بقلم شفيق منداهي وعندليب فرازي صابر
ربما كان جحا، كما هو معروف عند العرب، أو نصر الدين هوجا، وهو اسمه التركي الأصلي، أو الملا نصر، كما في إيران وجنوب آسيا، شخصاً موجوداً بالفعل، إلا أن النسخة الخيالية الموجودة في الموروث الفلكلوري هي المألوفة في المخيلة الشعبية الجمعية في العالم الإسلامي.
على مدى قرون عدة، رُويت قصص رجل الدين التركي من القرن 13 في جميع مناطق الشرق الاوسط، حتى أصبح اسمه مرادفاً لحكمة الحمقى إن صح التعبير، فقصص جحا كوميدية الطابع ولكنها تمثل أيضاً شخصية نموذجية تنسحب على ثقافات أخرى أيضاً، وهي أن ذلك الشخص التي توصف حركاته بالتهريج يتحدى الحكمة التقليدية ويغلبها بذكائه غير المتوقع في كثير من الأحيان.
“تتجلى في قصص نصر الدين هوجا النكتة التي تحمل قيمة أخلاقية، وبعض الوعي الناتج عن إدراك الحكمة وراء القصة” .. إدريس شاه- أكاديمي هندي
يمكن للشعبية الكبيرة لشخصية جحا أو نصر الدين هوجا أن تكشف شيئاً عن سيكولوجيتنا ورغبتنا في القليل من الفوضى لكسر الملل الرتيب والقاتل في الحياة اليومية، ففي حكايات جحا الشعبية، نجده يسافر مع حماره من مكان لآخر ويصادف العديد من المغامرات والأحداث التي تظهره أحمقاً أحياناً أو بطلاً ذكياً في أحيان أخرى، ففي إحدى حكاياته، جعل الناس ينظرون إليه بفضول وهو يركب حماره متوجهاً للخلف، فيسأله أحد المارة “لماذا تركب حمارك في الاتجاه الخاطئ يا جحا؟”، فيرد عليه بقوله “أنا على الطريق الصحيح، حماري هو المخطئ”!
عادة ما تحمل قصص جحا رسائل أخلاقية أو تعليمية في ثنايا أحداث القصة نسميها العبرة، إما لنقد أو تصحيح مفهوم شائع بين الناس، أو لإثبات وجهة نظر حول أشكال الظلم الاجتماعي التي يتعرض لها البعض في المجتمع، ففي إحدى الحكايات يكون جحا قاضياً وعليه حل نزاع بين متسول وصاحب نزل حول وجبة حساء، المتسول متهم بحمل قطعة خبز فوق صحن الحساء من أجل الحصول على نكهة الحساء، فيقبض عليه صاحب النزل ويطلب من المتسول أن يدفع له مقابل ما اعتبره سرقة “رائحة” الطبق، فيحكم جحا لصاحب النزل لكن بدفع ثمن الرائحة بصوت خشخشة محفظة النقود فقط.
النسخة الأصلية المحتالة!
غالباً ما كان يُنعت جحا أو نصر الدين بالشخصية المخادعة، في إشارة إلى جانب أصيل في النفس البشرية وصفه المحلل النفسي السويسري كارل يونغ وتبناه بعد ذلك آخرون، فوفقاً لنظريته، يقف المحتالون عند الحد الفاصل بين السلوك المقبول اجتماعياً والسلوك العبثي، ويستطيعون تخطي السلوكين بمكر لكشف عيوب التفكير التقليدي عندما يواجههم، الأمر الذي يظهر جلياً في حكايات جحا عندما ينجح في جعل الآخرين يبدون أكثر حماقة منه.
في كتابه “المحتالون يصنعون العالم”، يعلق الباحث لويس هايد على الطبيعة المزعجة للمحتال الحقيقي والهدف الذي يحققه لدى من يقرؤون قصصهم، فيقول أن “وظيفة المحتال هي إزعاج الفئات التي استقرت الحقيقة في تفكيرها ليفتح بذلك باباً أمام عوالم جديدة محتملة”، بمعنى آخر، الهدف من شخصيات مثل جحا هو تغيير طريقة تفكير الناس.
إذا سلمنا بهذا التحليل، يصبح جحا إحدى الشخصيات النموذجية المخادعة في الثقافات الأخرى حول العالم، كما يقول هايد، مثل الذئب في ثقافة الهنود الحمر، سكان أمريكا الأصليون، ولوكي في الميثولوجيا الاسكندنافية وهرمس في الخرافات اليونانية، على اعتبار أن القصص التي تتضمن محتالاً إما تشترك في نفس الموضوعات أو قابلة للتبادل بين الثقافات.
ومن الأمثلة على ذلك، قصة رحلة جحا مع ابنه وحمارهما، عندما رآه الناس يمشي هو وابنه على أقدامهما بدلاً من ركوب الحمار، فاستهجنوا تصرفه، فأشار لابنه بركوب الحمار، الأمر الذي أثار الناس لانتقاد ابنه، فكيف يركب شاب الحمار ويترك والده يمشي على قدميه؟! فيطلب ابن جحا من والده الركوب مكانه، وعندما يركب جحا يعاود الناس انتقاده لأنه ترك ابنه يمشي بينما هو يركب، فركب جحا وابنه معاً ولكن الحمار تعب بعد برهة فصار بطيئاً، فلم يتركه الناس بحاله بل زادوا في انتقادهم، فقرر جحا حمل الحمار مع ابنه طول الطريق، وبذلك يتعلم ابنه أن إرضاء الناس غاية لا تدرك، وهي رسالة تصلح لكثير من المواقف وتتقاطع مع رسائل في قصص إيسوب اليوناني كذلك.
لقد اهتم الناس الذين تناقلوا حكايات جحا أو نصر الدين هوجا وقصصه بالرسالة أو العبرة التي تحملها الفكرة من الحكاية، أكثر من اهتمامهم بما إذا كانت شخصية جحا حقيقية أم لا، وبالنسبة ليونغ، سبب ذلك أن هذا النموذج المحتال أو الماكر متأصل بشكل أو بآخر في جميع البشر، ويخدم حاجة نفسية محددة، جانب غير متوقع من شخصيتنا يمكن أن يحطم السلاسل الصارمة لما هو مألوف بالنسبة لنا.
في كتابه، يرى هايد أن المحتال أو الماكر يمثل الدافع للتغيير، وقد كان مهماً في وقت ما لإنقاذ الناس ومختلف الثقافات من مستنقع الركود أو الركون إلى الذات، فالمحتال يتصرف بطريقة غريبة أو سخيفة أحياناً، من أجل خلق نظام جديد من الفوضى التي يحدثها في القصة، ولذلك يعتبر جحا وما يوازيه من شخصيات في الثقافات الأخرى، بمثابة وسيلة لتذكير المستمع أو القارئ بضرورة التغيير والبحث عن الحكمة دوماً.
الأكاديمي الهندي الراحل، إدريس شاه، جامع حكايات نصر الدين يقول “ظاهرياً، يمكن استخدام معظم قصص نصر الدين كنكات يتم سردها وإعادة سردها إلى ما لا نهاية في المقاهي والحانات وفي المنازل وعبر الراديو في آسيا”، ويضيف “ولكن تتجلى في قصص نصر الدين هوجا النكتة التي تحمل قيمة أخلاقية، وبعض الوعي الناتج عن إدراك الحكمة وراء القصة”.