بقلم هالة الصفدي
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
ينعي الفلسطينيون في جميع أنحاء العالم، وخاصة في غزة، رفعت العرعير، الأكاديمي والمترجم والشاعر والناشط المؤثر، الذي ارتقى في غارة جوية إسرائيلية استهدفت منزل شقيقته في مدينة غزة في 7 كانون الأول/ ديسمبر.
اكتسب رفعت، البالغ من العمر 44 عاماً، والباحث المتميز في مجال الأدب الإنجليزي في الجامعة الإسلامية في غزة، شهرة واسعة باعتباره صوتاً شجاعاً يمثل جيلاً من الفلسطينيين الذين يعيشون في قطاع غزة المحاصر والذين شهدوا الهجمات الإسرائيلية المتكررة.
ومن خلال كتاباته، بما في ذلك المجموعة الأدبية التي قام بتحريرها بعنوان “غزة ترد” ” Gaza Writes Back”، ألهم رفعت الشباب الفلسطينيين لمقاومة القمع والاحتلال الإسرائيلي باستخدام قوة الكلمات.
وإلى جانب الكاتبة الفلسطينية ليلى الحداد، قام العرعير أيضًا بتحرير كتاب “Gaza Unsilenced”، وهو كتاب يضم مقالات وأشعاراً ومساهمات إبداعية أخرى من كُتّاب داخل وخارج غزة عن الألم والدمار والاحتجاجات الدولية على العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2014.
خلال حياته التي بترها الاحتلال، كان شغل رفعت الشاغل هو إرشاد طلابه وتزويدهم بالأدوات اللغوية لاستعادة السردية الفلسطينية لما يجري في فلسطين في تحد للسردية السائدة على وسائل الإعلام الغربية، مشجعاً كل من درسوا اللغة الإنجليزية ويتحدثون بها من الفلسطينيين على مخاطبة الجمهور الغربي بشكل مباشر بدلاً من أن يتحدث غيرهم نيابة عنهم.
“نحن لسنا أرقاماً”
بالنسبة لرفعت، كانت الكلمات وسيلة للتحرر من الحصار الإسرائيلي الساحق، حيث كان يؤمن بقوة السرد والرواية، وهو ما جعله يساهم في تأسيس “نحن لسنا أرقامًا”، وهو مشروع تحدى الرواية الإسرائيلية والغربية التي تجرد الفلسطينيين من إنسانيتهم وتقلل من أعداد القتلى من الفلسطينيين في تقارير وسائل الإعلام، قدم قصصاً تروي تفاصيل حياة الشهداء الذين غيبتهم الغارات الإسرائيلية.
طيلة العدوان الإسرائيلي الحالي على غزة، والذي أودى بحياة أكثر من 17500 شخص، بالإضافة إلى آلاف الآخرين ممن اعتبروا في عداد المفقودين، وفي ظل استهداف الصحفيين والفنانين والمثقفين، واصل رفعت فضح الجرائم الإسرائيلية من خلال منشوراته و مقالاته ومقابلاته على وسائل التواصل الاجتماعي.
في 4 كانون الأول/ ديسمبر نشر رفعت على موقع X، تويتر سابقًا: “قد نموت هذا الفجر”، وبعد ثلاثة أيام فقط، قُتل في غارة جوية إسرائيلية أودت بحياة شقيقته وزوجها وبناتهما الأربع.
ليس من قبيل المبالغة القول إن رفعت وظف كل محاضرته تقريبًا لتشجيع طلابه على الكتابة عن الاحتلال ونضالنا كفلسطينيين في غزة
وفي ظل كل المجازر الإسرائيلية في غزة، شكل مقتل رفعت صدمة مدمرة لكثير من الفلسطينيين وأنصارهم حول العالم، الذين حزنوا على فقدانه على منصات التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية المختلفة.
وقالت عبير الحايك، التي عملت بشكل وثيق مع رفعت: “لم يكن رفعت مجرد صديق عزيز، بل كان مفكرًا عميقًا ومصدرًا سخيًا للمعرفة. لقد ترك بصمة لا تُمحى لدى كل من التقى به، سوف يفتقده العالم بعمق و سيفتقدون قصصه وتجربته، سنفتقده كثيراً”.
ووصفته زميلة أخرى له، فداء موسى، بالقول “هو ذلك الشخص الذي كنا نتوجه إليه من أجل الأمل والمعرفة، نظراته العميقة كانت تصل إلى الروح مانحة الجميع شعوراً بالأهمية، من دونه لن نكون كما كنا أبداً. لكننا بكثير من الحب والأسى نقول: رحمه الله وألهمنا الصبر”.
“فلتكن حكاية”
وكما كانت تُعد وفاته شخصية بالنسبة للكثيرين ممن عرفوه في غزة، فإن رحيل رفعت كان بمثابة أمر شخصي بالنسبة لي أيضًا، فقد كان صديقي الذي أصبح فيما بعد أستاذي ثم زميلي.
التقيت برفعت للمرة الأولى في عام 2006 عندما كنا مسافرين خارج غزة عبر معبر رفح، حيث كان هو متجهاً إلى المملكة المتحدة لبدء دراسة الماجستير بينما كنت متجهة أنا إلى الولايات المتحدة كجزء من برنامج التبادل.
كانت تلك الفترة بداية الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة، وكان الخروج من القطاع مهمة مستحيلة، لكنني لا أزال أذكر كيف كان رفعت يمزح ويضحك دائمًا، فقد كان يتمتع بروح الدعابة الفريدة وكان دائمًا ما يجعلنا نضحك بغض النظر عما كنا نمر به.
وبعد سنوات قليلة، أصبح رفعت أستاذي في الجامعة، لكن محاضراته لم تكن تقليدية بأي حال من الأحوال، فليس من المبالغة القول إن رفعت وظّف كل محاضراته تقريبًا لتشجيع طلابه على الكتابة عن الاحتلال ونضالنا كفلسطينيين في غزة، ففي أحد المحاضرات التي أخذتها معه، منح درجات إضافية للطلاب الذين كتبوا قصصهم الخاصة عن حياتهم في غزة.
حتى وأنا أكتب هذه الكلمات، ما زال من الصعب علي تقبل حقيقة أن رفعت قد رحل، إلا أنني أعلم أن مشاركة هذه التفاصيل حول رفعت، ذلك الشخص الديناميكي وليس مجرد رقم من الضحايا، هو ما كان يريد منا أن نفعله، سنفعل كما كان يطلب منا وسوف نروي دائما قصته وقصص الأبرياء الذين اغتالت آلات الحرب الإسرائيلية حياتهم وأحلامهم.
وفي ظل محدودية الوصول إلى الإنترنت، نشر رفعت في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر قصيدة أصبحت مشهورة الآن عن “X” وضعها في أعلى صفحته، شارك فيها كيف يود أن يتذكره الناس، إذا كان لا بد له أن يموت:
لن يكون موته مجرد حكاية كما تمنى فحسب، بل ستبقى حياته حكاية بطل عرف ما تعنيه قوة الكلمات وكيف يستخدمها كأداة للمقاومة.
وفي ظل القصف الإسرائيلي المتواصل، أكد رفعت خلال بث مباشر، في مقابلته الأخيرة، مقاومته للتوغل الإسرائيلي: “أنا أكاديمي، أقوى شيء أمتلكه في هذا المنزل هو القلم، إذا اقتحم الإسرائيليون … فسوف أستخدم ذلك القلم، حتى لو كان هذا هو آخر شيء أفعله.”
قتلت إسرائيل رفعت، لكن أمثاله من الصعب جدًا أن يموتوا، فهو لم يترك كلماته وقصائده و مقابلاته وكتبه ومنشوراته وقصصه فحسب، بل ترك وراءه أيضًا جيلاً من الكتاب والناشطين الذين سيواصلون العمل المؤثر الذي بدأه ولن يسكتوا أبدًا.
صوت رفعت لن يموت أبداً، فغزة سترد دائماً.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)