بقلم ماجد مندور
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
خلال الخريف الماضي، ألقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خطاباً في العاصمة الإدارية الجديدة في القاهرة، وهو المشروع الذي تبلغ تكلفته 300 مليار دولار وسيحدد شكل فترته الرئاسية في نهاية المطاف.
في ذلك الخطاب قال السيسي أن الجوع ثمن بخس مقابل التقدم: “إذا كان التقدم والازدهار والتنمية يأتي بثمن الجوع والحرمان، فلا تخجلوا أيها المصريون من التقدم! لا تجرؤوا على القول أنه من الأفضل أن نأكل”.
إن هذه الرؤية المروعة للجوع والحرمان هي ما ينتظر ملايين المصريين في السنوات القادمة، فبعد عقد من صعوده إلى الرئاسة، دفع السيسي الاقتصاد إلى حافة الانهيار، وباتت ملامح ذلك ظاهرة في كل مكان، أزمة ديون حادة تخنق ميزانية الدولة، والاقتصاد عسكري بشكل كبير، وتم استثمار المليارات في مشاريع صغيرة ذات فوائد اقتصادية مشكوك فيها، وجواهر التاج في القطاع العام المصري معروضة للبيع لتلبية التزامات الديون المتزايدة.
ينبع كل ذلك من رغبة المؤسسة العسكرية في تعزيز السلطة والثروة في يديها بأي ثمن، وسيكون لهذا عواقب وخيمة ستظل محسوسة لأجيال قادمة، وسيتطلب التعافي منها جهوداً جبارة.
لقد تم دفع ملايين الأشخاص إلى براثن الفقر في السنوات الأخيرة، وهو الاتجاه الذي من المتوقع أن يستمر في المستقبل المنظور، فقد ارتفع معدل الفقر من 26% في 2012/2013 إلى 33% في عام 2022، حيث يواصل النظام سياسته المتمثلة في تحويل تكاليف أزمة الديون إلى الفقراء والطبقات المتوسطة.
يتمثل المظهر الأكثر وضوحاً لهذا في تدابير التقشف التي اتخذها النظام، والأهم من ذلك، زيادة سعر الخبز المدعوم بنسبة 300%، وهو الغذاء الأساسي للطبقات الأكثر فقراً، والذي تم الإعلان عنه في أيار/مايو.
نقل الثروة
يأتي هذا في أعقاب ارتفاع أسعار السلع الأساسية، التي أعلنت عنها الحكومة في كانون الثاني/يناير، هذه التدابير هي جزء من سياسة شاملة مصممة لنقل الثروة من الفقراء والطبقات المتوسطة إلى نخب النظام و دائنيهم.
المنطق هنا بسيط، فقد سمح الإنفاق المتزايد على المشاريع الضخمة، الممولة بديون ذات فائدة مرتفعة، للجيش بتوسيع حظوته الاقتصادية بسرعة، في حين يتم تمويل سداد الديون من خلال تخصيص الموارد العامة، والتي يتم تمويلها من خلال نظام ضريبي تنازلي.
ولسوف يتطلب الاقتصاد المصري استمرار الدعم الخارجي، في شكل قروض واستثمارات، من أجل الحفاظ على مظهر من مظاهر الاستقرار، حيث يخلق هذا السلوك حلقة شيطانية من الفقر البنيوي يصعب للغاية الهروب منها
إن نظرة سريعة على الميزانية الحالية تسلط الضوء على هذا الاتجاه، حيث يأتي المصدر الرئيسي للإيرادات الضريبية من ضريبة الاستهلاك التنازلية، والتي تدر 828 مليار جنيه مصري (17 مليار دولار)، وفي المرتبة الثانية تأتي الضريبة المحصلة من أرباح الشركات، والتي تبلغ 239 مليار جنيه مصري (5 مليارات دولار)، ومن الجدير بالذكر أن التزامات الديون ستستهلك 62% من نفقات الميزانية.
وسوف يصاحب ارتفاع معدلات الفقر تحول هيكلي آخر، ألا وهو زيادة تهميش الاقتصاد المصري، الذي سيصبح أكثر عرضة للصدمات الخارجية وحسن نية حلفاء النظام.
وتشكل الأرقام المسجلة في العقد الماضي شهادة على ذلك، فعلى الرغم من موجة الإنفاق التي استهلكت مئات المليارات من الدولارات، فإن القدرة التنافسية للاقتصاد المصري لم تتحسن، ولا قاعدته الصناعية، إذ انخفضت مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي من نحو 40% في عام 2013 إلى 33% في عام 2022، وهو انخفاض كبير.
وفيما يتصل بأداء الصادرات، فقد جمد رصيد الحساب الجاري المصري في المنطقة السلبية، حيث تدهور من سالب 2% في عام 2013، إلى سالب 6% متوقع في عام 2024، استناداً إلى بيانات صندوق النقد الدولي الذي توقع أن يستمر هذا الاتجاه السلبي حتى عام 2029 على الأقل.
فجوة التمويل
يعني ذلك أن الضغط سيتواصل في الأمد المتوسط على احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي، الأمر الذي سوف يفرض بدوره ضغوطاً على قيمة الجنيه المتدهورة أساساً، كما أن الوضع سيتفاقم بسبب أزمة الديون، التي تستهلك جزءاً كبيراً من ميزانية الدولة، مما يجعل الاستثمارات العامة لزيادة القدرة التنافسية الاقتصادية غير محتملة.
والواقع أن عبء الديون ضخم إلى الحد الذي يجعل الفجوة التمويلية تقدر بنحو 28.5 مليار دولار حتى بعد تلقي أكثر من 50 مليار دولار من القروض والاستثمارات الأخيرة، وهذا يعني أنه في المستقبل المنظور، سوف يحتاج الاقتصاد المصري إلى دعم خارجي مستمر، في شكل قروض واستثمارات، من أجل الحفاظ على مظهر من مظاهر الاستقرار.
إن المثال الأبرز على ذلك هو الاستثمار الذي أعلنت عنه الإمارات العربية المتحدة في شباط/فبراير بقيمة 35 مليار دولار أميركي، والذي كان حاسماً لتجنب التخلف عن سداد الديون أو إعادة هيكلتها، على افتراض أن النظام سوف يكون قادراً على كبح جماح الإنفاق العام وكبح جماح المحسوبية، ولكن من المؤسف أن هناك دلائل تشير إلى أن هذا ليس هو الحال.
ففي أيار/مايو، أعلنت هيئة الهندسة التابعة للجيش المصري عن نيتها الاستمرار في المرحلة الثالثة من مشروع تنمية جنوب الوادي، الذي يهدف إلى استصلاح ما بين 40 ألف إلى 60 ألف فدان بحلول عام 2025.
وعلى الرغم من ظهور العديد من مشاريع الاستصلاح الكبيرة من هذا النوع، انخفضت مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد من حوالي 11.3% في عام 2013 إلى 11% في عام 2022.
وبالتالي، فمن المرجح أن يزداد اعتماد الاقتصاد المصري على تدفقات رأس المال الخارجية، مما يجعله عرضة للصدمات الخارجية، وتقلبات السياسة الإقليمية، وأهواء الأسواق المالية الدولية.
عواقب وخيمة
يجلب النفوذ المتزايد لرأس المال الخليجي في الاقتصاد المصري عواقب اقتصادية وخيمة، ففي أيلول/سبتمبر الماضي، استحوذت شركة إماراتية على حصة 30% من الشركة الشرقية المملوكة للحكومة، والتي تسيطر على 70% من سوق التبغ في البلاد، في صفقة بلغت قيمتها 625 مليون دولار، كما مولت الإمارات العربية المتحدة بيع عدد من الفنادق التاريخية بمبلغ 800 مليون دولار.
إن هذا الاتجاه لن يؤدي إلا إلى تعميق الاعتماد البنيوي للاقتصاد المصري من خلال حرمان الحكومة من مصادر مهمة للإيرادات العامة، الأمر الذي من شأنه أن يزيد من ضغوط المالية العامة، وسوف يتسبب هذا في استمرار تآكل مستويات المعيشة، وإضعاف الجنيه، ودفع التضخم إلى الارتفاع، في حين يعمل أيضاً على تعزيز التحالف السياسي بين النظام وداعميه الخليجيين، الأمر الذي من شأنه أن يخلق المزيد من العقبات أمام آفاق التحول الديمقراطي أو تحسين حقوق العمال.
إن الضرر الاقتصادي الذي أحدثه النظام يتجاوز أزمة الديون، وسوف يستغرق الأمر سنوات لعكس مساره
وعليه، فإن مستقبل الاقتصاد المصري يبدو قاتماً، وحتى لو هدأت احتمالات التخلف عن سداد الديون في الوقت الحالي، فإن عواقب عقد من السياسة الاقتصادية الحمقاء لم تهدأ.
إن عملية التهميش الجارية سوف تثري عدداً من النخب المحلية، التي سوف تتماشى مع هذه الحقائق الجديدة.
ولا يقتصر هذا على النخب العسكرية، التي سوف تستمر في الاستفادة من تدفق القروض ورأس المال، بل وسوف يشمل أيضاً النخب المدنية، وأبرز مثال على ذلك هشام طلعت مصطفى، قطب العقارات المصري والقاتل المدان الذي تربطه علاقات وثيقة بالإمارات العربية المتحدة.
وباعتباره شريكاً في صفقات الفنادق التاريخية، قفزت أرباح شركة هشام طلعت مصطفى بنسبة 220% في الربع الأول من عام 2024.
تخضع مصر الآن لتحول هيكلي جماعي، حيث سقط الملايين من الناس في براثن الفقر وتراكمت الثروة في أيدي قِلة، أي النخب العسكرية وأصدقائها.
إن هذا التحول سوف يخلف عواقب بعيدة المدى يصعب للغاية التنبؤ بها، ولكن من الواضح أن الضرر الاقتصادي الذي ألحقه النظام يتجاوز أزمة الديون وسوف يستغرق الأمر سنوات طويلة لعكس مساره.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)