ذكريات مجزرة.. وثائقي يُعرض في بريطانيا حول رابعة والثورة والانقلاب

بقلم شفيق مندهاي

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

تصفها صديقتها بالفراشة التي حلقت بعيدًا “دون أن تقول وداعاً”، في تشبيه مناسب لآخر لحظات أسماء البلتاجي، حيث تفارق الحياة على أرض المستشفى، وتُغلق عيناها بهدوء بينما يحاول المتظاهرون المذعورون والمسعفون إنقاذ حياتها.

في السابعة عشرة من عمرها فقط، أصبحت أسماء واحدة من مئات الأشخاص الذين أطلق عليهم النار برصاص القناصة، وتم حرقهم وسحقهم بالجرافات في عملية قتل جماعي ارتكبتها قوات الأمن المصرية صباح يوم 14 آب/ أغسطس 2013.

تم التقاط مشهد نهاية الشابة بالكاميرا ليخلُد في الفيلم الوثائقي “ذكريات مجزرة” لـ نيكي بولستر، في مشهد مؤثر بشكل لا يصدق.

لطالما أثبتت جماعات ونشطاء حقوق الإنسان الحقائق حول أسوأ مذبحة في تاريخ مصر الحديث، والتي أسفرت عن مقتل حوالي ألف شخص.

كانت مذبحة رابعة أيضًا واحدة من أكثر الأعمال الوحشية الموثقة بصريًا في التاريخ الحديث، مع الصور ومقاطع الفيديو التي التقطت المدى الكامل تقريبًا للدمار والجريمة. 

تُظهر تلك المقاطع المساجد مزدحمة بالجثث، والمتظاهرين ينتحبون وهم يسحبون جثثًا ملطخة بالدماء، ومشهد القناصين المتمركزين على أسطح المنازل دون أدنى محاولة لإخفاء مواقعهم وهم ينتقون أهدافهم ببرود قائل.

على الرغم من مجموعة الأدلة هذه، فإن فيلم بلوستر الوثائقي، الذي يصادف الذكرى السنوية العاشرة لعمليات القتل، هو شهادة نادرة باللغة الإنجليزية على المذبحة، والتي على الرغم من العدد الكبير للضحايا، إلا أنه لم يقترب من شهرة عمليات القتل الأخرى المماثلة، مثل مذبحة ميدان تيانانمين.

في فيلمها، الذي أنتجته Noon Films، تصنع المخرجة المخضرمة التي شحذت حرفتها بإنتاجات لقناة BBC و ITN و Netflix و Apple TV، من بين قنوات أخرى، سردًا يضع بشجاعة مذبحة رابعة باعتبارها الفصل الختامي لعملية الثورة المضادة بقيادة الجيش المصري بعد سقوط الرئيس المصري الأسبق مبارك في كانون الثاني/ يناير 2011.

من الأمل إلى الانقلاب

ينقسم النصف الأول بشكل فعال إلى جزأين، حيث ينظر النصف الأول إلى تداعيات ثورة 25 يناير وروح الأمل التي ولدت فيها.

إن أجواء المهرجان والتقاء المصريين من جميع مناحي الحياة كانت أحداثاً مألوفة لأي شخص قضى وقتًا في ميدان التحرير في أعقاب سقوط مبارك.

خلال هذه الفترة، كرست البنية التنظيمية للإخوان المسلمين جهودها للعمل استعدادًا لأول انتخابات رئاسية ديمقراطية في البلاد.

وعلى الرغم من كونه شخصية غير معروفة في بداية حملته الانتخابية، تمكن مرشحهم الأكاديمي محمد مرسي بالفوز بفارق ضئيل في المنافسة ليصبح أول زعيم منتخب بحرية في البلاد.

كانت مهمة مرسي هائلة، فبينما تولى السيطرة على أكثر المؤسسات احترامًا في البلاد، ظلت السلطة الفعلية بيد الجيش.

وهدد نقص الوقود والمخاوف من سيطرة الإسلاميين، قبضة الرئيس الجديد على السلطة وقوضت وعده بفجر جديد لجميع المصريين.

وكان مرسي يأمل في التخفيف من خطر الانقلاب العسكري من خلال تعيين اللواء عبد الفتاح السيسي وزيراً للدفاع.

لكن السيسي كان ينتظر لحظته، ولعب على الجانبين إلى أن أدت الاحتجاجات الجماهيرية التي نظمتها حركة “التمرد” إلى تعطل ميدان التحرير مرة أخرى.

وبزعم “الانحياز إلى الشعب”، اتخذ السيسي خطوته في أواخر حزيران/ يونيو 2013، أولاً في شكل إنذار أخير للرئيس للتوصل إلى حل وسط مع المتظاهرين ثم خلع مرسي.

تميز الشهر الفاصل بين الانقلاب والمذبحة بمحاولات عقيمة من قبل الوسطاء الغربيين للتوصل إلى اتفاق سياسي بين مؤيدي مرسي والحكام العسكريين الجدد في مصر.

وفي غضون ذلك، تجمع محتجون يطالبون بإعادة مرسي في ميدان رابعة العدوية بالقاهرة حيث اعتصموا رافضين المغادرة حتى تلبية مطالبهم.

المجزرة

أحد الإنجازات البارزة لبولستر هو التمكن من نقل “مسألة الواقعية” التي نفذت بها السلطات المصرية المجزرة.

وفي خطاب سبق عمليات القتل، ظهر السيسي مرتدياً نظارات شمسية على غرار بينوشيه ليعلن تنظيف الساحة.

وفي اليوم نفسه، ظهرت القوات المصرية بالجرافات والمدرعات، معلنة، في محاولة فاترة لتجنب المجزرة الوشيكة، عزمها على تطهير المنطقة عبر مكبرات الصوت الذي لم تكن لتسمعه الغالبية العظمى من المتظاهرين في الاعتصام، حيث بدأ إطلاق النار في غضون دقائق.

تتميز اللقطات التي تضمنتها المخرجة، وخاصة الجنود المصريين الذين يختارون أهدافهم من فوق أسطح المنازل، بهدوء مزعج له قواسم مشتركة مع الجنود الموجودين في ميدان الرماية أكثر من كونه جزءاً من عملية لمكافحة الإرهاب.

هذه “المسألة الواقعية” تجد مرآة مأساوية بين ضحايا رصاصات القناصة تلك، التي تم التماسها في التعبير السريالي على وجه أسماء البلتاجي في لحظاتها الأخيرة، كما لو أنها قبلت حتمية وفاتها كما حدث مع مصور سكاي نيوز، ميك دين، وهو يقول لزميله، كريج سمرز، “لقد تم إطلاق النار علي”.

إن هذا الإحساس بالقسوة النابع من الجناة وتناقضه مع التسليم الهادئ لضحايا المجزرة هو الذي يترك في المشاهد بصمة أعمق من صور الدم والدمار التي لا مفر منها.

موت الثورة

بالرغم من فعاليتها في العمل كسجلٍ الفظائع التي ارتكبت في رابعة، إلا أن “ذكريات مجزرة” هي أيضًا أكثر من مجرد سرد وقائع لعمليات القتل، إذ ترتبط روايتها بقصة موت الديمقراطية المصرية نفسها.

أفسحت الآمال بمصر جديدة بعد ثورة 25 يناير الطريق لنظام أكثر وحشية وقمعًا من النظام الذي أطاحت به انتفاضة 2011، حيث واجه المصريون في ظل نجاح انقلاب السيسي نظامًا عسكريًا قويًا ومتجددًا عُرف بأنه يستطيع اتخاذ إجراءات وحشية ضد شعبه دون عقاب.

في الفيلم الوثائقي، ينضم بن رودس، المسؤول السابق في إدارة أوباما، إلى قائمة رائعة من المتحدثين، بما في ذلك مراسل صحيفة نيويورك تايمز ديفيد دي كيركباتريك، والمديرة السابقة لـ هيومن رايتس ووتش سارة ليا ويتسن، ومصعب الشامي في وكالة أسوشيتيد برس، إلى جانب أصدقاء وأفراد عائلات الضحايا.

بينما تقدم جميع الشخصيات وجهات نظر ورؤى مهمة، يلخص نائب مستشار الأمن القومي السابق للرئيس السابق أوباما النتيجة التي توقعها السيسي ومخططو الانقلاب بشكل صحيح، بأنه لن تكون هناك معارضة أمريكية للإطاحة بمرسي.

يتذكر رودس المجزرة النهائية في ميدان رابعة ويقول: “لقد كانت واحدة من أكثر التجارب المخيبة للآمال، والمثيرة للكآبة، والغضب لأننا كحكومة اتخذنا قرارًا بأننا لن نتراجع عن حقيقة هذا الانقلاب، والآن نشهد أكثر عواقبه حدة”.

وبالفعل، فإن إحساس السيسي بالإفلات من العقاب لم يختف في رابعة، فبعد عقد من الزمان، لا يزال عشرات الآلاف من المصريين في زنازين السجن، حيث يتم احتجازهم دون أي محاكمة عادلة أو حتى إدانة.

وكان من بين هؤلاء الرئيس المصري السابق محمد مرسي، الذي توفي في المحكمة في 17 حزيران/ يونيو 2019 أثناء محاكمته بتهمة التجسس.

وسوف تستضيف EgyptWatch العرض الأول لفيلم ذكريات مجزرة في الأكاديمية البريطانية لفنون السينما والتلفزيون بلندن في 3 آب/ أغسطس 2023.

للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة