بقلم ديفيد هيرست – ظل الانقسام بين رواد المشروع الصهيوني لإقامة دولة يهودية، والصهيونية السائدة اليوم تحت الطاولة لسنوات طويلة، ولكنه اليوم خرج إلى العلن، وبات ينذر بانزلاق إسرائيل إلى مستنقع التاريخ الاستعماري، في الحديث عن معاملتها للفلسطينيين طبعاً.
خلال حملته الانتخابية، طرح السياسي الإسرائيلي المتطرف ورئيس حزب “القوة اليهودية” إيتمار بن غفير، تساؤلاً لم يكن ليجيب عليه أحد من قادة الحكومة الإسرائيلية وقتها، حين تساءل “من المسؤول في إسرائيل؟”، لكن بن غفير لم يكن يريد إجابة بل كان سؤاله التهكمي إشارة إلى شعور عميق بأن اليهود فقدوا السيطرة على الفلسطينيين الموجودين في دولتهم.
المفارقة أنه وفي غضون أسابيع من تشكل حكومة نتنياهو الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل، يسأل ملايين الإسرائيليين أنفسهم الآن سؤالاً مماثلاً “من الذي جئنا به مسؤولاً؟ وزير عدل يخطط لتحييد السلطة القضائية واستقلالها؟! ووزير مالية يشكك في حق المهاجرين الروس في اعتبارهم يهوداً؟! وزير أمن قومي كان أول انجازاته اقتحام المسجد الأقصى؟!”.
تم تأطير النزاع في إسرائيل حتى الآن وكأنها مواجهة الديمقراطية في وجه الفاشية، لم تتحول، على الأقل حتى الآن، إلى نقاش حول القسوة اليومية والتكلفة البشرية لاستدامة المشروع الصهيوني
الحقيقة أن المظاهرات الجماهيرية في إسرائيل معنية فقط بالمسألة الأولى من القضايا الثلاث، على الرغم من أن قضية هوية اليهود الروس مطروحة أيضاً، فقد أطلق عليها بتسلئيل سمو ترتيش “قنبلة يهودية موقوتة”.
أما الفلسطينيون، فقد تنكر لهم الصهاينة الليبراليون مرة أخرى، حتى بعد ظهور بعض الأعلام الفلسطينية وسط الإسرائيلية في المظاهرات الجماهيرية الأولى من نوعها، ورغم نبذ وجودهم إلا أنهم تذوقوا طعم أن تكون فلسطينياً هذه المرة على يد النخبة الجديدة، أو ما يعرف بالحركة القومية الدينية.
صحيح أنه قد تم تأطير النزاع في إسرائيل حتى الآن وكأنها مواجهة الديمقراطية في وجه الفاشية، ولم تتحول، على الأقل حتى الآن، إلى نقاش حول القسوة اليومية والتكلفة البشرية لاستدامة المشروع الصهيوني، لكن طرح هذه التساؤلات واستجوابها لا يبدو بعيداً.
يدلل على ذلك ما كتبته صحيفة يديعوت أحرونوت، وهي صحيفة وسطية موالية للخط الإسرائيلي الرسمي حول الاحتلال، في تقرير لها “الحقيقة المزعجة هي أنه لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية إلى جانب الاحتلال؛ ولا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية في بلد تسمح سياسته الاقتصادية للقوى بالقفز إلى الأمام بينما يتخلف الضعيف عن الركب؛ ولا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية في مكان تم إبعاد العرب فيه عن المسرح “.
الأمر متكامل إذن، فمن يفشل في معالجة هذه القضايا بشكل متسق وواضح، سيفشل أيضاً في جهوده لإيقاف جزء من الإشكالية فقط، فمن يريد إخراج مليون شخص إلى الشارع وخلق زعزعة رداً على خطة ليفين فقط، لا يمكنه التمتمة بترهات حول “تقليص الصراع” أو عن كونه “لا ينتمي لا إلى يمين ولا يسار”.
علاقة معقدة
علاقة الصهيونية السائدة اليوم بحركة الاستيطان لطالما كانت أكثر تعقيداً وتركيباً من تصور نمطي أحاط بها عن كونها قضية فاصلة بين يمين الوسط واليمين المتطرف، فعندما يكون اليمين الوسط حاكماً لا يتوقف الأمر عند كونه وجهة النظر الأخرى، بل هي أعقد من ذلك، فقد زاد الاستيطان حتى في ظل حكومات اليسار.
ومن هذا المنطلق، فالتعبير عن الرعب من تكليف بن غفير بمسؤولية حكم الضفة ما هو إلا تجاهل للدماء الفلسطينية التي أُهدرت في عهد رئيس الوزراء السابق يائير لابيد، فقد كانت 2022 السنة الأكثر دموية منذ الانتفاضة الثانية، حيث قتل فيها أكثر من 220 فلسطيني بينهم 48 طفلاً، كما أن إدانة الهجمات على القضاة اليساريين يعني نسيان قيامهم بتمرير هجمات المستوطنين على الفلسطينيين دون عقاب إلا في حالات نادرة جداً.
يمكن القول أن العلاقة بين الصهيونية الليبرالية والإرهاب اليهودي لطالما كانت تكافلية في شكلها وحقيقتها من قبل وبعد اغتيال إسحق رابين عام 1995، الأمر الذي يتجلى في شهادات لرؤساء شاباك متعاقبين، عندما تحدث أحدهم عن اصطدام الشاباك مع إرهابيين من المستوطنين قاموا بزرع قنابل سيمتكس في باصات فلسطينية، بالإضافة إلى اكتشافهم خططاً لتفجير المسجد الأقصى.
ففي مقابلة له في الفيلم الوثائقي “The Gatekeepers”، قال كارمي غيلون، رئيس الشاباك في الفترة بين 1994-1996، “بعد أن كشفنا خطة المترو اليهودي ، دعا رئيس الوزراء شامير وحدتي ،” الماس في التاج “، وتلقينا تحيات ودعم من في كل مكان، بدأ الضغط علينا في القضية، عندما تم تقديمهم للمحاكمة، ثلاثة منهم حكم عليهم بالسجن المؤبد وآخرون بأحكام مختلفة، لكنهم خرجوا جميعًا من السجن بسرعة، عادوا إلى منازلهم وكأن شيئًا لم يحدث، كما وقّع إسحاق شامير رئيس وزراء إسرائيل على قانون العفو عن حركة الأنفاق اليهودية، لم يكن الأمر يقتصر على بعض المعارضين بل كان المنظومة الحاكمة كلها”.
في رواية “الشين بيت”، كان اغتيال رابين حادث سيارة بسبب حركة السيارة البطيء، وهنا ظهر بن غفير لأول مرة على شاشة التلفاز وهو يلوح بقطعة سُرقت من سيارة كاديلاك كانت لرابين، فصرخ قائلاً “وصلنا إلى سيارته وسنصل إليه قريباً”، فيما علق يعقوب بيري، رئيس الشاباك وقتها، على اغتيال رابين بقوله “رأيت فجأة إسرائيل مختلفة، لم أكن على علم بحدة الكراهية والخلافات بيننا،كيف لنا ترى مستقبلنا؟ ما الذي يجمعنا؟ لماذا أتينا إلى هنا؟ ماذا نريد أن نصبح؟ كل هذا كان بديهيًا وانهار كل ذلك”.
لم تعد العلاقة التكافلية موجودة في أوساط الساسة الإسرائيليين، فوصول بن غفير وسموتريتش إلى السلطة صدفة سياسية بحتة، أما المواجهة بين رواد المشروع الصهيوني لإقامة دولة يهودية من النهر إلى البحر والتيار الصهيوني السائد داخل إسرائيل وخارجها، متأصلة ولكنها تحت الطاولة منذ إنشاء دولة إسرائيل، منذ أن أمر رابين، الذي كان قائداً في الجيش الإسرائيلي المشكل حديثاً آنذاك، قواته بفتح النار على سفينة شحن تفرغ أسلحة لصالح عصابة الأرغون، مما أسفر عن مقتل 16 مقاتلاً من أفراد العصابة، وأصيب فيها مناحيم بيغن الذي أصبح رئيس وزراء بعد ذلك، ظل الخلاف تحت الطاولة ولكنه اليوم يخرج للعلن.
النموذج الجزائري
إن أردنا أن نبحث في التاريخ عن نموذج انقسام يشبه ما يحصل الآن من انقسام في إسرائيل، فلن يكون جنوب إفريقيا وإنما في الجزائر، فقد استوطن الاستعمار الفرنسي الجزائر منذ القرن التاسع عشر، وكان يتعامل مع البلاد على أنها امتداد للأرض الفرنسية، بدلاً من كونها مستعمرة في إفريقيا.
منذ البداية، كانت “المستعمرات” جزءاً لا يتجزأ من المشروع الاستعماري الفرنسي، حين صرح المارشال توماس روبرت بوجو، الحاكم المنتدب للجزائر، أمام الجمعية الوطنية الفرنسية عام 1840، فقال “أينما توجد (في الجزائر) مياه عذبة وأرض خصبة ، يجب أن نحولها إلى مستعمرة دون الاكتراث بمن يملكها”.
لا يمكنني القول أن إسرائيل على وشك الانهيار كما حصل للحكم الفرنسي في الجزائر، لكن الشروخ الرئيسية الأولى في المشروع الصهيوني بدأت بالظهور مؤخراً
بعد انتهاء الحرب، قامت فرنسا بالاستجابة لبعض مطالب الجزائريين بما اعتبرته محاولة للإصلاح، فقامت بمنح الجنسية الفرنسية لحوالي 60 ألف جزائري باعتبارها “مكافأة”، وأنشأت عام 1947 برلماناً للفرنسيين وآخر منفصل للجزائريين، ولكن ظلت قيمة التصويت الفرنسي تعادل سبعة أضعاف قيمة الصوت الجزائري.
وبعد 4 سنوات من حرب الاستقلال، التي لا يزال الفرنسيون لا يعترفون فيها إلا بمقتل 400 ألف من الجانبين، بينما تقول الجزائر أن أكثر من مليون جزائري قتلوا بها، حظي الجيل الجديد المولود في الجزائر من أصول فرنسية على دعم وتعاطف فرنسي تمثل في المؤسسة العسكرية والأمنية.
ويشير هنري كيسنجر إلى أن الفصل الذي كتبه في كتابه “القيادة”، عن الجنرال الفرنسي تشارلز ديغول، والذي يسميه أحد القادة العظماء الستة في الكتاب، مفيد عند الحديث عن تلك الحقبة، فقد ورد في الكتاب أن علاقة ديغول مع المستعمرين تحولت من خطاب “أنا أفهمك” إلى كونهم هدفاً لحملتهم الإرهابية حتى داخل فرنسا، لأن المزاج العام في فرنسا كان قد تغير حينها، فانقلبت فرنسا على المستوطنين من ذوي أصول فرنسية بالأساس، وجاءت نقطة التحول هذه تحديداً بعد تعرض فتاة عمرها 4 سنوات للتشوه نتيجة انفجار قنبلة في باريس عام 1962.
ورغم تمتع منظمة (OAS) بدعم 80 نائباً في الجمعية الوطنية قبل الانفجار، إلا أن الحادثة تسببت في اندلاع مظاهرة ضدهم، وقامت الشرطة الفرنسية بقمع المنظمة وقتل 8 من أفرادها، فخرج مئات الآلاف في جنازاتهم، وتسبب وقف إطلاق النار بين فرنسا وجبهة التحرير الوطني في تحويل المعركة الثلاثية إلى ثنائية كان لزاماً أن تخسر فيها المنظمة OAS.
لا شك أنه مثلما هناك تشابه بين الاستعمار الفرنسي والصهيوني، إلا أن بينهما اختلاف أيضاً، فالدين لم يلعب دوراً في المشروع الفرنسي، ولم يكن هناك قتل مصطنع للفرنسيين في أوروبا لتبرير إنشاء مستعمرة في الجزائر، لكن النقطة الحاسمة في المقاربة لا تزال الأهم والأدق، فعندما انقلبت منظمة الدول الأمريكية OAS من داخلها، ضاع مشروعها.
أما بالنسبة للفلسطينيين، فلم يكن التفوق العسكري هو الذي أدى إلى انتصار المقاومة الجزائرية أو المقاومة في جنوب إفريقيا في نهاية المطاف، ولكن عوامل مثل الصمود والمثابرة في التصدي ورفض الاستسلام حسمت الموقف لصالح البلدين أخيراً وتحررت كل من الجزائر وجنوب إفريقيا.
لا يمكنني القول هنا أن إسرائيل على وشك الانهيار، كما حصل للحكم الفرنسي في الجزائر، لكن الشروخ الرئيسية الأولى في المشروع الصهيوني بدأت بالظهور مؤخراً.
شروخ أولية
من المؤكد أن ما فعله بن غفير ، خلال أسابيع فقط من مجيئه إلى السلطة، قد أثر في نزع الشرعية عن إسرائيل أكثر من سنوات من جهود حركة المقاطعة BDS، الأمر الذي أدى إلى قيام داعمين لإسرائيل في الولايات المتحدة بإرسال بيانات تتوسل نتنياهو لتغيير مساره، مثل اريك غولدشتاين، رئيس أكبر اتحاد يهودي في أمريكا الشمالية، الذي “ناشد نتنياهو باحترام” الوفاء بتعهداته السابقة بتعديل القوانين التي تعطل استقلال النظام القضائي الإسرائيلي، مع العلم أن الفيدراليات اليهودية في الولايات المتحدة لا تتكلم علناً عن هذه الأمور بالعادة، لأنها تستفيد بشكل كبير من نظام الخدمة الاجتماعية في إسرائيل.
من المؤكد أن نتنياهو سيبذل كل ما في وسعه للاستفادة من أي ورقة دولية، كما فعل مع الأردن مؤخراً، حين أعلن تصريحه الذي لم يعد له معنى بقوله أن الوضع الراهن في الأقصى لن يتغير، على الأرض، لقد تغير بالفعل، والأردن، التي تعتبر صاحبة الوصاية على المقدسات في القدس، تعلم ذلك جيداً أيضاً.
أما مع بن غفير وسموتريتش، فإن نتنياهو يواجه شركاء ائتلاف من نوع جديد، فهؤلاء المتخلفون من اليمين الديني القومي ليسوا مجرد جزء من محاولة نتنياهو إنقاذ موقفه السياسي المهتز والمنتهية صلاحيته، ولكنهم جزء من شكل القيادة المستقبلية في إسرائيل.
يجب أن تكون هذه إشارة تحذير لكل إسرائيلي يهودي ليس لديه جواز سفر أوروبي، ولا يتحمل حرباً دينية مفتوحة مع 1.6 مليار مسلم حول العالم، فالحركة القومية الدينية في إسرائيل تستعد لتلك الحرب بالفعل، عليهم أن يعيدوا التفكير في كيفية التعامل مع الفلسطينيين على أساس المساواة والمواطنة بينما الصراع ما زال قائماً على الأرض والجنسية وليس على الدين، لا أعتقد أن لديهم الكثير من الوقت قبل أن يتحول الصراع إلى ديني.
في الفيلم الوثائقي The Gatekeepers، يقول غليون ” كانت الخطة نسف قبة الصخرة، سيؤدي ذلك إلى حرب شاملة من قبل جميع الدول الإسلامية، ليس فقط إيران وإندونيسيا”، وإن كان غليون محقاً قبل 11 عاماً عند حديثه في الفيلم، فهو أقرب للصواب اليوم، فمع وجود الحركة الدينية القومية في السلطة، قد تتحقق نبوءة عامي يعلون حين قال “نحن نفوز في كل معركة ولكننا نخسر الحرب”، لقد حدث ذلك في الجزائر وفي جنوب إفريقيا، وسيحدث في إسرائيل أيضاً.