بقلم ديفيد هيرست
ترجمة وتحرير مريم الحمد
في العادة، يُتهم الحكام العرب المستبدون بقمع الرأي العام، وعند مواجهتهم بذلك، يقولون أن شعبهم غير مستعد للديمقراطية، وأنهم لا يعملون على قمع المعارضة!
في بريطانيا، منذ أن أصبح كير ستارمر زعيماً لحزب العمال، أدار الحزب وفق أسس أي أمير في الخليج، ومن أجل فرض سياسته القائلة بأن من حق إسرائيل “الدفاع عن نفسها”، منع أعضاء الحزب حتى من المناقشة ونصح ممثلي الحزب المنتخبين بعدم حضور المظاهرات المؤيدة لفلسطين، وذلك ما كشف عنه 8 من أعضاء مجلس العمال في مدينة أكسفورد.
علاوة على ذلك، فقد منع الحزب، وفقاً لأدبيات مؤتمره الأخير، حملة التضامن مع فلسطين من وصف إسرائيل بدولة الفصل العنصري، وحتى اللحظة، يرفض ستارمر الاعتذار أو التراجع عما قاله في مقابلة له مع قناة LBC، حيث صرح بأن من حق إسرائيل قطع الماء والكهرباء عن غزة.
لا يستطيع حزب العمال تحمل تجاهل ناخبيه المسلمين، حيث يعتمد حوالي 20 مقعدًا و11 مجلسًا على أصوات المسلمين، بما في ذلك المدن الكبرى مثل برمنغهام، وبرادفورد، وليدز، ومانشستر، وليستر، ولوتون، وأولدهام
لقد أيده في ذلك آخرون، حيث صرح محامي حقوق الإنسان السابق بالقول “أعتقد أن إسرائيل لديها هذا الحق، إنه وضع مستمر، ومن الواضح أن كل شيء يجب أن يتم في إطار القانون الدولي، لكنني لا أريد الابتعاد عن المبادئ الأساسية التي تتمتع بها إسرائيل، وهي الحق في الدفاع عن نفسها”.
موقف أيدته المدعية العامة في الظل، إميلي ثورنبيري، محامية في مجال حقوق الإنسان، ووزير خارجية حكومة الظل، ديفيد لامي، الذي قال أن حزب العمل “يقف إلى جانب شعب إسرائيل”، ولم يقل شيئاً عن الفلسطينيين.
غضب لم يكن في الحسبان
لم تمر مواقف ستارمر مرور الكرام، فقد فقد الحزب السيطرة على مجلس مدينة أكسفورد بعد استقالة أعضاء مجلس العمال، كما استقال 20 عضو آخر على الأقل من أعضاء مجالس مدن أخرى، أهمها في مدينة ليستر، الأمر الذي تسبب في انتقاد عمدة ليستر، يبتر سولسبي، لستارمر في رسالة جاء فيها “الانطباع المعطى هو أن هذه الإدانة للأحداث الأخيرة تمتد إلى الموافقة دون انتقاد على رد الحكومة الإسرائيلية وتجاهل عقود من الظلم والقمع للفلسطينيين وانتهاكات حقوقهم الإنسانية”.
تؤكد رسالة سولسبي هذه على أنه يتماشى مع مزاج الشارع البريطاني، فقد شهدت بريطانيا أكبر مظاهرات داعمة لفلسطين منذ عام 2003 أيام حرب العراق، حيث تظاهر مئات الآلاف في الشوارع منذ بدأ القصف على غزة.
وفي الوقت الذي منع فيه الحزب أعضاءه من المشاركة في مسيرات مؤيدة لفلسطين، تدور تساؤلات حول حضور وزير التجارة الدولية في الظل عن الحزب، جيمس هارتفليت، مسيرة تأبين لذكرى ضحايا هجمات المقاتلين الفلسطينيين!
على عكس حرب عام 2014، فقد تمت تسوية مناطق سكنية بأكملها بالأرض دون سابق إنذار بالغالب، باستثناء بعض الحالات فقط، التي تم فيها التحذير، كما تم تدمير ما لا يقل عن 30 مسجدًا ومحيت قرابة 30 عائلة من السجل المدني!
من جانب آخر، أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة “يوجوف” أن 76% من الناخبين عامة و89% من ناخبي حزب العمال، تؤيد وقفًا فوريًا لإطلاق النار، فيما رأى 8% فقط من الناخبين عامة و3% من ناخبي حزب العمال، أنه لا يجب وقف إطلاق النار، أما داخل الحزب، فلا يحظى موقف ستارمر إلا بنسبة 1% من التأييد لموقفه.
وبدلاً من الاعتذار، فقد أصدر ستارمر ما أسماه “توضيحاً” لتصريحاته، وذلك على قناة بي بي سي، حيث قال “اسمحوا لي أن أوضح ما كنت أقوله، كنت أقول إن لإسرائيل الحق في الدفاع عن النفس، ولم أكن أقول إن لإسرائيل الحق في قطع المياه والغذاء والوقود والأدوية، بل على العكس من ذلك”.
توضيح لم يقنع أعضاء الحزب المسلمين، فقد كتب عضو اللجنة التنفيذية الوطنية الحاكمة في الحزب، مش الرحمن، “توقفوا عن التلاعب واعتذروا” في إشارة إلى ستارمر، هذا الغضب من قبل المسلمين في الحزب لم يكن بالحسبان!
وفقاً لأحد أعضاء الحزب، قريب من أوساط الجالية المسلمة، يمكن القول أنه “في غضون 7 أيام، يوشك حزب العمال على تفكيك قاعدة ناخبيه الأكثر ولاءً في أي مكان في البلاد، ولا أستطيع المبالغة في تقدير مدى الغضب”، وتصديقاً لكلامه، فقد أظهر استطلاع داخلي لحزب العمال أن 78% من الناخبين المسلمين المسجلين يؤيدون حزب العمال، مما يجعله أكبر كتلة تصويت في أي مكان في البلاد، لكن ذلك يوشك على الاختفاء!
أحد أعضاء الحزب المسلمين وصف المظاهرات الحاشدة بأنها أشبه بما كانت عليه “لحظة حرب العراق”، والاستثناء الوحيد هو أن المسلمين اليوم معرضون لخطر حقيقي يتمثل في الملاحقة القضائية بسبب تعبيرهم عن رأيهم فيما يتعلق بفلسطين، فقد قيل أن النواب يتلقون الآلاف من الرسائل الالكترونية المكتوبة بشكل فردي من قبل المراكز والمساجد والتجمعات الإسلامية، وهو أمر لم يحصل من قبل!
هذه مشاهد أشبه بالزلزال، إلا أن غزة لا تحظى بأي دعم دولي، فمجرد الصمت يسمح لإسرائيل بالاستمرار، بل لقد صرحت إسرائيل منذ الأيام الأولى للهجمة بأنها لن تكون ملزمة بالقانون الدولي في ردها
هناك غضب في المجتمع المسلم، لدرجة أن المساجد ترفض رؤية النواب، فعندما ذهب وزير خارجية حكومة الظل، ديفيد لامي، إلى أحد المساجد، كان استقباله مريعاً، وقبل أيام ، ولمدة 3 ساعات، كان هاتف لامي مزدحماً بالمكالمات المتعلقة بغزة.
لا يستطيع حزب العمال تحمل تجاهل ناخبيه المسلمين، حيث يعتمد حوالي 20 مقعدًا و11 مجلسًا على أصوات المسلمين، بما في ذلك المدن الكبرى مثل برمنغهام، وبرادفورد، وليدز، ومانشستر، وليستر، ولوتون، وأولدهام، ولذلك فهذه ليست قضية فئوية بين اليسار واليمين في الحزب، لقد أصبحت مشكلة انتخابية بالنسبة لحزب العمال.
لا وقف لإطلاق النار
حتى الآن، يرفض ستارمر الدعوة لوقف إطلاق النار، حتى المؤقت منه لإيصال المساعدات الغذائية والطبية إلى غزة، ولكن مع مرور الوقت، سيجد أن التشبث بموقف كهذا سيصبح أصعب، ولذلك، وضع ستارمر زعيم الديمقراطيين الليبراليين، إد ديفي، في صدارة الموقف جنباً إلى جنب مع رئيس أساقفة كانتربري، جاستن ويلبي، والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس وبابا الفاتيكان، حيث دعا ديفي إلى وقف إطلاق النار لإدخال المساعدات إلى غزة، فيما حصل اقتراح برلماني بريطاني يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار على 64 توقيعًا.
عندما سُئل أحد كبار مستشاري ستارمر عن عدد سكان غزة الذين يجب أن يموتوا قبل أن يدعو حزب العمال إلى وقف إطلاق النار، كان رده “على قدر ما يتطلبه الأمر”!
من ناحية أخرى، لم يظهر 8 من كبار المحامين اليهود في الحزب، برئاسة اللورد نيوبرجر، الرئيس السابق للمحكمة العليا، أي تردد في الإعلان، من خلال رسالة إلى صحيفة فاينانشيال تايمز، أن إسرائيل انتهكت القانون الدولي من خلال فرض الحصار على القطاع، وأن العقاب الجماعي محظور بموجب قوانين الحرب، وأن على السياسيين والقادة التأكد من ألا تحمل تصريحاتهم تجاهلاً لقوانين الحرب.
ومن جانبه، فقد أرسل المركز الدولي للعدالة للفلسطينيين (ICJP)، وهو مركز قانوني مقره لندن، إشعارًا لزعيم حزب العمال يبلغه فيه بالنية حول محاكمة أي سياسي بريطاني يتورط في جرائم الحرب في غزة، حيث شددت رسالتهم على أنه “بموجب القانون الجنائي الدولي، يمكن التحقيق في الدعم المقدم لمرتكبي الجرائم الدولية ومحاكمتهم من قبل المحكمة الجنائية الدولية”.
