بعد أكثر من خمسة أشهر من الحرب الدموية والتشريد والمجاعة اتخذ زين علي 31 عاماً، قراره بمغادرة قطاع غزة لحماية حياة زوجته وأطفاله الثلاثة رغم ما يتطلبه تنفيذ هذا القرار من مشقة نفسية وكلفة مالية.
ولتحقيق هذا القرار، اضطر علي إلى دفع مبلغ 15 ألف دولار إلى وكالة سفر تعمل مع شركة مصرية مرتبطة بالحكومة للسماح لعائلته بمغادرة غزة عبر معبر رفح الحدودي.
ويعتبر ما بات يعرف باسم “رسوم تنسيق السفر” السبيل الوحيد لعبور الفلسطينيين الذين لا يملكون جنسية أخرى من القطاع إلى مصر، حيث تعمل شركة سفريات غزة كوسيط بين الفلسطينيين الراغبين في مغادرة القطاع وشركة هلا المصرية، التي تحتكر بحكم الأمر الواقع خروج الفلسطينيين عبر معبر رفح.
أما المعبر فهو الطريق الوحيد الذي لا يخضع لسيطرة إسرائيل المباشرة من الجانبين، حيث جرى إغلاق كافة المعابر الأخرى التي تسيطر عليها إسرائيل منذ بدء العدوان على القطاع في 7 تشرين الأول/ أكتوبر.
ورغم أنه كان مستقراً وظيفياً عبر عمله في منظمة غير حكومية دولية قبل الحرب، إلا أن علي لم يكن قادراً على تحمل رسوم الخروج بمفرده سيما وأنه فقد مدخراته بعد نزوحه من شمال غزة إلى جنوبها.
لجأ الغزي الراغب بالسفر إلى جمع التبرعات من قبل أفراد عائلته في الخارج، الذين تمكنوا من تأمين المبلغ لعائلته، لكن الأموال التي حصل عليها لم تكن كافية لدفع رسوم المغادرة للجميع، فعبرت عائلته فقط إلى مصر في شباط/ فبراير، بينما بقي هو على الجانب الآخر من الحدود.
وقال زين علي: ” أنا محاصر في غزة، وأواجه خطر الموت كل يوم بسبب القصف الإسرائيلي ولا أعرف إذا كنت سأعانق أطفالي مرة أخرى أم لا”.
أخذ الرجل الغزي يعرض آخر صورة التقطها مع عائلته على هاتفه المحمول وهو يجهش في البكاء وأضاف: ” حتى لو لم أرهم مرة أخرى، على الأقل أعلم أنني بذلت قصارى جهدي لأكون أباً صالحاً وأجنبهم مآسي الأيام القادمة”.
كان متوسط الأجر اليومي في غزة يبلغ قبل الحرب 15 دولاراً، أي بمتوسط أجر سنوي يزيد قليلاً عن 5000 دولار وهو أقل بالتأكيد من الرسوم المطلوبة اليوم لمغادرة شخص واحد من القطاع.
جعلت هذه الكلفة الباهظة من المغادرة رفاهيةً غير متاحة إلا للأغنياء، والذين دفعوا مدخراتهم للمغادرة، وأولئك الذين حصلوا على الرسوم من خلال جمع التبرعات.
وأظهر علي لموقع ميدل إيست آي فاتورة بقيمة 15 ألف دولار دفعها نقداً لشركة الأماني للسفر في غزة للسماح لعائلته بالمغادرة.
وشرح أنه دفع 12 ألف دولار لزوجته و1000 دولار لكل طفل، مقابل خدمة سريعة مكنتهم من المغادرة خلال 48 ساعة، موضحاً أن الخيار الآخر الذي كان أمامه هو دفع 5500 دولار لكل شخص بالغ و2500 دولار لكل طفل للمغادرة في غضون 2-3 أسابيع.
يذكر أن شركة “هلا” هي إحدى الشركات العديدة التابعة لمجموعة “أورجاني” المملوكة لرجل الأعمال المصري صاحب النفوذ والزعيم القبلي في سيناء إبراهيم الأورجاني، والتي كانت تمارس سيطرة كبيرة على حركة الأشخاص عبر معبر رفح قبل الحرب.
وكشف موقع ميدل إيست آي أن أورجاني هو حليف للرئيس عبد الفتاح السيسي والجيش المصري، ويعتبر على نطاق واسع الشخصية القبلية والتجارية الأكثر نفوذاً في شبه جزيرة سيناء.
وقبيل الحرب، كانت شركة هلا تفرض على المسافر الواحد دفع مبلغ 350 دولاراً للدخول إلى مصر، لكن السعر ارتفع 14 ضعفاً منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة في 7 تشرين الأول/ أكتوبر.
ويدفع الفلسطينيون 5000 دولار لكل شخص بالغ و2500 دولار لكل طفل، بينما يُفرض على المصريين 650 دولاراً لكل بالغ و350 دولاراً لكل طفل، في حين يُفرض على حاملي وثائق اللاجئين 1200 دولاراً للشخص الواحد.
وتشير التقديرات إلى أن الشركة تحقق الآن ما لا يقل عن مليون دولار يومياً مع إضافة 300 مسافر في المتوسط إلى قائمة “VIP” اليومية.
وقال فلسطيني كان يحاول إضافة عائلته إلى القائمة الأسبوع الماضي أن الذين يسعون لدفع رسوم الخروج يصطفون أمام مكتب هلا في مدينة ناصر بالقاهرة من الساعة الخامسة صباح كل يوم.
وتسمح شركة هلا بتسجيل الأسماء في مصر فقط من قبل أحد أفراد الأسرة المباشرين أو من قبل الأصهار الموجودين من الأساس في مصر.
وبخلاف ذلك، يتعين على الفلسطينيين من غزة المرور عبر ممثلي الشركة في غزة للحصول على الموافقة على أسمائهم في قائمة الخروج، حيث تشمل وكالات السفر التي تنسق أعمال هلا في غزة حمد ستار ومشتهى والأماني.
ونفى وزير الخارجية المصري سامح شكري تغاضي حكومته عن رسوم التنسيق التي تتقاضاها شركة هلا، وقال في مقابلة مع سكاي نيوز الشهر الماضي أن حكومته ” تدرس الأمر بالفعل وستتخذ الإجراءات اللازمة تجاه أي شخص متورط في مثل هذه الأنشطة”.
وأضاف: ” لا ينبغي الاستفادة من هذا الوضع لتحقيق مكاسب مالية”.
وتغطي رسوم التنسيق “خدمة” إضافة أسماء الفلسطينيين إلى قائمة المسموح لهم بعبور الحدود بين مصر وغزة والتي تسمى قائمة هلا، ويتم على الإنترنت من خلال صفحة فيسبوك مخصصة لأخبار معبر رفح، كل ليلة في نفس الوقت تقريباً مع أسماء المسافرين في صباح اليوم التالي.
وتختلف الأسعار في هذه الخدمة، حيث تصل إلى ما لا يقل عن 5000 دولار أمريكي لكل شخص بالغ و2500 دولار أمريكي لكل طفل مع فترة انتظار تتراوح من 3 إلى 4 أسابيع، يمكن اختصارها إلى أسبوع واحد مع دفع إضافي قدره 500 دولار أمريكي للشخص الواحد.
كما تشمل الخدمة خيار المسار السريعVIP وهو حصري للنساء والأطفال دون سن 14 عاماً، وفي شباط/ فبراير، تراوحت أسعار خدمة VIP بين 12 ألف دولار لكل امرأة بالغة و1000 دولار لكل طفل مع فترة انتظار مدتها 48 ساعة.
وبالرغم من ذلك، فإن الرسوم المدفوعة لا تضمن الإذن بمغادرة غزة إذا لم توافق إسرائيل على الإذن الذي تمنحه مصر للفلسطينيين.
وكما هو حال عائلة زين علي، لم تتمكن العديد من العائلات من دفع الرسوم لجميع أفرادها، وانتهى الأمر بإعطاء الأولوية للأطفال وكبار السن والمرضى.
وذكرت فلسطينية أخرى من غزة تدعى آمنة وتبلغ من العمر 34 عاماً لموقع أنها ترفض أخلاقياً دفع “رشوة” للهروب من الحرب.
وقالت: “في أوقات الحرب، يجب حظر الأعمال التجارية المبنية على الخوف من الموت، ويجب أن تكون الحدود مفتوحة للجميع بغض النظر عن مقدار الأموال التي يمكنهم تأمينها”.
لكنها رغم ذلك اضطرت مكرهةً إلى الدفع كي تنقذ حياة والدتها، وأضافت: ” كان علي أن أفعل ذلك من أجل أمي التي تبلغ من عمرها 74 سنة وتعاني من مرض السكري وأمراض القلب حيث يزيد بقاؤها هنا من سوء حالتها”.
جمعت آمنة وأشقاؤها بمن فيهم المقيم في مصر مدخراتهم ودفعوا 10,000 دولار للشركة في مصر من أجل خروج والدتها وشقيقتها عبر معبر رفح.
وجرى تنظيم الخروج في غضون 10 أيام من قبل هلا، التي رتبت أيضًا رحلة بالحافلة إلى القاهرة.
وقالت آمنة: ” قبح هذا العالم يتجلى في أنه لم يترك لي أي خيار آخر، لا أستطيع أن ألوم أحداً لدفعه مقابل المغادرة، لكنني ألوم العالم، لم يعد سراً أننا ندفع رشوة لنعيش ونهرب من القنابل”.
وبالعودة إلى زين علي، فقد اتهمت زوجته وتدعى سما مصر بالتربح من الحرب على غزة من خلال فرض ثمن باهظ على الفلسطينيين للمغادرة.
وقالت ” نعلم جميعاً أنه ليس لدى الحكومة المصرية مشكلة في أن نأتي إلى مصر لكن يبدو أن المشكلة هي أنهم لا يريدون ذلك مجانا”.
وأردفت: ” للأسف، تساعد مصر إسرائيل من خلال جعل الحصار أكثر صعوبة على الفلسطينيين خلال الحرب”، وألقت باللوم أيضاً على مصر لفشلها في الضغط على إسرائيل للسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة.
وقالت: ” إنهم يساعدون إسرائيل ليس فقط من خلال عدم السماح للناس بالسفر، ولكن أيضًا من خلال عدم الوقوف ضد محاولات إسرائيل لتجويع الفلسطينيين في غزة”.
وبعد وصولها إلى مصر مع أطفالها الثلاثة في شباط/ فبراير، قالت سما: ” لقد غادرت غزة لكن قلبي لا يزال هناك، من الصعب أن تشعر بالأمان والسعادة لأننا كنا هناك الأسبوع الماضي ونعلم تماماً مدى صعوبة الأمر”.
وقالت سما (29 عاماً) أنها لم تترك زوجها فقط في غزة، بل تركت أيضاً والديها وأشقاءها وشقيقاتها وأبناءهم وبناتهم دون أن تتاح لها فرصة أخيرة لتوديعهم حتى”.
وشرحت ذلك بالقول: ” لم أر إحدى أخواتي منذ بداية الحرب لأنها لم تتمكن من مغادرة شمال غزة، وآخر مرة رأيت فيها بقية إخوتي كانت أثناء وقف إطلاق النار الأخير.
وقالت سما أنها تمكنت من رؤية والدتها لمدة تقل عن 15 دقيقة فقط قبل يومين من مغادرة القطاع، مضيفةً: ” في أعماق قلبي، أعلم أنني لن أتمكن من مقابلتهم مرة أخرى كما اعتدنا من قبل لكنني أريد فقط أن يكون أطفالي آمنين وأن يعيشوا بسلام.”
*جميع الأسماء المذكورة في التقرير مستعارة ومحددة من المصدر لضمان سلامتهم.