رفح التي أصبحت وطني بعد النزوح يتم محوها الآن!

بقلم رويدة عامر

ترجمة وتحرير مريم الحمد

لقد تحولت مدينة رفح، التي كانت في يوم من الأيام الملاذ الأخير للفلسطينيين النازحين، إلى أنقاض بعد أسابيع من القصف المتواصل، 

مما اضطر القليل ممن بقي من السكان إلى الفرار مرة أخرى، وهذه المرة إلى ما يسمى “المنطقة الإنسانية” قرب خان يونس والمواصي.

منذ انتهاك وقف إطلاق النار في شهر مارس الماضي، واصل جيش الاحتلال الإسرائيلي تقسيم قطاع غزة إلى مناطق معزولة كجزء من مشروعه المستمر لسرقة الأراضي والتطهير العرقي.

قبل أكتوبر عام 2023، كانت رفح، المدينة التي تغطي ما يقرب من خمس قطاع غزة، موطناً لـ 350 ألف نسمة، وخلال الحرب، اكتسبت المنطقة شهرة دولية باعتبارها منطقة آمنة مفترضة لمليون نازح فلسطيني.

لقد مررت أنا وعائلتي، مثل غيرنا، بتجربة النزوح وبحثنا عن ملجأ قرب رفح بعد أن فقدنا منزلنا منذ أكثر من 20 عاماً، لم يكن بيت طفولتي ولكنه أصبح المكان الذي أعتز به.

رغم كل المنشورات عن إبقاء “كل الأعين على رفح”، اعتقاداً بأن ذلك قد يمنع إسرائيل من استهداف الأسر التي لجأت إلى الخيام، فقد اختار العالم غض الطرف وترك رفح لمصير مجهول! كانت ملجئي

قبل أن نستقر في رفح، قضيت السنوات الثماني الأولى من حياتي مع أجدادي في منزل في مخيم خانيونس للاجئين، وقد اعتبرته بيت طفولتي الحقيقي.

ولسوء الحظ، كنا نسكن بجوار عدة مراكز مراقبة تابعة للجيش الإسرائيلي، فكنت أفتح الباب وأرى الجنود يقومون بدوريات أو يتمركزون على بعد أمتار قليلة، داخل مواقعهم المحصنة، وقد واجهنا صعوبات بسبب قربهم منا حتى هدموا منزلنا في نهاية المطاف في عام 2000.

لقد عشنا جميعاً مع أعمامي وجدي في تلك المنطقة، وكانت منازلنا قريبة من بعضها البعض، وكان لدينا جيران رائعون، حتى جاء جيش الاحتلال في ليلة عيد فطر لهدم منازلنا، محولاً ما كان ينبغي أن يكون ليلة فرح إلى ليلة خراب، وقد ظلت تلك ذكرى مؤلمة، فأنا مازلت أشتاق لذلك المنزل، ففيه بعضاً من أجمل اللحظات من سنواتي الأولى.

بعد عامين من التنقل بين ملجأ مؤقت وآخر بعد تدمير منزلنا، أعطتنا السلطات المحلية منزلاً في منطقة الفخاري قرب رفح، وقد كانت معظمها زراعية وذات كثافة سكانية منخفضة أو أقرب لقرية هادئة، ولكن بمرور الوقت، أدى وصول العائلات النازحة مثل عائلتنا إلى جلب المزيد من الحياة والنشاط إلى المنطقة.

انتقلنا للعيش في ذلك المنزل عام 2002، ولم يمض وقت طويل حتى بدأت الحكومة بتصنيف منطقة الفخاري على أنه جزء من أحياء مدينة رفح.

حتى ذلك الوقت، لم أكن قد زرت رفح فعلياً قط، باستثناء زيارة واحدة قصيرة عام 2003 عندما كنت في المدرسة الإعدادية، حيث كنا نستعد لشراء ملابس العيد، واقترحت والدتي أن نذهب إلى سوق رفح بدلاً من سوق خانيونس.

رغم قصر الزيارة، إلا أن رؤية رفح لأول مرة تركت انطباعاً جميلاً في داخلي، حيث كانت تعج بالناس والمحلات التجارية، وكانت هناك منطقة معروفة وسط مدينة رفح اسمها دوار العودة، لكن لم ندخلها بعمق فقد كانت والدتي متعبة من كل المشي، فجلست قرب مسجد العودة، وهو مسجد كبير وجميل ويعد أحد معالم رفح الرئيسية. 

روابط أقوى

خلال الحروب العديدة التي شنها الاحتلال على غزة، ظلت رفح صامدة بما في ذلك حرب عام 2014، التي أودت بحياة العديد من الأشخاص في المدينة، والتي كان الوضع فيها سيئاً للغاية لدرجة أن وزارة الصحة اضطرت إلى وضع الجثث في ثلاجات الآيس كريم بسبب عدم وجود مساحة في المشارح.

بعد الحروب المتتالية على غزة، طالب سكان رفح العالم بدعم بناء مستشفى، باعتبارها المدينة الوحيدة في غزة التي لا يوجد بها مستشفى.

من جهتي، فقد قادني عملي في الصحافة إلى التنقل بين المدن، وبذلك أصبحت رفح جزءاً من هذا الروتين خاصة مع قربها من سكني، فقد كنت أزورها من حين لآخر عندما يكون لدي قصص لأصورها أو أكتب عنها، لكنني لم أكن أذهب بانتظام، ولم أكن أعرف الكثير عن أحياء رفح حتى أتيحت لي فرصة جعلتني آتي إلى هناك كل أسبوع.

نحن نكافح من أجل البقاء هنا، فرفح بالكاد تتنفس تحت القنابل والجرافات والدمار، وإن لم تبقَ معالمها على الأرض، إلا أن رفح سوف تبقى في قلوب من عرفها قلعة صمود غزية.

في عام 2020، اقترحت إحدى المنظمات غير الحكومية علي إدارة أنشطة علمية تعليمية للأطفال في منطقة نائية من رفح، وقد تم تصميم هذه الجلسات لدعم واجباتهم المدرسية ومنحهم فرصة للتعلم في بيئة أكثر جاذبية، وقد ترددت في البداية فقد كنت أعمل مدرسة بدوام كامل من قبل ولم يكن لدي سوى يوم إجازة يوم واحد هو الأحد.

في نهاية المطاف، تخليت عن يوم إجازتي وبدأت السفر أسبوعياً إلى منطقة تل السلطان غرب رفح، التي تم الآن تدميرها بالكامل، وخلال تلك الأشهر، تعمقت علاقتي برفح.

خلال زياراتي لرفح، طورت عادات صغيرة، منها عندما تذكرت والدتي وهي تجلس لتستريح قرب مسجد العودة قبل 17 عاماً، وهي الآن مريضة وتعاني منذ سنوات من مشاكل في العمود الفقري، فبدأت بالتبرع للمسجد كل أسبوع سائلة الله أن يشفي أمي.

عند وصولي للمركز، كان الأطفال ينتظرون عند الباب ليستقبلوني بفرح، فقد حاولت أن أحقق لهم السعادة من خلال الأنشطة الترفيهية، فأعادوها لي بعشرة أضعاف بدفئهم وشوقهم وامتنانهم.

ملجئي تحول إلى حطام!

في الفترة من أكتوبر عام 2023 إلى مايو عام 2024، استضافت رفح أكثر من مليون نازح، وقد روّج لها جيش الاحتلال الإسرائيلي كذباً أمام العالم على أنها منطقة “آمنة وإنسانية”!

عندما بدأ الغزو البري في خانيونس في ديسمبر عام 2023، لم يعد بإمكاننا الوصول إلى المدينة  للحصول حتى على الإمدادات الأساسية، 

فمنذ أكثر من عام، اعتمدنا على رفح، ولكن عندما بدأ الجيش عملياته هناك، أصبحت منطقتنا محاصرة بين خطين أماميين وأصبحت الحياة صعبة للغاية.

كنت أسمع وأشعر بكل صاروخ يضرب المدينة، كان هناك تدمير لا هوادة فيه بلا خطوط حمراء وبلا توقف!

مؤخراً، قام جيش الاحتلال بتجريف وهدم وتسوية منطقة الميراج المجاورة لنا، وهي البوابة الشمالية لرفح وتعد منطقة زراعية ومصدراً حيوياً للغذاء لمناطق الجنوب، حيث ساعدت في إطعام غزة أثناء الإغلاق المتكرر للمعابر، ولكن اليوم لا نسمع فيها إلا قصفاً متواصلاً، فالصواريخ الثقيلة تسقط وكأنها ترمي الحجارة بلا رحمة.

علاوة على ذلك، فلا تزال العديد من العائلات محاصرة في شمال رفح، فقد اختاروا الموت في منازلهم بدلاً من الفرار مرة أخرى، فالنزوح كان تجربة مريرة ومرهقة للجميع، ولهذا السبب يرفض الكثيرون المغادرة، ونحن منهم.

ندعو كل ليلة على أمل أن نعيش يوماً آخر، فأصوات القصف مرعبة، ولكن الأسوأ من ذلك هي اللحظات التي تطلق فيها الطائرات الحربية نيرانها على المناطق المحيطة بنا، فرفح، وكل جزء من غزة، هي أرض حرية، لأن شعبها يسعى للعيش بسلام وكرامة على أرضه دون حروب أو احتلال.

نحن نكافح من أجل البقاء هنا، فرفح بالكاد تتنفس تحت القنابل والجرافات والدمار، وإن لم تبقَ معالمها على الأرض، إلا أن رفح سوف تبقى في قلوب من عرفها قلعة صمود غزية.

للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة