبلوماسيًا إيرانيًا رفض أن يصدق – بعد 90 دقيقة من الإنكار – أنني لم أتعرض لمحاولة خطف في بيروت، بل كاد يجتمع جمهور من المعجبين في أوتاوا يحملون نسخًا من كتاب البندقية وغصن الزيتون لطلب توقيعي، لولا أنني استوعبت الموقف في اللحظة الأخيرة، ومع ظهور الإنترنت، تعقد هذا “التشابه المربك في الأسماء” أكثر.

تراجع الغارديان

التقينا أنا وهيرست الحقيقي بشكل عابر في أواخر مسيرته في الغارديان، والتي تزامنت أيضًا مع نهاية عملي هناك، ففي بريطانيا تحت حكم بلير (التسعينيات وبداية الألفية الجديدة)، قررت الصحيفة أن تدير ظهرها لليسار والنقابات وجذورها المانشستريّة غير التقليدية، وأن تتجه إلى أمريكا بحثًا عن أفق أوسع.

لكن التجربة فشلت، فالإعلام الليبرالي الأمريكي لم يكن بحاجة لصحيفة بريطانية تخبره كيف يصوّت. وبعد محاولات متكررة للتمركز على الساحل الشرقي، وجدت الغارديان نفسها عالقة في منتصف الأطلسي، مثلها مثل بلير نفسه.
بالنتيجة، واجه هيرست صعوبة في نشر مقالاته في الصحيفة التي كتب لها أربعة عقود، مقالاته الطويلة، ذات الطابع التحليلي، كانت تنتقل بين قسم الشؤون الخارجية وقسم التحقيقات ككرة نار لا يريد أحد الإمساك بها.

هذا كان ظلمًا كبيرًا، لأن مقالاته كانت أعمالًا فكرية وصحفية لامعة، حتى لو لم تتناسب مع قالب الصحيفة الجديد ذي المساحة المحدودة. جُمله الطويلة كانت محكمة بشكل لا يترك مجالاً لأي محرر ليمسّ فاصلة.
هيرست كان من جيل الصحفيين الذين لا يخشون الرأي العام ولا الموضة ولا الخطاب السائد.

البندقية وغصن الزيتون

كان كتابه المرجعي “البندقية وغصن الزيتون: جذور العنف في الشرق الأوسط” إدانة صارخة للمشروع الصهيوني باعتباره مشروعًا استعماريًا استيطانيًا. وقد نُشر عام 1977، في توقيت كان الأسوأ لأي عمل كهذا، حين زار الرئيس المصري أنور السادات القدس، والعالم بأسره يعيش نشوة “السلام الوشيك”.

لكن هيرست كان من القلة التي اختارت المعارضة، فقد هاجمت معظم الصحف كتابه، ومن القليل الذي تجرأ على مراجعته صحيفة واشنطن بوست، التي وصفته بأنه “نشيج اتهامات وسط أنغام نشيد الأمل”.

أما مجلة “ذا نيو ريببلك” الأمريكية فقد اعتبرته “أكثر الكتب عداءً لدولة الاحتلال مما نُشر يومًا بالإنجليزية من كاتب يُفترض أنه محلل جاد”.

في المقابل، عندما نشرت جوان بيترز كتابها “منذ الأزل” الذي زعمت فيه أن الفلسطينيين ليسوا سكانًا أصليين بل مثلهم مثل المهاجرين الصهاينة، قوبل عملها بالاحتفاء ووُصف بأنه قد “يغير جذريًا مجمل النقاش حول فلسطين”.
أما مارتن بيريتس، رئيس تحرير مجلة “ذا نيو ريببلك” آنذاك، فقال عن كتابها: “سيغيّر وعي جيلنا. وإذا فُهِم كما يجب، فقد يغيّر مستقبل التاريخ أيضًا”.

لكن كما نرى اليوم، لم يتغير شيء يُذكر، بينما أخذ كتاب هيرست يترسخ أكثر، ومع كل طبعة جديدة، تضاعفت قيمته الفكرية وحضوره السياسي.

الذاكرة الممزقة تحت القصف

لا يقتصر الأمر على فقدان المنازل كمجرد جدران تُهدم، بل هو فقدان للذاكرة والمكان والرمزية، حيث إن البيت في غزة، ليس بحجارة فقط، وإنما هو أرشيف حياة كاملة، صور معلّقة على الحائط، مكتبة صغيرة تضم كتباً جمعت على مدى سنوات، رائحة القهوة في الصباح، وملامح الأطفال وهم يركضون بين الغرف، كل ذلك يُمحى في لحظة بصاروخ من أحد طائرات الاحتلال.

وصف أحد الصحفيين رحيله عن بيته بأنه “رحيل عن نفسه”، كان يجلس في غرفة مكتبه حين دوى الانفجار في الحيّ، فأُجبر على حزم ما تيسّر من أوراق وكاميرا متهالكة قبل أن يغادر، وقال: “لم آخذ شيئاً يساوي ثمن ذاكرتي التي تركتها خلف الباب”، هذه العبارة تُلخص مأساة مئات الصحفيين والكتّاب الذين يودّعون بيوتهم على وقع هدير الطائرات.

استهداف الكلمة الحرة

ما يجري ليس عارضاً، بل سياسة ممنهجة من دولة الاحتلال تهدف إلى إسكات الصوت الفلسطيني، فالقصف لا يميز بين بيت صحفي أو ناشط أو طبيب، لكنه حين يطال أقلام الحقيقة، يصبح جزءاً من معركة واضحة ضد الكلمة، إذ قال أحد المراسلين المخضرمين: “الاحتلال يدرك أن ما نكتبه أخطر من أي سلاح، لذلك يقصف بيوتنا قبل أن يقصف أجسادنا”.

في ظل هذا الواقع، يجد الصحفي نفسه أمام معادلة قاسية: إما أن يحمي عائلته بالرحيل القسري، أو أن يبقى ويواجه خطر الموت تحت الركام، ومع ذلك، يصرّ معظمهم على الاستمرار في عملهم رغم خسارتهم لمنازلهم، ومرة أحدهم قال: “سأكتب حتى لو كنت أنام في الشارع، فالكلمة بيتنا الأخير”.

غزة مدينة الشهداء والناجين 

وسط هذا المشهد، تتحول غزة شيئاً فشيئاً إلى مدينة مزدوجة: مدينة للشهداء الذين ارتقوا دفاعاً عن الحق والحياة، ومدينة للناجين الذين يحملون جراحهم ويواصلون السرد، الناجي هنا ليس شخصاً عادياً، بل شاهد على جريمة، وناقل لرسالة، الصحفي الذي يفقد منزله ويواصل الكتابة، يضيف إلى النص الفلسطيني بعداً جديداً: بعد المقاومة بالقلم والذاكرة.

غزة اليوم لا تودّع بيوتها فقط، بل تودّع جزءاً من ذاتها في كل مرة ينهار فيها جدار أو يتطاير سقف، ومع ذلك، تبقى هذه المدينة عصية على الاستسلام، لأنها ببساطة تعرف أن الحكاية لم تنتهِ، وأن السرد لم يُكمل فصوله الأخيرة بعد.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة