بقلم ديانا دارك
يصعب استيعاب حجم الكارثة الهائل الذي تسببت به سلسلة الزلازل المدمرة في جنوب شرقي تركيا وشمال غرب سوريا مؤخراً، لا سيما في منطقة عانت بالفعل من أزمات الحروب والنزوح والجفاف والأمراض، ما كان ينقصها إلا الزلزال ليضيف معاناة جديدة فوق طبقات الثلوج، الأمر الذي زاد من صعوبة جهود الإنقاذ، وترك الآلاف من الأرواح تتجمد في العراء بلا مأوى.
ربما لا يستوعب حجم المأساة من هو بعيد عن المنطقة، أما أنا فقد زرت المنطقة مراراً وتكراراً على مدار عقود عدة، ولذلك أشعر بأن هناك حاجة ماسة لمزيد من الشرح عن الأوضاع الإنسانية هناك، في محاولة لجعل الجميع يدرك مدى ارتباطنا جميعاً بالتاريخ المنسي والإرث الثقافي المشترك في تلك البقعة من العالم.
لقد حدثني أصدقاء من المنطقة عن منازلهم التي رمموها حديثاً بعد الحرب، والآن تضررت مرة أخرى بفعل قوة الزلزال
في تسعينيات القرن العشرين، وفوق إطلالة على أرض عشبية خصبة، تم اكتشاف أقدم المعابد في العالم، على قمة “غوبكلي تبه” شمال مدينة شانلي أورفا الواقعة جنوب شرقي تركيا والذي بناه البدو الصينيون قبل أكثر من 12 ألف سنة، الأمر الذي أدى إلى قلب جميع التصورات السابقة عن تاريخ الإنسان الأول رأساً على عقب، بعدما ما كان العالم يعتقد أن أقدم مكان هو موقع “ستونهنج” في بريطانيا والذي يعود عمره إلى 6 آلاف سنة قبل الميلاد، بالإضافة إلى اكتشاف معابد تعود لذات الحقبة شمال سوريا.
يذكر أنه قد تم اكتشاف تلك المعابد لأول مرة على يد عالم الآثار الألماني كلاوس شميدت عام 1994، ولكنه توفي قبل أن يرى اكتشافه مدرجاً على قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو بعد سنوات.
في قائمة التراث العالمي
عام 2021، أضافت منظمة اليونسكو موقع “أصلان تبه” قرب مدينة ملاطية التركية بمحاذاة نهر الفرات، والذي يعود لأواخر حقبة الحضارة الحثية، إلى القائمة لأهمية الموقع الذي يدلل على ظهور مجتمع دولة لأول مرة في الشرق الأدنى، كان يقوم على نظام بيروقراطي متطور سبق عصر الكتابة، بالإضافة إلى احتوائه على أقدم أنواع السيوف المعروفة في العالم، مما أكد على وجود شكل منظم للقتال استخدمته النخبة السياسية للحفاظ على سلطتها السياسية آنذاك.
مطلاً على نهر دجلة، يقع موقع آخر أضافته منظمة اليونسكو إلى قائمتها عام 2015، جدرانه مكونة من صخور البازلت وتحتضنه مدينة ديار بكر، إحدى المدن التي تضررت من الزلزال الأخير، ويعد هذا الموقع أيضاً جزءاً من منطقة الهلال الخصيب، وقد كان مركزاً إقليمياً مهماً يفترش السهول الخصبة عبر العصور الهلنسية والرومانية والفارسية والساسانية والبيزنطية والإسلامية حتى العثمانية، ولا يزال جسر الموقع “ذي العيون العشر” الذي بناه السلاجقة عام 1065 يمتد فوق نهر دجلة.
ويعد موقع “زيوعما” المشهور بالفسيفساء على نهر الفرات، دليلاً آخر على ازدهار المنطقة منذ القدم، فقد كان الموقع ذات يوم بلدة حدودية مزدهرة على الأطراف الشرقية للإمبراطورية الرومانية، وحامية ضمت 5 آلاف جندي للدفاع عن المنطقة ضد الفرس في القرنين الثاني والثالث للميلاد، وكانت المنطقة تُعرف أيضاً باسم “بلقيس”، في إشارة إلى ملكة سبأ وثروتها الأسطورية.
نجت فسيفساء “زيوغما” المذهلة، إلى جانب مواقع أخرى، من الفيضانات التي سببها سد “بيرجيك” على نهر الفرات في السابق، تم استخدامها بعضها في كساء أرضيات قصور الأغنياء بعد ذلك، فيما تم الاحتفاظ بالبعض الآخر في متحف جديد تم بناؤه لهذا الغرض في مدينة غازي عنتاب، إحدى المدن التي أصابها الزلزال الأخير.
من يعرف حلب، سيعرف أن في غازي عنتاب من روح المدينة السورية الأكثر شهرة، ففي سنوات النزوح الأخيرة، لجأ الكثير من السوريين إلى غازي عنتاب كوجهة مفضلة لديهم، وبالأيام التي سبقت الحدود المصطنعة التي فرضتها بريطانيا وفرنسا بعد الحرب العالمية الأولى، كان بين المدينتين ارتباط وثيق، فمدينة غازي عنتاب التي تعتبر الأكثر تطوراً من بين مدن جنوب شرقي تركيا وعاصمة الفستق في العالم، تضم حياً قديماً حول قلعتها السلجوقية البارزة وقد بنى الحاكم العثماني لحلب معظمها، وهي، مثل حلب، يسكنها خليط من المسلمين والمسيحيين الذين كانوا أكثر عدداً في العهد العثماني، إلا أن كنائسهم وقصورهم لا تزال مبعثرة في الحي المسيحي القديم في المدينة، وأحياناً يتم تحويل بعضها إلى أماكن للاستماع إلى الموسيقى أو فنادق صغيرة.
مفارقات عند الحدود
لا تعترف الزلازل بالحدود السياسية، فمثلما تشاركت المدينتان تاريخاً وثيقاً، حيث كانت غازي عنتاب جزءاً من ولاية سوريا العثمانية حتى عام 1922، فقد تشاركا أيضاً ما تعرضت له القلعة التاريخية والحي التاريخي وسط كل منهما إلى أضرار جسيمة، فلقد حدثني أصدقاء من المنطقة عن منازلهم التي رمموها حديثاً بعد الحرب، والآن تضررت مرة أخرى بفعل قوة الزلزال.
عند سفح قلعة حلب، يقع جامعها الأموي الكبير، والذي كان قيد الترميم بتمويل من رئيس الشيشان رمضان قديروف قبيل الزلزال الذي تسبب بأضرار في جدران الجامع ومئذته السلجوقية التي يعود عمرها لأكثر من ألف عام مضى، وقد نجت بأعجوبة من زلازل سابقة، ولكنها انهارت في حريق حصل عام 2013، فجرى إعادة بنائها لتتضرر من جديد.
مفارقة حدودية أخرى إن صح التعبير، كانت محافظة هاتاي الواقعة جنوب شرقي تركيا جزءاً من سوريا حتى عام 1939، فقد كانت تُعرف باسم سنجق أو لواء اسكندرون، وقد تم دمجها في سوريا تحت الانتداب الفرنسي عام 1918 بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، لكن الفرنسيين أعطوها لتركيا ليظل الاتراك على الحياد إذا تقدمت ألمانيا نحوهم لمواجهة جديدة، أما اليوم، فإن هاتاي باتت تفتخر بمتحف فسيفساء “زيوغما” العظيم في عاصمتها أنطاكية، التي ضربها الزلزال أيضاً، فقد بنى الفرنسيون المتحف خلال انتدابهم، وتم مقاربته منذ الأيام الأولى لإنشائه بمتحف “باردو” الفرنسي في تونس.
في هاتاي أيضاً، تأسست كنيسة القديس بطرس المنحوتة في قلب المنحدرات الصخرية عام 47 للميلاد كأول كنيسة بعد القدس، حتى قبل وصول المسيحية، كانت المنطقة مختلطة تُسمع فيها اللغات اليونانية والعبرية والفارسية واللاتينية بين الناس، وفي ذلك كتب المؤرخ الروماني ليبانيوس “إذا كان هدفك من السفر هو التعرف على الثقافات وأنماط الحياة المختلفة، يكفي أن تزور أنطاكية، لا يوجد مكان في العالم فيه العديد من الثقافات في مكان واحد”
حركة الحضارات
حتى اليوم، لا تزال ثقافات سكان المنطقة مختلطة للغاية، تمتزج مجتمعات كبيرة مسلمة ومسيحية معاً، ففي المنطقة قلعة “المرقب” الصليبية المبنية من صخور البازلت، وقد تضررت أجزاء منها بفعل الزلزال أيضاً، يجدر بالذكر أنها كانت بالأصل معقلاً عربياً محصناً عام 1062، استولى عليها البيزنطيون عام 1104 وبيعت إلى فرسان “الاسبتارية”، سقطت بعد حصار الجيش المملوكي لها عام 1285، وحافظ عليها السلطان قلاوون.
تلك الصفائح التكتونية للحضارات القديمة التي كافحت من أجل البقاء هي التي تشكل ما نحن عليه اليوم
لقد لعبت حركة الحضارات، المليئة بالتقلبات والانعطافات الكبيرة مثل الحروب والزلازل في هذه المنطقة، دوراً اساسياً في موازين القوى التي ظلت تتغير باستمرار على مدار التاريخ في هذه المنطقة الاستراتيجية الكبيرة، وبالنظر إلى الكوارث الكبيرة اليوم في جنوب شرقي تركيا وشمال غرب سوريا، يستحيل التنبؤ بتأثير الكارثة الحالية على تشكل مستقبل المنطقة مستقبلاً.
بدون وجود دعم دولي كبير وواضح، من المرجح أن يعيق المشهد السياسي في كلا البلدين التقدم في تقديم المساعدة الضرورية للمنكوبين، كما أن حملة الترميم للمواقع الأثرية التي كانت تجري مؤخراً في سوريا ستصبح في آخر قائمة الأولويات، ورغم ذلك، يظل شيء واحد مؤكد، وهو أن تلك الصفائح التكتونية للحضارات القديمة التي كافحت من أجل البقاء هنا قد شكلت ما نحن عليه اليوم.
لقراءة المقال من مصدره الأصلي باللغة الانجليزية:
https://www.middleeasteye.net/opinion/turkey-syria-earthquake-birthplace-civilisation-strike