ذعر بلا دليل: لماذا تُعاد شيطنة “الإخوان المسلمين” في بريطانيا؟

بقلم مصطفى الدبّاغ

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

هناك نمط مألوف في السياسة يتمثل في أنه حين يُصبح الواقع معقّداً إلى حدّ يعجز معه المسؤولون عن مواجهته بصدق، فإنهم يبحثون عن طرق مختصرة للتعامل معه.

وفي بريطانيا، يبدو أن الجلبة المتجددة اليوم حول احتمال حظر جماعة الإخوان المسلمين ليست سوى امتداداً لهذا النمط، إذ تفضّل الحكومة مجدداً الارتماء في فخّ الشيطنة بدل الانخراط في فهم حقيقي للحياة المدنية للمسلمين.

فقد أعلن رئيس الوزراء كير ستارمر أن الحكومة “تُبقي الملف قيد المراجعة الدقيقة”، وفي مجلس العموم، عندما سأل النائب عن حزب الإصلاح البريطاني ريتشارد تايس وزيرة الخارجية يفيت كوبر عمّا إذا كانت ستدفع نحو حظر مباشر، تحدّثت عن “مخاوف من دور محتمل للجماعة في تأجيج التطرّف خارج البلاد”. 

تلقي هذه التعليقات ظلال التهديد دون أن تسندها أدلة، وتغذّي شعوراً عاماً بأن هناك خطراً ما، حتى لو لم يُقدَّم أي أساس واقعي حول ذلك.

لقد مررنا بهذا من قبل، ففي عام 2015، أجرت الحكومة البريطانية مراجعة رسمية شاملة لفكر الجماعة وأنشطتها ووجودها داخل البلاد، ولم تُوصِ المراجعة حينها بالحظر ولم تجد أساساً قانونياً أو أمنياً له. 

كانت تلك حكومة محافظة، لديها كل الدوافع السياسية لتبدو “صارمة”، وإذا لم يكن الدليل موجوداً آنذاك، فمن الصعب إيجاد  شيء قد تغيّر اليوم.

المشكلة أنّ مصطلح “الإخوان المسلمين” بات يُستخدم اليوم كملصق فضفاض يُعلّق على أي مؤسسة إسلامية لا تروق لحكومات أجنبية نافذة، أو يجد فيه بعض السياسيين المحليين فريسة سهلة للهجوم.

وللتوضيح، ليس الهدف هنا الدفاع عن الجماعة، فهي حركة واسعة متعددة التجارب والأخطاء، كبقية الحركات السياسية والدينية الممتدة عبر عقود وخطوط جغرافيا. 

لكنّ ما يحدث اليوم يتجاوز النقد الموضوعي إلى تحويل الجماعة إلى فزّاعة جاهزة تستدعيها جهات خارجية وساسة محليون حين يشاؤون، دون مراعاة أثر ذلك على المسلمين في بريطانيا.

ضغط خارجي يوجّه الداخل

أعلى الأصوات المطالِبة بحظر الإخوان ليست أجهزة الأمن البريطانية، بل أنظمة استبدادية عربية، وعلى رأسها الإمارات، التي تُنفق منذ سنوات مبالغ طائلة لتصدير معاركها السياسية عبر حملات تشويه دولية.

ففي العام 2023، كشف تحقيق موسّع لمجلّة نيويوركر مدعوم بوثائق قضائية أنّ الإمارات موّلت شركة استخبارات خاصة في سويسرا لتشغيل حملات تضليل تصف منتقدين ـ بل وحتى شركات صغيرة ـ بأنهم “واجهات للإخوان”.

لقد زرعت الحملة روايات إعلامية، وحرّرت صفحات ويكيبيديا، ومرّرت “تحقيقات” للبنوك، بهدف تجفيف الموارد المالية للضحايا ووضعهم تحت خانة الإرهاب.

وقد تسرب هذا الخطاب بسهولة إلى بعض دوائر السياسة البريطانية، حيث باتت الاتهامات تُطلَق جزافاً وتُكرَّر بلا تمحيص.

فهذا وزير سابق مثل مايكل غوف، وهو محميٌّ بحصانة البرلمان، ادّعى أن “منظمة الجمعية الإسلامية في بريطانيا هي الفرع المحلي للإخوان المسلمين”، ورغم أن الادعاء خاطئ، لكن مجرد ذكره في البرلمان يحوّله فجأة إلى “حقيقة” يتم تداولها.

حتى هيئة الإغاثة الإسلامية، إحدى أكبر المنظمات الإنسانية في العالم، تعرّضت لنوع مشابه من التشويه رغم اجتيازها كل اختبارات الشفافية والرقابة البريطانية. 

وفي 3 ديسمبر/كانون الأول، أكد هذا المسار مجدداً، إذ اعتذرت قناة GB News ودفعَت “تعويضات كبيرة” بعد بثّ مزاعم منسوبة لمدوّن إماراتي تتهم المنظمة بتمويل “الإرهاب”. 

أزالت القناة المقطع واعترفت بأن الادعاء غير صحيح، وبالنسبة لمؤسسة فقدت موظفين كانوا يؤدون مهام إنسانية في مناطق نزاع، فمثل هذه الاتهامات ليست مجرّد طعن سياسي، بل خطر حقيقي على حياة العاملين.

تضخيم داخلي يعيد إنتاج التحريض

غير أن الضغط الخارجي لا يعمل وحده، بل يندمج بسلاسة مع حلقة محلية من الإسلاموفوبيا تتغذى على نفسها، فبعد أسبوعين فقط من تعيين ألان مندوزا، مدير جمعية هنري جاكسون المثيرة للجدل، مستشاراً للشؤون العالمية في حزب الإصلاح البريطاني، وقف تايس في البرلمان ليسأل عن حظر الإخوان في توقيت لم يكن عفوياً.

ذلك أن الجمعية نفسها وُصِفت على لسان أحد مؤسسيها بأنها “حيوان مشوّه” و”منظمة عنصرية”، بينما تتهمها منظمات مدنية إسلامية بإنتاج رواية متواصلة تزعم أن أي نشاط مدني مسلم هو تهديد “إسلامي”.

وهكذا تدور الحلقة، مراكز أبحاث تروّج لفكرة أن المسلمين المنظمين يمثلون تهديداً، ثم أحزاب يمينية تستند إلى هذا الخطاب لطلب الحظر، فتأتي الحكومة لتقول إنها “تدرس الأمر”، ويُستخدم ذلك دليلاً إضافياً على وجود مشكلة تستوجب المزيد من الضغط، إنها حقاً دائرة مغلقة من الادعاءات التي تُغذّي ذاتها.

تهديد مصطنع بلا مضمون

عندما يُمطّ مصطلح “الإخوان المسلمين” ليشمل أي شخصية أو مسجد أو منظمة إسلامية، يفقد معناه ويتحوّل إلى سلاح سياسي، وعندها يصبح مجرد علاقة أو تصريح أو إلهام ديني سبباً للاشتباه.
هذه هي المعضلة، فخطوة بعد أخرى، يُعامَل النسيج المدني للمسلمين في بريطانيا وكأنه شبكة سرية متطرفة، رغم أن ما يجري لا يختلف كثيراً عن الأساطير القديمة التي اتهمت الجاليات اليهودية في أوروبا بإدارة مؤامرات عالمية، تلك السرديات التي نراها اليوم في صيغة إسلاموفوبية معاصرة لا تقل خطورة عن سالفاتها.

والنتيجة أن بريطانيا تنزلق نحو سياسة تُبنى على مخاوف أنظمة استبدادية وحسابات اليمين المتطرف المحلي، أكثر من اعتمادها على أدلة أو تقييمات أمنية حقيقية.

لن يجعل حظر الإخوان بريطانيا أكثر أمناً، لكنه سيمنح أصحاب النوايا السيئة أداة قوية لتشويه منظمات مدنية وخيرية تقدّم خدمات ضرورية للمجتمعات المسلمة وغير المسلمة على حد سواء. أما السؤال الحقيقي فيبقى: من يحق له أن يُمثّل المسلمين؟ والواقع أن المسألة لم تعد ما إذا كانت بريطانيا سوف تحظر الإخوان أم لا، بل كيف ستعرّف مشاركة المسلمين في المجال العام خلال السنوات المقبلة. فإذا كانت الحكومة جادة في مواجهة التطرّف، فعليها أن تعمل مع المجتمعات الأكثر تأثراً به، لا أن تجرّمها، وإن كانت تؤمن فعلاً بسيادة القانون، فعليها أن ترفض اختصارات سياسية تُحوّل خصومات الخليج وأكاذيب اليمين إلى مطاردة ساحرات داخلية.

بريطانيا لا تحتاج حظراً جديداً، بل تحتاج شجاعة سياسية تُجنّبها الذعر المصنّع، وتحصّنها من تدخلات الحلفاء السلطويين ومن تجار الكراهية، وتحمي مجتمعها المدني بدل جعله وقوداً لصراعات لا تخصّه.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة