رغم وصولهم إلى غزة.. الإعلام البريطاني يروّج لرواية الاحتلال ويغيّب الحقيقة
بقلم حمزة يوسف
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
تحافظ التغطية المنحازة على وهم “الحرب المعقّدة”، وتحجب حقيقة المذبحة الجماعية التي تنفذها دولة الاحتلال بدقة متناهية.
فعلى مدى أكثر من عامين، واصلت دولة الاحتلال حملة محو لا هوادة فيها في غزة، حوّلت خلالها القطاع إلى ركام، ووجد كثير من الفلسطينيين في القطاع أنفسهم يتحولون إلى صحفيين بالصدفة.
ومع حظر دولة الاحتلال دخول الصحفيين الأجانب، لم تبقَ سوى أصوات المواطنين الذين يعيشون المأساة ويبثّون تفاصيل الإبادة مباشرة للعالم.
غير أن شجاعة هؤلاء لم تلقَ التقدير اللائق، ففي العام الماضي صرّح ديفيد لامي، وزير الخارجية البريطاني آنذاك قائلاً: “لا يوجد صحفيون في غزة”، وعبّرت الإعلامية البارزة في CNN، كريستيان أمانبور، عن الموقف نفسه.
كان معنى هذا الطرح أن الفلسطينيين غير جديرين برواية واقعهم بدقة أو موضوعية، وأن الصحفيين “الرسميين” وحدهم قادرون على تقديم الحقيقة للجمهور.
وفي قالب من الغرور، وُضع هذا الادعاء على المحكّ ليثبت زيفه تماماً، إذ دخل صحفيون من أبرز القنوات البريطانية من بينها ITV وSky News وBBC إلى غزة مؤخراً، لكنهم أخفوا الواقع كعادتهم.
لقد حافظوا على رواية أن غزة مسرحُ حربٍ معقّدة، لا موقعُ مذبحة جماعية مُحكمة التخطيط والتنفيذ، أو كما قد يقول البعض: “لا جديد يُذكر”.
وخلال تقرير لها من غزة في أوائل نوفمبر/تشرين الثاني، قالت مراسلة BBC لوسي ويليامسون: “هذا مجرد لمحة عمّا فعلته سنتان من الحرب بغزة”، وتابعت أن جيش الاحتلال يقول إنه ما زال “يقاتل حماس هنا تقريباً كل يوم”.
يجري تصوير المشهد المدمر في غزة باعتباره نتيجة “عرضية” لعنف الاحتلال الموجّه حصراً نحو حماس، ويواصل التقرير تصوير ما يجري وكأنه حرب “معقّدة”.
فقد كان العنوان يشير إلى “دمار شامل بعد عامين من الحرب”، بينما يعيد المتن تدوير سردية الاحتلال المعتادة عن الأنفاق والبنية التحتية “الإرهابية”، بطريقة تُبيّض عملية الإبادة المتواصلة للفلسطينيين منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، وتُسوّغ استمرار الهجمات.
وتنقل BBC عن متحدث باسم جيش الاحتلال قوله إن مستوى الدمار الذي وقع “لم يكن هدفاً بذاته فالهدف هو مكافحة الإرهابيين”.
وفوق هذه التصريحات، تضع الشبكة صورة لحَيّ الشجاعية المدمّر والمسوّى تماماً بالأرض في تناقض فاضح بين سردية BBC والحقيقة التي لا يمكن إنكارها.
صورة مشوّهة
ورغم استمرار وحشية الاحتلال، تصف BBC وقف إطلاق النار بأنه ترك غزة في “حالة من الترقّب المتوتر”، لكن الواقع أن الاحتلال انتهك وقف إطلاق النار نحو 500 مرة منذ أكتوبر/تشرين الأول وقتلت قواته أكثر من 300 فلسطيني ودمّرت مئات المباني.
واختتمت BBC بهذه التغطية 25 شهراً من سرد مشوّه، قدّمت خلاله صورة بعيدة كل البعد عن الواقع، مبنية على استنتاجات مسبقة حول “ردّ” دولة الاحتلال وحقها في “الدفاع عن النفس”، فيما تجاهلت الحقيقة المجردة الماثلة في أن ما يجري هو تطهير عرقي ممنهج.
