رحلة امرأة فلسطينية في غزة ما بين الموت والدمار

رحلة امرأة فلسطينية في غزة ما بين الموت والدمار

بقلم أحمد السماك وخالد ملفوح

ترجمة وتحرير مريم الحمد

بعد بدء الحرب على غزة في 7 أكتوبر، اضطرت ميار الجغبير وعائلتها إلى مغادرة منزلهم في بيت لاهيا شمال قطاع غزة، حتى لجأوا إلى حي القصيب في جباليا.

وما إن وصلوا هناك، حتى شنت القوات الإسرائيلية عمليات برية في جباليا في 8 نوفمبر، وفي 11 ديسمبر، حاصر الجيش الإسرائيلي حي القصيب واقتحم المنزل الذي كانت تقيم فيه ميار و20 فلسطينيًا آخر، بينهم أطفال وكبار في السن.

تقول ميار: “كان الأمر لا يوصف، فقد ضربونا بوحشية وعذبونا وألقوا علينا قنابل الغاز وسرقوا أموالنا واستخدمونا كدروع بشرية، في هجمة  استمرت من الساعة 9 صباحًا حتى المساء”.

قام الجنود الإسرائيليون بتجريد أشقاء ميار من ملابسهم وضربهم وإهانتهم، وفي الليل أعادوا عمها عماد مكبل اليدين إلى الغرفة التي كان يقبع فيها بقية أفراد الأسرة وبدأوا في ضربه بالخنجر.

أغمي على ميار واستيقظت بعد ذلك على صوت طبيب يطلب من سمية ألا تتركها تنام بينما كانت سيارة الإسعاف في طريقها، إلا أن سيارة الإسعاف لم تأتِ، وعندها كانت الجرافات الإسرائيلية قد بدأت بهدم المدرسة التي كانت ميار فيها!

“كنا نبكي ونتوسل إليهم أن يسمحوا له بالرحيل، فرفضوا وقالوا إننا إذا غادرنا المنزل فسوف يتم إطلاق النار علينا، حتى انتهوا مما أسموه عمليتهم وغادروا”.

رغم الكدمات التي كانت موجودة على أجساد إخوة ميار وأقربائها، فقد شعرت العائلة بالارتياح والامتنان لأنهم ما زالوا على قيد الحياة، ولكن ذلك لم يطل أمده، فليلة 11 ديسمبر كانت آخر مرة تنام فيها ميار مع كل أفراد عائلتها، تقول: “لقد نمت مع عائلتي واستيقظت بدونهم”!

لقد قصفت القوات الإسرائيلية المنزل الذي أجبرت الأسرة على البقاء فيه تلك الليلة، وعندما استيقظت ميار وجدت نفسها تحت الأنقاض، تقول: “لم أسمع الصاروخ أو الانفجار، لقد استغرق الأمر مني بعض الوقت لأدرك أنني كنت تحت الأنقاض”، وذلك بعد أن سمعت الفتاة البالغة من العمر 20 عامًا صوت زوجة عمها، سمية، والتي كانت معها في نفس المنزل الذي تعرض للقصف.

تقول ميار: “كنت أبكي وأتوسل إليها أن تنقذني ولا تتركني أموت، فقد كنت أشعر أنني ألفظ أنفاسي الأخيرة”.

 من تحت الأنقاض 

كانت سمية وابنتها الصغيرة، تحفران بأيديهما التي تنزف جراء القصف من أجل إنقاذ ميار  رغم الظلام الدامس، وعن ذلك تقول ميار: ” طلبت من سمية أن تعطيني الماء، لكنها لم تتمكن من الوصول إلي، لذا كان علي أن أشرب الدم الذي كان يقطر من وجهي”!

بعد ساعة، تمكنت سمية من إخراج ميار، أما إخوتها، فقد قُتلوا جميعاً باستثناء أحمد البالغ من العمر 17 عاماً، والذي تم إنقاذه لاحقاً، تقول ميار: “لقد فقدت 18 فرداً من عائلتي، بما في ذلك أمي وأخي وأختي وزوجها وابنة أخيها، وهم تحت الأنقاض منذ ذلك الحين، فأنا لم أتمكن من توديعهم”.

“كانت الظروف المعيشية في المدرسة لا تطاق، تخيل أنك مضطر إلى الاصطفاف لفترة طويلة لانتظار دورك للشرب والأكل واستخدام المرحاض، كما اضطررت أنا وأخي المصاب أحمد إلى البحث عن الحطب للطهي كل يوم، لقد كان الألم الجسدي والنفسي لا يوصف” ميار الجغبير- ناجية من تحت الأنقاض

احترق وجه ميار وساقيها فقد كانت مصابة بجروح في رقبتها ووجهها، وأصيبت بكسور في ظهرها وقفصها الصدري وكتفها، مما اضطر سمية إلى حملها إلى مدرسة قريبة تابعة للأمم المتحدة لأن القوات الإسرائيلية منعت سيارات الإسعاف من الوصول إلى المنطقة.

بعد دقائق، أغمي على ميار واستيقظت بعد ذلك على صوت طبيب يطلب من سمية ألا تتركها تنام بينما كانت سيارة الإسعاف في طريقها، إلا أن سيارة الإسعاف لم تأتِ، وعندها كانت الجرافات الإسرائيلية قد بدأت بهدم المدرسة التي كانت ميار فيها!