لم يبدأ الغزو البري بعد، ومع ذلك، فقد قُتل بالفعل أكثر من 5 آلاف فلسطيني وجُرح أكثر من 15 ألفاً آخرون منذ 7 أكتوبر، من بينهم أكثر من ألفي طفل وأكثر من ألف امرأة، كما تم قصف المستشفيات والمساجد والمدارس وملاجئ الأمم المتحدة والكنائس.
وعلى عكس حرب عام 2014، فقد تمت تسوية مناطق سكنية بأكملها بالأرض دون سابق إنذار بالغالب، باستثناء بعض الحالات فقط، التي تم فيها التحذير، كما تم تدمير ما لا يقل عن 30 مسجدًا ومحيت قرابة 30 عائلة من السجل المدني!
لقد بلغت الأضرار حدًا جعل العاملين في الدفاع المدني في غزة يعتقدون أن مئات الجثث ما زالت تحت الأنقاض، فقد أشار رئيس إدارة السلامة والوقاية في مديرية الدفاع المدني، محمد فتحي شرير، إلى أنه “نظراً للارتفاع الهائل في عدد الأشخاص تحت الأنقاض، فإن تركيزنا الحالي ينصب على إعطاء الأولوية لإنقاذ الجرحى الأحياء”.
هذه مشاهد أشبه بالزلزال، إلا أن غزة لا تحظى بأي دعم دولي، فمجرد الصمت يسمح لإسرائيل بالاستمرار، بل لقد صرحت إسرائيل منذ الأيام الأولى للهجمة بأنها لن تكون ملزمة بالقانون الدولي في ردها.
وفي محاولته الأخيرة لإجبار مليون شخص على مغادرة النصف الشمالي من القطاع، قام الجيش الإسرائيلي بإلقاء منشورات تبلغ المواطنين فيها بأنه سيتم “تصنيفهم كشركاء في منظمة إرهابية” إذا لم يلتزموا بأوامر إسرائيل بالتحرك جنوبًا، ومثل هذا التصنيف ليس له أي أساس في القانون الدولي.
عندما سُئل أحد كبار مستشاري ستارمر عن عدد سكان غزة الذين يجب أن يموتوا قبل أن يدعو حزب العمال إلى وقف إطلاق النار، كان رده “على قدر ما يتطلبه الأمر”!
ضرر لا يمكن تقديره
لا يقتصر الأمر على تلعثم زعيم حزب يعتبر أمياً في سياسة الشرق الأوسط ومبتدئاً بالساحة الدولية، ولكنه موقف رئيس وزراء بريطانيا المقبل، وبذلك يتسبب ستارمر بضرر لا يمكن تقديره بسمعة بريطانيا في أنحاء العالم العربي والإسلامي.
قام أحد المستشارين في هيئة الخدمات الصحية الوطنية بتلخيص شعور الفلسطينيين في بريطانيا بإشارته إلى أن ستارمر يتعامل مع المسلمين البريطانيين وكأنهم غير موجودين، يقول “نحن مواطنون من الدرجة الثانية في أحسن الأحوال”.
فيما يبدو، فإن ستارمر عازم على جعل بريطانيا متواطئة في إبادة جماعية، وهذه هي المرة الأولى التي تتواطأ فيها بريطانيا في عمل عسكري إسرائيلي مباشر منذ أزمة السويس عام 1956.
ستارمر رجل جبان بطبيعته ويتأثر بسهولة بالمصالح الخاصة، ولذلك من المرجح أن يخبر نوابه في الأيام المقبلة عن حبه للشعب الفلسطيني، كما أنه سيكون حريصاً على التقاط صورة في مسجد بعدما تجاهل طلب مقابلته مع مجموعات فلسطينية طوال فترة الجدل الذي كان دائراً حول معاداة السامية داخل حزب العمال.
اضطر للسفر إلى مركز الجالية الإسلامية في جنوب ويلز ليشاهده الجميع وهو يصافح المسلمين البريطانيين، والأسوأ من ذلك أنه عندما وصل إلى هناك، غرد بأنه كرر دعواته للإفراج عن الرهائن.
هذه اللفتات تمثل خروج ستارمر عن النص، فذلك لم يكن في المذكرة التي قدمها له مساعدوه، وكان الانطباع الذي أعطاه في منشوره هو أن جميع المسلمين مسؤولون عن مصير رهائن حماس، وتلك كارثة أخرى، لكن ستارمر أصم ومتخبط.
كل الطرق التي اتبعها لن تخفف من الغضب الذي خلقه، فقد أصبحت غزة الاختبار الأول لتطلعاته إلى أن يصبح رئيس وزراء بريطانيا المقبل، ولكنه فشل مبكراً بالفعل في هذا الاختبار بشكل دراماتيكي، وسوف نشعر جميعنا في بريطانيا بعواقب هذا الفشل لأجيال قادمة.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)