بقلم زينب إقبال
ترجمة وتحرير مريم الحمد
منذ أن بدأت الحرب الإسرائيلية على غزة في 7 أكتوبر، كان روهان غيل يحاول إيجاد طريق إلى غزة، فلم يتمكن الممرض البالغ من العمر 28 عاماً والمقيم في بروكلين بنيويورك من الجلوس ساكناً وهو يرى الفظائع التي تحدث على بعد آلاف الكيلومترات، واصفاً شعوره بالخجل والإحباط والذنب.
يقول الممرض الأمريكي من أصل باكستاني، أن “الهدف الأساسي من مسيرتي المهنية هو استخدام مهاراتي لمساعدة الناس، فإذا لم أستطع أن أفعل ذلك، فما هي الفائدة من دراستي إذن؟”.
خلال أشهر الحرب والحصار، استفحلت المجاعة وسوء التغذية في غزة، مما أدى إلى عدد من الوفيات، فإلى جانب القتل المباشر تظهر المشاكل الصحية المرتبطة بالمضاعفات الناجمة عن التهجير القسري لمئات الآلاف من الأشخاص.
“كلما كانت القنبلة أقرب، كان وقع الانفجار أصعب وصوته أكثر رعباً، فعندما تنفجر في مكان قريب، يهتز المبنى بأكمله وأشعر أني فقدت توازني وتركيزي من هول الصدمة، فكان السكان والأطباء في المستشفى يخففون عني بالإشارة إلى أن هذا أمر طبيعي فقد كانوا قادرين على إعادة التركيز بسرعة لا تصدق” – روهان غيل- ممرض أمريكي من أصل باكستاني
وقد أفاد المفوض العام للأونروا، فيليب لازاريني بالقول: “تلقينا تقارير تفيد بأن طفلين على الأقل توفيا بسبب الحرارة، فما الذي يجب أن ننتبه إليه أكثر: الموت أم الجوع أم المرض أم النزوح أم العيش الآن في خيم تحت الحرارة الحارقة”.
أكدت الأونروا أن الفلسطينيين يحصلون على أقل من لتر واحد للشخص الواحد يومياً من المياه لأغراض الشرب والغسيل والاستحمام، وهو ما يقل كثيراً عن الحد الأدنى الدولي المحدد بـ 15 لتراً.
بالعودة إلى غيل، فقد بدأ الأمر في أحد أيام شهر إبريل، حيث كان غيل حاضراً في محادثة جماعية بعنوان “أطباء ضد الإبادة الجماعية”، وذلك بتوجيه نداء للمتطوعين فلم يتردد غيل وقام بالتسجيل على الفور.
يقول غيل: “ذهبت إلى أمي بعد أن قمت بالتسجيل، وسألتها إذا كانت ستكون على ما يرام إذا اتصلوا بي لزيارة غزة، فقالت لي: هذا واجبك، يجب عليك الذهاب وأنا لن أقف في وجهك”.
في 29 إبريل، غادر غيل في رحلة العمر بعد حصوله على الضوء الأخضر، وذلك في رحلة كان من المفترض أن تستمر لمدة أسبوع فقط، ولكن انتهى الأمر بغيل بالبقاء في فلسطين لمدة شهر تقريباً.
أصوات الانفجارات قرب مستشفى الأقصى
كان غيل برفقة 7 متطوعين آخرين يمثلون منظمة “غليا” الطبية، كانوا بدورهم جزءاً من قافلة أكبر تضم حوالي 40 عاملاً طبياً.
قضى غيل معظم وقته في رفح متطوعاً في عيادة الرعاية الأولية في علاج الضحايا المصابين بالجروح، من تغيير الضمادات والخياطة وتنظيف الالتهابات.
زار غيل أيضاً مستشفى الأقصى في دير البلح، وهو نفس المستشفى الذي تعرض للقصف في 31 مارس، حيث نقل مسؤولون في وزارة الصحة في غزة وقتها أن الغارة أصابت عدة خيام يستخدمها الصحفيون والفلسطينيون النازحون بالقرب من المستشفى، مما أسفر عن مقتل 4 أشخاص وإصابة آخرين من بينهم 5 صحفيين.
يقول غيل: “هذا هو المستشفى الذي تراه في الأخبار عن الأشخاص الذين يحملون أطفالهم الذين ينزفون، ذهبنا إلى هناك لنرى بأنفسنا ما كان يحدث، وانتهى بنا الأمر بالعمل هناك”.
يصف غيل كيف أن عدداً لا يحصى من الأشخاص كانوا يأتون مصابين بجروح ناجمة عن المتفجرات، فقد كان يسمع صوت قنبلة ثم يندفع الناس إلى المستشفى، ولم تكن هناك أي غرف متاحة، ولذلك كان الأطباء والممرضين يعالجون المرضى في مداخل الطوابق الرئيسية.
يقول غيل: “ليس هناك مكان، وهناك أشخاص في جميع أنحاء المستشفى يستلقون في كل مكان، أعتقد أن سعة المستشفى تبلغ حوالي 175 مريضاً، ولكن في الواقع ربما كان هناك 1200 شخص، فقد كان الأمر جنونياً”.
“أموال ضرائبنا تمول هذه الإبادة الجماعية، ليس من المقبول أن نكون محايدين، علينا أن نقف ضد هذا، علينا أن نضفي طابعاً إنسانياً على هؤلاء الناس، فهم مثلنا يضحكون ويأكلون ويتنفسون ويمزحون وعلينا أن نساعدهم” – روهان غيل- ممرض أمريكي من أصل باكستاني
لا ينسى غيل صور الأطفال في المستشفى على حد وصفه، وهنا يقصد الأطفال الذين تم إخراجهم من تحت الأنقاض فيما رحلت عائلاتهم كاملة، وأطفال آخرون مصابون بحروق فوق حروق في أجسادهم الصغيرة، وآباء يصرخون من أجل أطفالهم.
لقد ذهب غيل إلى فلسطين مهيئاً نفسه لتوقع أي شيء، ومع ذلك بمجرد وصوله إلى هناك، كان التجربة المباشرة أمراً لن يتمكن من نسيانه أبداً، فهو لن ينسى صوت القنابل والطلقات النارية والطائرات بدون طيار المستمر، يذكر أنه عندما سمع صوت المسيرات لأول مرة سأل: ما هذا؟ طبعاً بالنسبة لمن يعيشون هناك كان هذا الصوت طبيعياً.
يقول غيل: “كلما كانت القنبلة أقرب، كان وقع الانفجار أصعب وصوته أكثر رعباً، فعندما تنفجر في مكان قريب، يهتز المبنى بأكمله وأشعر أني فقدت توازني وتركيزي من هول الصدمة، فكان السكان والأطباء في المستشفى يخففون عني بالإشارة إلى أن هذا أمر طبيعي فقد كانوا قادرين على إعادة التركيز بسرعة لا تصدق” على حد وصف غيل.
يصف غيل أنه في ذات مرة وهو في العيادة في رفح، سمع صوتاً مرعباً لم يسبق له أن سمعه من قبل ولمدة 20 ثانية متواصلة، يقول غيل: ” أظهرت وقتها أني هادئ من الخارج، لكن قلبي كان ينبض بشدة وعقلي لم يكن يقوى على استيعاب الصدمة”، واتضح بعد هدوء الصوت وخروجهم لاستطلاع الأمر أنها لم تكن قنبلة أو غارة جوية، بل كانت طائرة حربية إسرائيلية على ارتفاع منخفض جداً هدفها كسر حاجز الصوت وإخافة الجميع.
يقول غيل: “لقد كان أسوأ صوت على الإطلاق، هذا ما يفعلونه لتعذيب الناس”، وبعد انتهاء الضجة، عاد الناس لشؤونهم وهم يتمازحون فقد كان هذا كان طبيعياً بالنسبة لهم.
تستخدم القوات الإسرائيلية الحرب النفسية ضد 2.3 مليون من سكان قطاع غزة لإضعاف معنوياتهم، ويشمل ذلك أساليب مثل إسقاط المنشورات من الطائرات والبالونات، الأمر الذي يذكرنا بتكتيكات الدعاية المستخدمة في الصراعات السابقة مثل الحربين العالميتين والحملات الأمريكية في فيتنام والعراق.
يقول غيل: “لا يمكنك الذهاب إلى غزة إلا وأنت تضع في حسبانك أنه من المحتمل أن تموت مثل موظفي المطبخ المركزي العالمي”، وأضاف: “لقد مررنا بنفس الطريق الذي سلكوه، كان أمراً خطيراً، وما عليك إلا محاولة تجاهل فكرة أنك ستموت حتى تتمكن من المساعدة”.
في 1 أبريل، تعرضت قافلة تابعة للمطبخ المركزي العالمي لهجوم أثناء سفرها في منطقة منزوعة السلاح بعد أن قام الفريق بتفريغ أكثر من 100 طن من المساعدات الغذائية في مستودع دير البلح، فقتل 7 من أعضاء الفريق، كما تم إدانة الهجوم عالمياً باعتباره انتهاكاً للقانون الدولي.
الإيمان واليقين بالله
بغض النظر عن مدى خوفه هو، إلا أن غيل وجد في شعب فلسطين مرونة وصموداً لم يره في حياته، مرجعاً ذلك إلى إيمانهم الشديد بالله، يقول: ” رغم كل شيء، ما زالوا يعيشون الحياة، ولديهم الكثير من الأمل والحب، كانوا يدعونني إلى منازلهم ويكرمون ضيوفهم، ولا يزال لديهم قصات شعر جميلة ويهتمون بمظهرهم”.
بعد زيارة غزة، يرى غيل أنه لم يعد من المقبول أن نكون محايدين قائلاً: “أموال ضرائبنا تمول هذه الإبادة الجماعية، ليس من المقبول أن نكون محايدين، علينا أن نقف ضد هذا، علينا أن نضفي طابعاً إنسانياً على هؤلاء الناس، فهم مثلنا يضحكون ويأكلون ويتنفسون ويمزحون وعلينا أن نساعدهم”.
يؤكد غيل أنه لن ينسى أبداً الأشخاص الذين التقى بهم والأصدقاء الذين كونهم على طول الطريق، فقد علمته الممرضات في غزة كيفية الخياطة، كما علموه الكثير عن الأمل والقدرة على الصمود، وهو أمر لا يستطيع أن يدفع لهم ثمنه أبداً.
يقول غيل: “لقد فقدوا كل شيء، هؤلاء الناس يعانون لكنهم ليسوا مكتئبين ولا بائسين، رغم بعدهم عن منازلهم إلا أنهم مفعمون بالكثير من الأمل”
منذ أن عاد غيل إلى منزله في بروكلين وقلبه يتوق إلى العودة، ويؤكد أنه كان ممرضاً كسولاً في السابق، ولكن رحلة غزة ساعدته على إيجاد هدفه باكتساب المهارات لمساعدة الناس.
يقول: “بمجرد أن تكون هناك، فإنك لا تريد المغادرة، أصبحت أريد البقاء والمساعدة بأي طريقة ممكنة، فقد كانت المغادرة صعبة، والأمر هنا أصعب، ففي فلسطين، رغم أنني كنت محاصراً بالقنابل والقصف، إلا أني كنت هناك، أما هنا، فأنا أشعربالعار والذنب، لا أريد أن أكون هنا، أريد العودة”.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)