يعد فعل ذلك من وراء مكتب سيئاً بما يكفي، أما الاستمرار فيه وأنت تقف وسط مشهد يشبه يوم القيامة في غزة، فهذا أمر مروّع.
وما ترسّخ طويلاً لا يُقتلع بسهولة، فبعد تقرير BBC بأيام، بثّت Sky News تقريراً مشابهاً، أعدّه أيضاً مراسل ميداني مشترك مع جيش الاحتلال، وجاءت فيه توصيفات مماثلة لــ”الدمار” و”الأرض الجرداء” مُؤطّرة على أنها “ندوب الحرب”.
في ذلك التقرير تُرك المتحدث باسم جيش الاحتلال ليقدّم روايته قائلاً: “نحن لا نبقى هنا كنوع من الهواية، نحن نبقى هنا لحماية شعب إسرائيل”.
عادة ما كانت وسائل الإعلام الرئيسية في بريطانيا تروي القصة الخطأ عن غزة، لقد أخفت الحقائق وقلّلت من فظاعتها وسعت إلى منع الجمهور من ربط الأحداث ببعضها.
ويُحافِظ هذا النهج على تصوير أفعال الاحتلال بوصفها ردوداً دفاعية بحتة، وهو ما يبرز بوضوح في تغطية Sky News.
فعندما يذكر المراسل آدم بارسونز نبأ سماعه طلقات رشاشة خلال زيارته لغزة أدت إلى استشهاد فلسطينيين “قيل” إنهم تجاوزوا “لخط الأصفر” الذي يقسم القطاع حالياً فهو يسارع إلى إدراج رواية الاحتلال في نصه بالقول: “تقول إسرائيل إنهم كانوا من مقاتلي حماس”.
وهكذا يدعّم المراسل الانطباع بأن الجنود الاحتلال لا يمارسون العنف إلا لإخماد تهديدات في حرب متعددة الجبهات.
ويضيف بارسونز: “ما دامت حماس لا تزال تملك أسلحة، فمن الصعب تخيل انسحاب إسرائيل من هذه الأرض المنكوبة”.
إن استمرار الاحتلال لغزة يُعدّ غير قانوني بموجب القانون الدولي، لكن وسائل الإعلام الرئيسية تبدو شديدة الحماس لإعادة تغليفه كخطة عسكرية “لا بدّ منها”.
وللإنصاف، بخلاف BBC، ضمّ تقرير Sky News رأي مدنية فلسطينية من غزة، ورغم أن جيش الاحتلال لم يسمح للصحفيين المرافقين للمراسل بالتحدث مباشرة مع الفلسطينيين، فقد جرى ترتيب المقابلة عبر زميل داخل القطاع.
في ذلك التقرير قالت إيمان حسونة، وهي أم من الشجاعية: “لقد استسلمت، سيأتي يوم ويعلنون فيه أننا جميعاً قد استشهدنا”.
كان يفترض أن تكون هذه الشهادة إضافة جوهرية لعرض مأساة شعب يعيش عامين من رعب غير مسبوق، لكنها قُدّمت مجرّد “وجهة نظر” تقابل ركاماً من ادعاءات الاحتلال.
هذا الأسلوب يعزز وهم حرب “معقّدة” تُعرّفها روايتان متناقضتان وخسائر “مؤسفة”، بعيداً تماماً عن حقيقة الميدان حيث القصف العشوائي وقتل عشرات الآلاف من الشهداء، الذين تشير التقديرات إلى أن أكثر من 80% منهم كانوا من المدنيين.
صياغة خادعة
من المفيد التذكير بما عاشته غزة خلال عدوان الاحتلال الكاسح على مدى العامين الماضيين، فقد أشار تقرير حديث للأمم المتحدة إلى أن دولة الاحتلال صنعت في غزة “كارثة من صنع الإنسان، وقوّضت بشكل كبير كل مقومات البقاء”.
أما المديرة التنفيذية ليونيسف فأكدت في يوليو/تموز أن 28 طفلاً يستشهدون يومياً في غزة أي ما يعادل “فصلاً دراسياً كاملاً يموت كل يوم، لمدة عامين تقريباً”.
ووصفته اللجنة الدولية للصليب الأحمر العدوان على القطاع بأنه “أسوأ من الجحيم على الأرض”، كما خلصت هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية وخبراء أمميون إلى أن دولة الاحتلال ترتكب إبادة جماعية.
إن عمليات القتل التقنية التي ارتكبتها قوات الاحتلال في غزة لا يشبه بأي حال الصورة التي تصنعها القنوات البريطانية، حيث تُقدَّم أعمال الاحتلال كـ”ردّ لا بدّ منه”مع “أضرار جانبية مؤسفة”، ومن يتابع تغطيتهم قد يستحيل عليه تقريباً الوصول إلى الحقيقة.
ولا تنحصر المشكلة في الصياغة الملطفة والمضلِّلة لمشهد المجزرة، بل تشمل ما يتم حذفه بالكامل، إذ لا ذكر لمحاكمة دولة الاحتلال بتهمة الإبادة في محكمة العدل الدولية، ولا لصدور مذكرات توقيف من المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت بتهم جرائم ضد الإنسانية.
إن سيلاً من المعلومات القادرة على تفنيد روايات الاحتلال، أو على الأقل إيضاح ما تنقله العدسات، يُستبعَد بطريقة لافتة.
وقد يُقال إن وجود الصحفيين في غزة ضمن فرق جيش الاحتلال يحدّ من قدرتهم على التغطية بحرية إلا أن BBC وSky شددتا مراراً على أنهما احتفظتا بـ”السيطرة التحريرية الكاملة”، وهذا يعني أن التقارير يمكن تفسيرها بشكل معقول بوصفها صناعة متعمدة لواقع بديل.
كما دخل صحفي من قناة ITV غزة مؤخراً، وقدم ربما أكثر التغطيات صراحة، فقد قال جون إيرفاين بوضوح لا يقبل الالتباس: “كنت في الموصل والرقة خلال تدمير تنظيم الدولة، لكن مستوى الإبادة هنا يضع هذين المكانين المدمّرين في الظل”.
ويشير إيرفاين أيضاً، بوضوح ودقة، إلى أن الأراضي التي تسيطر عليها دولة الاحتلال داخل “الخط الأصفر” هي أراضٍ محتلة.
ومع ذلك، تظل اللغة العسكرية حاضرة في التقرير، من خلال استخدام مصطلحات مثل “ساحة قتال” و”حرب”، لترسيخ تصور وجود طرفين متحاربين.
وفي المقطع الذي يتضمن المتحدث باسم جيش الاحتلال، عندما يُسأل المراسل عمّا إذا كان الدمار “ضرورة عسكرية”، تأتي الإجابة بالإيجاب دون أن تُواجَه أو تُستَجوَب.
وتزداد المفارقة حدّة إذا ما استحضرنا أن الفيلم الوثائقي الأخير لـ ITV نفسه كشف بجلاء عن النية الإبادية لدى جنود من قوات الاحتلال، وعن منحهم تراخيص للقتل الانتقامي والمجاني للمدنيين في غزة وهي مواد كان يمكن توجيهها مباشرة إلى المتحدث العسكري.
لكن، وتماماً كما فعلت Sky News وBBC، تُرك هذا القدر الهائل من الوحشية بلا مواجهة، مُقدَّماً كأنه مجرد “مخلّفات حملة عسكرية معقدة”، لا سياسة دولة قاتمة ومتعمدة.
لقد روت وسائل الإعلام السائدة في بريطانيا القصة الخطأ عن غزة باستمرار، فقد أخفت الحقائق، وقلّلت من وطأتها، وسعت إلى منع الجمهور من رؤية الصورة كاملة وربط عناصرها ببعضها.
لكن ما نشهده اليوم من داخل غزة قد يكون أخطر ما ارتكبته هذه المؤسسات حتى الآن، إذ سمحت لمرتكبي الإبادة أنفسهم بأن يرووا القصة رغم أن الصحفيين يشاهدون الحقيقة بأعينهم.
وللأسف، فإن ما تفتقر إليه الطبقة الإعلامية البريطانية من نزاهة صحفية، تعوّضه بقدر وافر من “الكرم”، فهي تقدّم بنفسها الأدلة التي ستدينها عندما يحين وقت المحاسبة.