في يوم عادي من عام 1982، بينما كان يتجول في المكتبة التي يديرها هو ووالده في وسط القاهرة بحثًا عن مساحة لتخزين مجلدات جديدة، اكتشف الجيولوجي الذي تحول إلى أمين مكتبة، إدوارد لامبيليت، صندوقًا كبيرًا تعلوه طبقة من الغبار.
كان لامبيليت قد ترك وظيفته مؤخرًا في شركة “Shell” العملاقة للنفط كي يتفرغ للعمل بالمكتبة، ليجد نفسه يحاول استكشاف مكان يعرفه والده كما يعرف ظاهر يده.
وبينما كان يبحث بزوايا المكتبة، عثر لامبيليت على مجموعة كبيرة من لوحات التصوير الزجاجية داخل ذلك الصندوق المهجور.
ويقول: “سألت والدي ما هذا الشيء؟ فقال لي إنها أشياء قديمة، صوراً قديمة، يمكنك التخلص منها إذا أردت، أما أنا فلم أستطع فعل ذلك”.
#أماكن_لا_بد_من_زيارتها
«لينرت ولاندروك».. مكتبة تمازج الحضارات في مصر#via @AlBayanNewshttp://t.co/EkxwznjlxN pic.twitter.com/F7DhmdQ8K7
— Naufal Books (@NaufalBooks) August 3, 2015
ويعلق لامبيليت، الذي يبلغ من العمر 85 عامًا الآن، بالقول: “الحمد لله أنه لم يفعل”.
وما أن نظر لامبيليت داخل الصندوق، تفاجأ برؤية عمل فني يعود لعقود من الزمن من أعمال استوديو صور شهير أسسه رودولف لينيرت وإيرنست لاندروك في القاهرة عام 1924.
اشتهر الاستوديو بسمعة مرموقة وصنع لنفسه اسماً رائداً وإرثاً يضم مجموعة من حوالي 6500 صورة تقدم رؤية غير عادية لمصر وشمال إفريقيا في مطلع القرن الماضي.
وُلد لينيرت في ما يُعرف اليوم بجمهورية التشيك في عام 1878، بعد أن أنهى دراسته في فنون الجرافيك في فيينا، ثم انطلق في رحلة طويلة سيرًا على الأقدام، وبيده الكاميرا التي أخذته أولاً إلى باليرمو ثم إلى تونس على متن قارب في رحلة استمرت لما يقرب من 20 ساعة.
كان التقاط الصورة في ذلك الوقت عملية طويلة ومعقدة، لكن لينيرت سرعان ما اكتشف أن الأمر في تونس كان أسهل بكثير بسبب الإضاءة، وبدأ يقع في حب سحر المكان.
وبعد أن عاش في تونس لمدة عام، عاد لينيرت إلى سويسرا، وهناك التقى بالصدفة بلاندروك، المولود في ساكسونيا الألمانية أيضًا في عام 1878.
قرر الاثنان بدء عمل تجاري معًا، وعادا إلى تونس في عام 1904، واستطاع لينيرت أن ينتج صوراً مميزة لاستخدامه الضوء والظل بالإضافة إلى تصويره الواحات الخصبة والصحاري والنساء التونسيات.
لكن مغامراتهما في تونس انتهت بشكل مفاجئ مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، خاصةً وأنهما كانا يتحدثان بالألمانية ويتجولان بالكاميرا، فهذا جعلهما في ذلك الوقت من الجواسيس المحتملين بشكل تلقائي تقريبًا، لذلك تم اعتقالهما من قبل الفرنسيين وإرسالهما إلى سويسرا.
وعندما قرر الفنانان حزم أمتعتهما والمضي قدمًا في التنقل مرة أخرى، توجها إلى وجهة جديدة، هذه المرة إلى مصر.
تصوير الحياة في مصر
وفقًا لـ لامبيليت، كان الاثنان حريصين على التوجه إلى مصر والتقاط صور الحياة هناك، مفتونين بما سيجدانه.
وقال لامبيليت: “هناك قصة تتداولها العائلة لدينا تقول أن اكتشاف قبر توت عنخ آمون [عام 1922] هو ما دفع الفنانين للتوجه إلى مصر”.
وأضاف أنه عقب وصولهما إلى مصر، قسم الاثنان عملهما وكان لينيرت مسؤولاً عن السفر في جميع أنحاء مصر والتقاط الصور، بينما كان لاندروك يدير استوديو تصوير في قلب القاهرة.
وبعد ست سنوات من العمل المكثف، قرر لينيرت العودة إلى تونس وسلم حقوق الطبع والنشر الخاصة بصوره إلى لاندروك الذي بقي في القاهرة واستمر في عمله في شارع شريف الصاخب، حتى نقل الإرث لاحقًا إلى ابن زوجته كورت لامبيليت.
في نهاية المطاف، صنع لينيرت لنفسه اسمًا كمصور بورتريه شهير في تونس قبل أن ينتقل إلى واحة قفصة الجنوبية، حيث توفي عام 1948.
وخلال تلك الفترة، ذهب لاندروك في إجازة إلى ألمانيا عام 1939 وعلق هناك عند وقوع الحرب العالمية الثانية، وبحلول الوقت الذي انتهى فيه الصراع، شعر بالضعف الشديد وأنه لا يستطيع العودة إلى مصر.
ومنذ ذلك الحين، كان كورت، والد إدوارد لامبيليت والوحيد الذي لم يغادر القاهرة مطلقًا، هو الذي تولى مسؤولية مواصلة العمل، وإنقاذ إرث ذلك الاستوديو.
إعادة اكتشاف الصور واستعادتها
عندما وجد الألواح الزجاجية، لم يكن لدى لامبيليت أي فكرة عما يجب فعله بها، لذلك طلب من موظف يمتلك بعض المعرفة بالتصوير محاولة تطويرها في مختبر صغير بواسطة آلات قديمة احتفظوا بها في المتجر.
وقال لامبيليت: “أعطيته عشرة أطباق زجاجية في كل مرة، كانت ثقيلة جدًا، وطلبت منه أن يصنع نسختين من كل واحدة، لقد تمكن من القيام بعمل رائع، فقط بهذه المعدات القديمة والورق الرهيب، لقد كنت مندهشا جداً.”
وعندما طوروا عددًا لا بأس به من الصور، ظهرت قصة “الكنز الدفين” في صحيفة ليبراسيون الفرنسية، وارتفع الطلب بشكل كبير.
وبعد فترة وجيزة، اتصل لامبيليت بمتحف الصور (بالأبيض والأسود) في مدينة لوزان السويسرية، ومتحف الإليزيه، واتفقا على إرسال وإيداع أكثر من 300 كيلوغرام من اللوحات الفوتوغرافية والأفلام وغيرها من الوثائق الأصلية من المجموعة الفنية.
وكانت مهمة استعادة الصور إلى حالتها الأصلية بجودة عالية من نصيب المصور الكندي الشاب كريس لانغتفيت، الذي كان مهتمًا بتقنيات التطوير القديمة، وعرض عليهم إنتاج شرائط صور (نيجاتيف) لجميع الألواح الزجاجية، بما في ذلك تلك الموجودة بالفعل في لوزان.
وعلّق لامبيليت على ذلك قائلاً: “لقد صمم نظامًا اتضح أنه كان ناجحًا للغاية”.
وكشفت المجموعة الفنية، التي تتكون من 6500 صورة، عن قصص مختلفة من جميع أنحاء مصر امتدت إلى مدن من جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك الأقصر وكوم أمبو وإدفو وأسوان في الجنوب، والإسكندرية والقاهرة وقناة السويس في الشمال.
إن الإرث الذي خلفته المجموعة يعود إلى حد كبير إلى مصر التي لم تعد موجودة، فالصور الخاصة بالقاهرة على سبيل المثال أظهرت صورًا جميلة لفندق شبردز الشهير، والذي يعتقد أنه كان “أفضل فندق في الشرق الأوسط في ذلك الوقت”.، كما يقول لامبيليت.
ومن الشواهد الأخرى على تلك الحقبة الماضية، صور المنطاد التي يقول لامبيليت إنها وصلت إلى مصر في عام 1931 وعرضت رحلات يومية باهظة الثمن من محطة المازة، ثم بالقرب من القاهرة، إلى القدس عبر سماء سيناء ثم العودة.
وفي الإسكندرية، فإن بعض أثمن الصور الفوتوغرافية هي تلك الخاصة ببورصة القطن والأوراق المالية القديمة في المدينة، والتي كانت ذات يوم واحدة من البورصات الرائدة في العالم، ولكنها احترقت أثناء أعمال الشغب في عام 1977 وتم هدمها في عام 1982.
ويقول لامبيليت: “اليوم، هذه كلها وثائق تاريخية”.
تظهر صور لينيرت أيضًا كيف كان شكل الريف المصري منذ قرن مضى، بما في ذلك تقنيات الري القديمة مثل الشدوف، وهو نظام ثقل موازن مصنوع من عمود خشبي طويل مع وعاء في جهة، وثقل في الجهة أخرى.
وأصبحت صور لينرت ولاندروك شائعة جدًا لدرجة أنها ظهرت على العديد من الأوراق النقدية المصرية في أوائل القرن العشرين.
ومع ذلك، فلم يكن من السهل تحديد كل القصص وراء تلك الصور، فبالنسبة للبعض، فقد ثبت أنه يمثل لغزًا أكبر بسبب عدم وجود مستندات مكتوبة.
وبعد تقييم الصور، يعتقد لامبيليت أن هناك حوالي 200 صورة لم يكن من الممكن أن يلتقطها لينيرت، بل لا بد وأنه قد تم شراؤها أو تأمينها من قبل مصور من المتحف المصري للآثار.
إرث حي
واليوم، يستمر إرث لينرت ولاندروك كفن حي يجذب الزوار الفضوليين والمعجبين على حد سواء إلى متجر يقع بعيدًا في شارع مزدحم في قلب القاهرة.
هناك، داخل مختبر متواضع، يواصلون عمل المطبوعات اليدوية لصور لينيرت، باتباع ذات أسلوبه وباستخدام مواد داخلية من الألواح الزجاجية الأصلية.
ويقول لامبيليت: “يأتي عدد قليل من العملاء، لكن الأشخاص المهتمين حقًا بهذه الصور يشترون عددًا كبيرًا”.
وبمناسبة اقتراب الاحتفال بمرور 100 عام على تلك المجموعة في مصر، يحرص لامبيليت على وضع اللمسات الأخيرة على كتابه الذي يحكي قصة تلك المجموعة كي يصبح جاهزاً للنشر في شهر كانون الأول/ ديسمبر من العام المقبل.
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)