تقول ميار: “لقد هرب جميع الناس من حولنا، وبقيت مع سمية وحدي أنزف، فقد حاصرنا جنود الاحتلال وكانوا يطلقون النار على الأرض القريبة منا، كنا نبكي ونتوسل إليهم، فقالوا لي إذا لم أنهض، فسوف يطلقون النار علي رغم إصابتي، وبعد البكاء والتوسل، أخيراً وافقوا على ذهابنا، ولكن أجبرونا على الذهاب إلى مدرسة أخرى في جباليا كانت بعيدة”.

ظروف لا تطاق

مرة أخرى، حملت سمية ميار إلى المدرسة، ولدى وصولهم، ذهبوا إلى عيادة صغيرة على عربة يجرها حمار حيث تلقوا الإسعافات الأولية، وتم نقل ميار إلى مستشفى الخير في جباليا حيث التقت بعمها المصاب بجروح خطيرة.

قرر الأطباء نقل ميار وعمها إلى المستشفى الأهلي في غزة، ولكن بسبب تأخر منح تصريح من الجيش الإسرائيلي، توفي عم ميار متأثراً بجراحه، تقول: “بينما كنا في طريقنا، أطلقوا النار على سيارة الإسعاف، وعند الوصول إلى المستشفى، لم تكن هناك الأجهزة اللازمة، كان هناك نقص حاد في الأطباء والأدوات”.

“ما أحتاجه بشدة الآن هو إكمال علاجي، وانتشال جثث عائلتي من تحت الأنقاض ودفنهم بشكل لائق، فقد سئمنا هذه الحرب الدموية وهذه المذبحة بحق الأطفال والأبرياء، فنحن الضحايا، أريد فقط أن ينتهي الأمر قريبًا جدًا” ميار الجغبير- ناجية من تحت الأنقاض

بسبب اكتظاظ المستشفى، اضطرت ميار إلى المغادرة لمدرسة أخرى، حيث نامت على الأرض لأسابيع، تقول: “كانت الظروف المعيشية في المدرسة لا تطاق، تخيل أنك مضطر إلى الاصطفاف لفترة طويلة لانتظار دورك للشرب والأكل واستخدام المرحاض، كما اضطررت أنا وأخي المصاب أحمد إلى البحث عن الحطب للطهي كل يوم، لقد كان الألم الجسدي والنفسي لا يوصف”.

وعن فقدان أهلها المؤلم، تقول ميار: “في كل يوم أستيقظ فيه، أعتقد أن والدتي ستأتي لتطمئن علي، أقنع نفسي بأنها لم تأتِ بعد فقط لأن الطرق مزدحمة، لا أستطيع النوم جيداً بسبب الألم، وعندما أنظر إلى عشرات الغرز والحروق الموجودة في جسدي، أغطي رأسي ببطانية وأبكي”، وأضافت “أتمنى أن ألتقي بأبي الذي حرمتُ منه، تخيل أنك تعيش في مثل هذه الظروف بعيدًا عن والدك وعائلتك؟!”.

لم شمل

بعد أسابيع، ومع انتشار المجاعة في شمال غزة، قرر الشقيقان الناجيان المخاطرة بالسفر جنوبًا، تقول ميار: “كانت لدي رغبة قوية في مقابلة والدي، لكننا كنا مرعوبين من الحاجز العسكري الإسرائيلي واحتمال قيامهم بتعذيبنا مرة أخرى أو اعتقال أحمد أو كلانا”.

وفي وصف المجاعة تقول ميار: “كانت المجاعة لا تطاق، تحولنا جميعاً إلى جلد وعظام وكانت صحتنا في تدهور، ولم نعد قادرين على تحمل علف الحيوانات”.

في طريقهم إلى الشمال، اتجهوا نحو دوار النابلسي الذي استهدفت إسرائيل فيه طالبي المساعدات الإنسانية عدة مرات، فساروا مع مجموعة كبيرة من الناس، تصف ميار ذلك بالقول: “كان الأمر مرعباً، فقد كانت الجثث متناثرة والهواء تملؤه أصوات الاشتباكات، كانت قلوبنا تخفق كلما اقتربنا من نقطة تفتيش”.

لقد أغمي على ميار مرتين خلال تلك الرحلة الطويلة، تقول: “مع عدم وجود وسيلة نقل، نهضت وواصلت السير حتى وصلنا إلى مكان آمن، بعيدًا عن الجنود”، وعندما وصلوا مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، اتصلت بوالدها لتطمئنه فأرسل سيارة أجرة لاصطحابهم.

تقول ميار: “في الطريق، رأيت أشياء لم أرها منذ بدء الحرب من البحر والناس الذين لديهم طعام والصيادون، ثم التقيت بوالدي والدموع تنهمر على وجوهنا، فأخذ يلمس وجهي ويخبرني كم أنا جميلة وأن الغرز والحروق والإصابات سوف تختفي”.

في المستشفى الإماراتي الميداني بالجنوب، خضعت ميار لصورة أشعة مقطعية كشفت عن حجم إصاباتها، فقد كانت هناك إلى عدد من العمليات الجراحية لكن معظمها لم يكن متاحًا في غزة، مما استلزم سفر ميار إلى الخارج، فسارع والدها بطلب للحصول على إحالة طبية خارج غزة، لكنها لم تتلق أي رد.

تقول ميار: “أشعر بتحسن إلى حد ما الآن والحمد لله، هناك القليل من الطعام المتاح، لكنه باهظ الثمن، ما أحتاجه بشدة الآن هو إكمال علاجي، وانتشال جثث عائلتي من تحت الأنقاض ودفنهم بشكل لائق، فقد سئمنا هذه الحرب الدموية وهذه المذبحة بحق الأطفال والأبرياء، فنحن الضحايا، أريد فقط أن ينتهي الأمر قريبًا جدًا”.

للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة