بقلم غادة الحداد
ترجمة وتحرير مريم الحمد
لطالما كان شهر رمضان في غزة، كباقي المدن الإسلامية، وقتًا للتجمعات الاجتماعية المبهجة وتجديد الإيمان ولم شمل الأسرة، إلا أن الحروب الإسرائيلية المتكررة على غزة على مدى عقد من الزمان قد ألقت بظلال قاتمة على هذا رمضان القطاع المحاصر.
لقد خيم الصمت الكئيب على شوارع غزة الليلية النابضة بالحياة، وتحولت الحياة إلى ركام، وتم استبدال الأصوات المبهجة للأطفال الذين يلعبون بصرخات القلب المفجعة لأولئك المحاصرين تحتها
أما هجوم الإبادة الجماعية هذه المرة، والمستمر من 6 أشهر آخذاً معه أرواح 32 ألف فلسطيني حتى الآن، فقد ألحق الدمار بغزة جاعلاً رمضان 2024 أسوأ رمضان يمر بغزة على الإطلاق.
لم أعد أستطيع تمني “رمضان كريم” للناس الذين ألتقي بهم في الشارع، فقد باتت هذه التحيات تبدو غير مناسبة، بل ومشينة حتى، فكل مظهر احتفالي رمضاني تم استبداله بحزن عميق صامت نتيجة الحرب!
في العام الماضي، كنت سعيدة بالحصول على وظيفة براتب لائق لأول مرة في حياتي المهنية، حتى فاجأت كل واحدة من بنات وأبناء إخوتي البالغ عددهم 22 شخصًا بفانوس ملون إيذانًا بدخول الشهر الفضيل، وأقسمت حينها أن أجعل هذه الهدية طقسًا سنويًا، فلم أكن أعلم أن الظروف الخارجة عن إرادتي ستسحق فرحتي بوحشية.
لقد تغير واقع الحياة في غزة بشكل جذري، وسوف يجد العديد من بنات وأبناء إخوتي أنفسهم يعيشون في الخيام ويواجهون الجوع والنازحين بسبب ويلات الحرب، فيما غادر آخرون غزة بالكامل بحثاً عن ملجأ في مكان آخر.
تحولت إلى أنقاض
في السنوات السابقة، كانت الأسابيع التي تسبق شهر رمضان مليئة بالترقب والاستعداد، فالأسر والشركات كانت تزين شرفاتها وواجهات متاجرها بالفوانيس للترحيب بالشهر الكريم، حتى أني أتذكر أن زوجات زوجي كن يساعدنني في تزيين شرفة منزلنا بتلك الفوانيس الصغيرة.
لقد خلق هذا التقليد العزيز جوًا نابضًا بالحياة في جميع الأحياء، فمنظر شوارع غزة المضيئة، والتي تعمل بالمولدات الكهربائية أو الألواح الشمسية أو حتى بالكهرباء المتقطعة، كانت تملأ قلبي بالبهجة، لكن هذا العام جاء مثقلاً بالحزن!
لقد خيم الصمت الكئيب على شوارع غزة الليلية النابضة بالحياة، وتحولت الحياة إلى ركام، وتم استبدال الأصوات المبهجة للأطفال الذين يلعبون بصرخات القلب المفجعة لأولئك المحاصرين تحتها.
في اليوم الأول من شهر رمضان، غامرت بالتجول في الشوارع بحثًا عن بعض مظاهر الماضي، ولكن مع ما رأيته، فقد أصبح الأمل الضئيل الذي كنت أملكه بمثابة إدراك مؤلم لمقدار ما فقدناه، فلم يتبق سوى عدد قليل من الأكشاك مما كان في السابق أسواقًا مفعمة بالحيوية، ولا تعرض اليوم إلا كميات ضئيلة من الليمون والباذنجان والطماطم وصابون الغسيل محلي الصنع، مع وجوه حزينة تبيع وتشتري.
تخيلوا أن سحورنا الأول هذا العام كان مصحوباً بغارات جوية إسرائيلية وقصف مدفعي على دير البلح، فتنهدت أمي: “حتى في رمضان”!
في تلك اللحظة، لم أستطع إلا أن أبكي على فقدان تلك الذكريات العزيزة، فقد تم استبدال الأضواء والفوانيس التي كانت ملونة سابقًا والتي كانت تستخدم لتزيين الطرق بومضات القنابل القاسية والدمار التام.
من ناحية أخرى، أصبحت المساجد، التي كانت مكتظة بالمصلين، إما فارغة أو في حالة خراب، فالأئمة باتوا يدعون الناس إلى العبادة داخل حدود منازلهم أو خيامهم المؤقتة خوفاً على أمنهم، فقد حلت أصوات انفجارات القنابل محل أجواء ليالي رمضان المليئة بصلاة التراويح في المساجد وتلاوة القرآن.
أما الروائح، التي كانت تملأ شوارع غزة ومتاجرها، فقد أصبحت الآن مجرد ذكريات، والأسواق التي كانت مزدحمة، مثل سوق الزاوية الذي يعد أقدم أسواق غزة، فقد تحول كل شيء فيها إلى أنقاض.
“حتى في رمضان”
عندما كنت صغيرة، كنت أتنقل عبر الأزقة الضيقة والمزدحمة في مخيم دير البلح للاجئين أثناء عودتي إلى المنزل من المدرسة، وأنا أسمع أصوات النساء أثناء الطبخ، مصحوبة بأصوات الملاعق وأدوات الطبخ، فكل منزل كانت تنبعث منه رائحة مميزة تنفرد بها الوجبات التي يتم إعدادها بداخله.
صديقتي العزيزة حمدة، التي قُتلت مؤخرًا في غارة جوية على منزلها مع زوجها، كانت تستطيع التعرف على نوع الطبق بناءً على العطر الذي كان ينبعث من كل منزل أثناء الاستعدادات، لقد كنا أنا وهي نعشق تلك الساعة التي تسبق غروب الشمس وصلاة المغرب.
عندما يأتي اليوم الأول من شهر رمضان، لا نفكر كثيراً في الطبق الذي سنختار طهيه، لقد كان دائماً الملوخية، فقد كان هذا الحساء السميك اللذيذ، المصنوع من أوراق نبات الملوخية، بمثابة “الافتتاحية” التقليدية لوجبات رمضان في غزة، فقد كانت أمي، مثل غيرها من الأمهات والجدات الفلسطينيات، تعتقد أن اللون الأخضر النابض بالحياة للملوخية يغرس التفاؤل ويجلب الحظ السعيد خلال الشهر.
لقد كنا ندعو دائماً أن يأتي رمضان دون أن نفقد أحداً من أحبابنا، ولكننا هذا العام فقدنا الكثير من الأصدقاء والأقارب والمنازل، لقد فقدنا حياتنا وذكرياتنا وكل شيء، وهذا العام نحن نصوم عن كل شيء من طعام وابتسامة وصلاة جماعية، لم يبق لنا إلا الحزن والكثير من اليأس
هذا العام مختلف، فلم يعد لدينا ترف الاختيار عندما يتعلق الأمر بوجباتنا، بل أصبحنا، بدلاً من ذلك، نعتمد على عدد قليل من علب المواد الغذائية التي نتلقاها في طرود المساعدات، كما أننا لم نشعر هذا العام بإرهاق اليوم الأول من رمضان، لأننا كنا نعاني بالفعل من الحرمان من الطعام ونقص الضروريات الأساسية لعدة أشهر.
لم يعد الصوم اختيارياً في غزة، صار الجميع مجبر بسبب قلة الطعام والماء، وعلى قول أخي الذي يعمل في أحد المستشفيات: “منذ 5 أشهر ونحن صائمون”.
تخيلوا أن سحورنا الأول هذا العام كان مصحوباً بغارات جوية إسرائيلية وقصف مدفعي على دير البلح، فتنهدت أمي: “حتى في رمضان”!
اعتدنا أن نكافئ أنفسنا بالقطايف، وهي حلوى محبوبة وشعبية في شهر رمضان، لكنها لم تعد متوفرة، حتى الكيلوغرام الواحد من السكر، الذي كان سعره في السابق 8 شيكل (2 دولار)، أصبح الآن 85 شيكل (23 دولاراً)، أما الوجبات المطبوخة من مواد طازجة فقد تحولت إلى موائد من المعلبات!
لم تعد العائلات تجتمع للاحتفال بل للحداد
لقد أدى تدمير المنازل والأسواق والمدارس وفقدان الأحباء وتعطيل الحياة اليومية، إلى خلق صراع في داخلنا مع الألم والخسارة التي لا يمكن تصورها، فلأكثر من 5 أشهر الآن، ما زالت غزة تعاني من المجازر والمرض والمجاعة والتهجير والطرد والعطش.
لقد انتظرت شهر رمضان بفارغ الصبر على أمل أن يكون هذا الشهر الكريم مختلفاً عن سابقيه، غير أن عنف ووحشية العدوان لم تتوقف أو تتراجع مع حلول شهر رمضان.
لقد كنا ندعو دائماً أن يأتي رمضان دون أن نفقد أحداً من أحبابنا، ولكننا هذا العام فقدنا الكثير من الأصدقاء والأقارب والمنازل، لقد فقدنا حياتنا وذكرياتنا وكل شيء، وهذا العام نحن نصوم عن كل شيء من طعام وابتسامة وصلاة جماعية، لم يبق لنا إلا الحزن والكثير من اليأس.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)