رمضان غزة… بين ذاكرة الحزن والإصرار على الاحتفال!

بقلم عصام عدوان

ترجمة وتحرير مريم الحمد

مع دخول شهر رمضان المبارك من كل عام، يحتفل المسلمون حول العالم بالزينة والعادات الرمضانية الخاصة، أما الفلسطينيون فيستعدون لما يمكن تسميته ” تقليد العطلات المفضل” لدى الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما يعني جولة جديدة محتملة من الهجمات على غزة يقابلها تصاعد عنف المستوطنين والغارات العسكرية في الضفة الغربية والقدس.

لقد عبر كل شخص قابلته عن نفس الخوف بدون تردد “كل شيء يشير إلى جولة جديدة من التصعيد”

أخذ القلق الفلسطيني بالتصاعد منذ بداية العام 2023، بعد تولي الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة والعنصرية الجديدة للسلطة، فلم تكد تمر أشهر العام الثلاثة الأولى حتى قُتل ما لا يقل عن 88 فلسطيني بينهم 17 طفلاً، وبذلك تكون إسرائيل قد قتلت بالفعل 5 أضعاف ما قتلت من الفلسطينيين خلال عام 2022 كاملاً!

وإذا تحدثنا عن الهجمات في غزة، فهي دائماً ما تتبع ذات الطابع الرمضاني، تبدأ بتقييد وصول المصلين إلى الأماكن المقدسة في القدس أو تصدر إخطارات بأوامر إخلاء وطرد للفلسطينيين من منازلهم في مناطق مختلفة من القدس والضفة، ثم ترد فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة على هذه الاستفزازات عبر الاحتجاج على الحدود الشرقية بواسطة بالونات حارقة أو إطلاق صواريخ محلية الصنع، قد قوبلت من قبل بقصف وحشي على مناطق مكتظة بالسكان .

آخر الاستفزازات

لم تستغرق الحكومة الإسرائيلية الجديدة وقتاً طويلاً حتى بدأت في التحريض على الحرب، ففي أول صلاة جمعة من شهر رمضان، نصبت القوات الإسرائيلية حواجز على الطرق ومنعت مئات الفلسطينيين من دخول المسجد الأقصى، في الوقت الذي حلقت فيه طائرات مسيرة ومروحيات فوق قبة الصخرة، أما في الليلة الرابعة من رمضان، فقد اعتدت قوات الاحتلال الإسرائيلي على المصلين وقطعت صلاتهم واعتكافهم وأجبرتهم على الخروج من المصلى القبلي.

ولا تبدو خطوات الاحتلال الإسرائيلي مستبعدة، ففي وقت سابق من شهر مارس، عبر وزير الأمن القومي اليميني إيتمار بن غفير عن نيته في تأجيج التوترات من خلال إصدار أوامره للشرطة بمواصلة هدم المنازل في القدس الشرقية خلال شهر رمضان، تصريح تسبب في تحذير مسؤولين آخرين في أجهزة الأمن الإسرائيلي من أنها قد تؤدي إلى اضطرابات في الضفة مثل العامين السابقين، حتى أن كبار ضباط الشرطة انتقدوا نهج بن غفير، وقد نقلت صحيفة هآرتس الإسرائيلية على لسان أحدهم “الجميع يحاول تهدئة الأمور لكنه يريد تأجيجها، سلوكه متهور”.

أما على الجانب الآخر، فقد قام بن غفير، الذي اقتحم المسجد الأقصى على حين غفلة متجاهلاً الانتقادات التي وُجهت إليه على إثر ذلك، بانتقاد مسؤولي الأمن الإسرائيليين بسبب خطتهم لمنع دخول اليهود إلى ساحة الأقصى لمدة 10 أيام، واصفاً ذلك بأنه “جنون مطلق واستسلام للارهاب”!

ما بين حريق حوارة جنوبي نابلس قبل أسابيع واستمرار هجمات المستوطنين في الضفة من جانب، والتحريض على حرب محتملة تنبش ذاكرة أهل غزة من جانب آخر، ماذا يقول الفلسطينيون؟ كيف ينظرون للأحداث وما الذي يخيفهم خلال الشهر الفضيل؟ هذا ما حاولت التعرف عليه من حواري مع عدد منهم من مختلف الأعمار والتجارب، فأجمعوا على نفس الخوف، الخوف من تصعيد قادم يشبه ما حصل في السنوات الماضية، ولكن تحت قيادة لا تتورع عن التلويح صراحة بالإبادة الجماعية هذه المرة!

غزة… معاناة مستمرة

في شوارع غزة، ترى وجوه الناس التي أنهكتها سنوات الحرب، تحكي وجوههم القلق العميق والخوف من القادم، فمن الطبيعي أن يكون رمضان شهر السلام والاحتفالات الدينية، ولكنه في غزة مربوط بذاكرة الفقد والحزن والخسارة، فمن عانى من دورة الموت سابقاً، يسأل نفسه هذا العام أيضاً عن ما ينتظره، هل هي العبادة والتجمعات العائلية أم المزيد من الموت والدمار؟!

بعد أن تضع الحرب أوزارها بأسابيع ينسى الجميع في الغالب ما حصل، ولا يعود الأمر ملفتاً لانتباه العالم، لكن أهل القطاع لا ينسون جراحهم، وكأنه لا يبقى من بينهم أحياء إلا شهداؤهم

لا تزال مئات العائلات تبكي على أحبائها الذين قتلوا في رمضان عام 2014 خلال قصف إسرائيلي استمر 51 يوماً متواصلة على القطاع وأودى بحياة 2251 فلسطينياً نصفهم تقريباً من النساء والأطفال.

أذكر جيداً كيف اضطرت عائلتي إلى الفرار من منزلنا مع اقتراب القنابل من منطقتنا، فمشهد نزوحنا مع عائلات أخرى من الحي بحثاً عن الأمان كانت أشبه بقصص النكبة التي نشأت وأنا أسمعها، عندما تم تهجير الشعب الفلسطيني قسراً تحت وابل الرصاص والخوف، راودتني نفس الأفكار التي فكر بها أجدادي عام 1948، ومفادها أن حياتنا لا قيمة لها أمام آلة الحرب!

بدأ الهجوم الإسرائيلي على غزة عام 2021 قبل أيام فقط من أول أيام عيد الفطر، ليقلق أمان الصائمين ويحصد أرواح المئات منهم، ولا يزال الدمار الذي خلفته تلك الحرب يسبب الحزن والألم لأسر الضحايا والجرحى ولا يزال هناك آلاف النازحين الذين خسروا بيوتهم داخل القطاع وما زال بعضهم يحتمي بالمدارس أو الكرفانات، فلم يتم إعادة إعمار منازلهم حتى اليوم، وفي هذا يقول الغزي محمد “لم يعد بإمكاني حتى شراء الفوانيس لأولادي” لأن محمد بات عاطلاً عن العمل!

بعد أن تضع الحرب أوزارها بأسابيع ينسى الجميع في الغالب ما حصل، ولا يعود الأمر ملفتاً لانتباه العالم، لكن أهل القطاع لا ينسون جراحهم، وكأنه لا يبقى من بينهم أحياء إلا شهداؤهم.

فقدان العائلة!

تعد قصة زينب القولاق واحدة من أكثر القصص مأساوية من ذاكرة حرب 2021، حيث فقدت زينب 22 فرداً من عائلتها في لحظة واحدة إثر قصف منزلهم في مذبحة “شارع الوحدة” التي يعرفها كل فلسطيني في غزة، فقد قُتل فيها 42 شخصاً بينهم 16 امرأة و10 أطفال، في تلك الليلة شُطبت عائلات بأكملها من السجل المدني!

تقول زينب “رمضان بالنسبة لي هو موعد تذكر فقد الأحبة”، فبعد أن كانت زينب ترسم كأي طفلة في عمرها بألوان الحياة، صارت لا ترسم إلا الموت الذي يبتلعها على شكل كابوس يومي، فهي تعيش اليوم ما بين ” الفجوة الكبيرة التي تركها الفقد في قلبها” و”نيران الشوق لرؤيتهم” على حد وصفها، وكلما سألتها عن سؤالاً ازدادت حزناً حتى لخصت لي الإجابة في جملة واحدة “كيف أحتفل برمضان مع غياب أسرتي عن مائدة العشاء؟”.

رغم جراح الحرب

في شهر رمضان في غزة، تصبح المسلمات مثل الإفطار مع الأقارب أو الأهل مستحيلة وقت الحرب، بدلاً من ذلك، تصبح القدرة على تناول وجبة الإفطار مقرونة بسماع أصوات الانفجارات عند إلقاء قنبلة أو صاروخ من طائرة حربية إسرائيلية قرب المنزل، في حين تتحول الانشطة الاعتيادية أو الاحتفالية في رمضان مثل المشي على الأقدام والتسوق وحضور صلاة التراويح أو التجمع مع الآخرين، سبباً في جعلك ضمن “بنك الأهداف” الإسرائيلي!

كانت فرحة الأطفال تذكيراً بأن وجودنا البسيط هو شكل من أشكال المقاومة وكيف أن الفلسطينيين يقاومون من أجل الشعور بأنهم على قيد الحياة

أذكر أني قرأت في مقال لهيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي، ما وصف فيه أطفال غزة الذي يشكلون نصف سكان القطاع تقريباً بأنهم “كبروا معتادين على الموت والقصف”، فهم لا يتلقون أي حماية، وبدلاً من الابتهاج بدخول رمضان، من خلال شراء الفوانيس والألعاب النارية، عليهم تحمل الطائرات الحربية أو القنابل أو الصدمات أو حتى الموت.

وبينما أنا مغرق في ذاكرتي وأفكاري الكئيبة، إذ بمجموعة أطفال يمرون من أمامي وهم يحملون فوانيس رمضان، فألهمتني ابتسامتهم بالأمل، كانت فرحتهم تذكيراً بأن وجودنا البسيط هو شكل من أشكال المقاومة وكيف أن الفلسطينيين يقاومون من أجل الشعور بأنهم على قيد الحياة.

وعلى الرغم من خطر الحرب الذي يلوح في الأفق، لا يزال شهر رمضان هو وقت الاحتفال في غزة، فالشوارع تصر على التزين بالزينة والأضواء الملونة، والناس يصرون على التجمع والضحك والصلاة جماعة، حتى أن بعض مخيمات اللاجئين نظمت تجمعات كبيرة لتناول وجبة الإفطار والسحور، فلسان حال الغزيين “سنحتفل بغض النظر عما سيحدث بعد ذلك”.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة