بقلم سامي العريان
ترجمة وتحرير مريم الحمد
قبل أسابيع، شنت إسرائيل جولة جديدة من الضربات الجوية على سوريا فضربت أهدافاً قرب دمشق وحمص ومحافظة السويداء الجنوبية، باعتبارها هجمات على قوات الحكومة السورية وتحت ذريعة حماية الأقلية الدرزية، ولكنها في الحقيقة تهدف إلى تعزيز حملة النظام الصهيوني المستمرة للهيمنة الإقليمية وتفتيت المنطقة.
منذ سقوط بشار الأسد في ديسمبر عام 2024، وسعت إسرائيل عدوانها واحتلت أكثر من 400 كيلومتر مربع إضافية من الأراضي السورية ودمرت ما تبقى من البنية التحتية العسكرية للبلاد، ويأتي هذا التصعيد في الوقت الذي تستمر فيه حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على غزة.
من جانبها، نفذت الولايات المتحدة ضربات جوية وغارات ودعمت القوات الكردية في شمال شرق البلاد وسهلت الهجمات الإسرائيلية، كل ذلك من أجل الحفاظ على موطئ قدمها في سوريا ومنع صعود أي قوة يمكن أن تتحدى نظامها.
من خلال هذه الخطوات، فإن الولايات المتحدة تعطي الأولوية للسيطرة الجيواستراتيجية وحماية مصالحها في مجال الطاقة والأمن في المنطقة، في حين تسعى إسرائيل إلى تقسيم سوريا إلى جيوب عرقية وطائفية كجزء من استراتيجية عمرها عقود من الزمن لتفتيت العالم العربي وتعزيز هيمنتها الإقليمية.
لقد اتبع الطرفان الأمريكي والإسرائيلي هذه السياسة كنهج منذ بداية الحرب السورية في عام 2011، وفي جوهرها يكمن هدف مشترك وهو تفكيك سوريا كدولة موحدة ذات سيادة وضمان عدم قدرة أي جهة فاعلة إقليمية أو عالمية على تحدي النظام الأمريكي الإسرائيلي في الشرق الأوسط.
تقسيم سوريا
يمكن إرجاع استراتيجية إسرائيل في العالم العربي إلى الأيام الأولى للدولة الصهيونية، حيث دعت وثائق إستراتيجية إسرائيلية داخلية تعود إلى الخمسينيات إلى إقامة دولة كردية كحاجز ضد القومية العربية.
تبلورت هذه الرؤية في وقت لاحق في خطة ينون لعام 1982، والتي وضعها المسؤول السابق في وزارة الخارجية الإسرائيلية، عوديد ينون، حيث دعت الخطة إلى “تقسيم سوريا إلى مناطق للأقليات العرقية والدينية باعتبارها الهدف الرئيسي لإسرائيل على الجبهة الشرقية على المدى الطويل، وبذلك سوف تتفكك سوريا إلى عدة دول على غرار بنيتها العرقية والدينية”.
لقد زعمت خطة ينون بأن أمن إسرائيل وهيمنتها يعتمدان على تفكك الدول العربية إلى كيانات طائفية وعرقية أصغر، بما في ذلك الدروز والعلويين والأكراد والمارونيين والأقباط وغيرهم، فكان الهدف هو استبدال الدول العربية القوية والمركزية بدويلات ضعيفة ومقسمة لا تشكل أي تهديد على إسرائيل بل وتصبح فيه هذه الأقليات حلفاء أو وكلاء تحت الحماية الإسرائيلية.
“تركيا سوف تتدخل ضد أي محاولات لتفتيت سوريا أو السماح للجماعات المسلحة بالحصول على الحكم الذاتي، ونحن نحذركم: لا ينبغي لأي مجموعة أن تشارك في أعمال تهدف إلى التقسيم” – هاكان فيدان- وزير الخارجية التركي
في حالة سوريا، تتضمن هذه الاستراتيجية تقسيم البلاد إلى 4 مناطق نفوذ رئيسية، أولها وطن للدرز يتمركز في السويداء في جنوب سوريا، حيث تأمل إسرائيل في تعزيز دويلة صغيرة متحالفة مع الدروز تحت نفوذها، والثانية دويلة علوية في المنطقة الساحلية تحت الحماية الروسية تتمركز حول اللاذقية وطرطوس.
أما الدويلة الثالثة فمنطقة كردية في شمال شرق سوريا بدعم من الولايات المتحدة، حيث يسيطر حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) ووحدات حماية الشعب (YPG) على مساحات واسعة من الأراضي، والرابعة حزام عربي سني تحت النفوذ التركي خاصة على طول الحدود الشمالية والشمالية الغربية وقلب الأرض.
ويخدم نموذج التقسيم هذا الأهداف الإسرائيلية بشكل مباشر من خلال إبقاء سوريا ضعيفة ومنقسمة وغير قادرة على النهوض كلاعب إقليمي قادر على دعم المقاومة الفلسطينية أو معارضة التوسع الإسرائيلي، فقد كانت هذه الفكرة جزءاً لا يتجزأ من الاستراتيجية الصهيونية في الشرق الأوسط منذ فترة طويلة.
كتب أحد المفكرين الصهاينة الأكثر نفوذاً ومستشاري المسؤولين الأمريكيين والإسرائيليين، برنارد لويس، في عام 1992: “معظم دول الشرق الأوسط معرضة لمثل هذه العملية، فإذا تم إضعاف القوة المركزية بالقدر الكافي، فإن الدولة تتفكك وتتحول إلى فوضى من الطوائف والقبائل والمناطق والأحزاب المتقاتلة والمتناحرة”.
سوريا المتعثرة
منذ عام 2013، يشن النظام الصهيوني حملة جوية متواصلة على الأراضي السورية، غالباً بحجة استهداف مواقع إيرانية أو حزب الله، وبعد 7 أكتوبر عام 2023، توسعت هذه الهجمات لتشمل اغتيال كبار القادة الإيرانيين وحزب الله على الأراضي السورية كجزء من هجوم أوسع على ما يسمى بـ “محور المقاومة”، حيث استهدف حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله والقوات المتحالفة في جميع أنحاء المنطقة، بما في ذلك سوريا.
إن الجهود التي تبذلها إسرائيل لزعزعة الاستقرار في سوريا تعكس الحصار والدمار الذي تفرضه على غزة وتهدف إلى إضعاف قوى المقاومة وتسريع الخطة طويلة الأمد لتقسيم البلاد.
بمرور الوقت، دمرت إسرائيل أنظمة الدفاع الجوي السورية ومستودعات الأسلحة والقواعد العسكرية ومراكز البحث العلمي، وفي الأشهر الأخيرة، سعت هذه الاستراتيجية إلى ردع إيران ومنع سوريا من إعادة بناء قدرتها العسكرية وفرض التفوق العسكري والنفسي الإسرائيلي الدائم في المنطقة.
التحكم في سوريا
تتوافق استراتيجية الولايات المتحدة في سوريا مع استراتيجيتها الكبرى في فترة ما بعد الحرب الباردة المتمثلة في منع أي منافس إقليمي أو عالمي من اكتساب الأرض.
خلال الحرب الباردة، نظرت واشنطن إلى سوريا، وخاصة في عهد الرئيس السابق حافظ الأسد، كدولة عميلة للاتحاد السوفييتي وداعمة للقضايا القومية العربية والمقاومة الفلسطينية والتحالفات الإقليمية المعارضة للنفوذ الأمريكي.
بعد غزو العراق عام 2003، سعت الولايات المتحدة إلى عزل سوريا ومنعها من ملء الفراغ الإقليمي الذي خلفته الإطاحة بصدام حسين، فمنذ الانتفاضة السورية عام 2011، تبنت الولايات المتحدة سياسة المشاركة الانتقائية، وذلك بدعم القوات الكردية في شمال شرق البلاد تحت ستار مواجهة الجماعات المتطرفة والحد من النفوذ الإيراني، مع السماح بضربات إسرائيلية.
من جهة أخرى، قد يبدو بأن هدف الولايات المتحدة دعم التقسيم الفعلي لسوريا، إلا أن هدفها ليس بالضرورة التفتت العرقي على النمط الإسرائيلي، بل تسعى بدلاً من ذلك إلى الحفاظ على وجود عسكري وسياسي يمنع وصول روسيا وإيران إلى شرق البحر الأبيض المتوسط ويضمن تماشي أي حكومة سورية مستقبلية مع المصالح الاستراتيجية لواشنطن.
ويسلط التصعيد الأخير في مدينة السويداء الجنوبية ذات الأغلبية الدرزية الضوء على اهتمام إسرائيل بإقامة جيب موالٍ لها على طول جبهتها الشمالية، وهو هدف يتوافق مع استراتيجية خطة ينون المتمثلة في إقامة تحالفات مع الأقليات التي قد تفضل الحكم الذاتي تحت رعاية إسرائيل.
في الوقت الذي تسعى فيه إسرائيل إلى إنشاء هذه الدويلة، فإن الولايات المتحدة تتوخى الحذر، فتدعو إلى الهدوء ولكنها تتجنب أي إدانة وتشعر بالقلق من ردود الفعل العنيفة في الدول المجاورة وبين المجتمعات الدرزية داخل إسرائيل، كما أنها تخشى من أن يؤدي المزيد من التشرذم إلى تقوية الجماعات المتطرفة أو فتح الباب أمام المكاسب الروسية والإيرانية.
بالمحصلة، تفضل الولايات المتحدة سوريا مقسمة ومسيطر عليها وضعيفة بالدرجة الكافية لتكون خاضعة ولكن ليست منهارة بالكامل، حيث تستطيع الاحتفاظ بنفوذها من دون إثارة حالة من عدم الاستقرار الإقليمي على نطاق أوسع.
أما إسرائيل، فهي أكثر استعداداً لإثارة الفوضى، إذا كان ذلك يعني إزالة سوريا بشكل دائم من كونها تهديداً محتملاً، خاصة بعد أن ضمت بالفعل مرتفعات الجولان السورية.
حصة تركيا
تلعب تركيا دوراً حاسماً في عملية إعادة الإعمار الحالية في سوريا، فقد سعت أنقرة في البداية إلى تغيير النظام في دمشق من خلال دعم جماعات المعارضة والفصائل المسلحة، وبعد المحاولات الفاشلة لإطاحة الأسد والمخاوف المتزايدة بشأن الحكم الذاتي الكردي بالقرب من حدودها، حولت تركيا تركيزها فانتقلت القوات التركية إلى أجزاء من شمال سوريا، حيث تدعم الميليشيات العربية السورية والتركمانية من أجل التحقق من النفوذ الكردي والحد منه.
يكمن الخطر في ظل كل ذلك في معاناة الشعب السوري التي طال أمدها وتآكل السيادة العربية واحتمال انفجار صراع أوسع نطاقاً، فما لم تعمل الجهات الفاعلة الإقليمية وخاصة تركيا على تشكيل استجابة منسقة، فإن تقطيع أوصال سوريا قد يتحول إلى واقع دائم وهو ما يحقق المخطط الصهيوني القديم المتمثل في شرق أوسط ممزق ومذعن!
منذ الإطاحة بالأسد، أصبحت تركيا القوة الرئيسية الداعمة والمساندة للنظام السوري الحالي، وتختلف هنا مصالح تركيا عن مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل، اللتين ركزتا على تمكين الميليشيات الكردية والانفصاليين الدروز، ففي حين دعمت كل من الولايات المتحدة وإسرائيل الجهات الكردية كثقل موازن للأسد وإيران، فإن تركيا تعتبر أي حكم ذاتي كردي تهديداً للأمن القومي لها.
في ضوء ذلك، فقد أعلن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان مؤخراً بأن “تركيا سوف تتدخل ضد أي محاولات لتفتيت سوريا أو السماح للجماعات المسلحة بالحصول على الحكم الذاتي، ونحن نحذركم: لا ينبغي لأي مجموعة أن تشارك في أعمال تهدف إلى التقسيم”.
صراع على نقطة مركزية
ينص أحد المبادئ الشهيرة في النظرية الجيوسياسية، والذي طرحه الأكاديمي والسياسي البريطاني هالفورد ماكيندر، على ما يلي: “من يحكم أوروبا الشرقية يسيطر على قلب الأرض، ومن يحكم قلب الأرض يسيطر على الجزيرة العالمية، ومن يحكم الجزيرة العالمية يسيطر على العالم”.
قياساً على ذلك، فإن سوريا تشكل نقطة مركزية مهمة في العالم العربي، حيث تسيطر على طرق العبور الحيوية والممرات التجارية والتحالفات الإقليمية، ولذلك تعتقد القوى الإقليمية والعالمية بأن من يسيطر على سوريا أو على جزء كبير منها، فسوف يؤثر على الشرق الأوسط برمته.
في هذا السياق، تنفذ الولايات المتحدة وإسرائيل سياسة ذات شقين في سوريا، بالنسبة للولايات المتحدة، تشكل سوريا رقعة شطرنج تسعى إلى صد الخصوم عليها وحماية هيمنة أموال النفط وتأمين موقف إسرائيل من دون أن تتورط أكثر مما ينبغي، وبالنسبة لإسرائيل، فإن سوريا تشكل تهديداً وجودياً يجب تفكيكه وإعادة هيكلته إلى خليط من الدويلات الصغيرة.
يكمن الخطر في ظل كل ذلك في معاناة الشعب السوري التي طال أمدها وتآكل السيادة العربية واحتمال انفجار صراع أوسع نطاقاً، فما لم تعمل الجهات الفاعلة الإقليمية وخاصة تركيا على تشكيل استجابة منسقة، فإن تقطيع أوصال سوريا قد يتحول إلى واقع دائم وهو ما يحقق المخطط الصهيوني القديم المتمثل في شرق أوسط ممزق ومذعن!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)