بقلم غادة عقيل
ترجمة وتحرير مريم الحمد
كان أمان يرتدي قميصاً أخضر وهو يقف في أحد مستشفيات غزة ويحمل الهاتف في يده ويجري مكالمة جاء فيها: “مرحباً هاني، تعال إلى المستشفى، هاني، من فضلك تعال، أرسل شخصاً فقد مات أطفالي يا هاني، لقد رحل ابناي”، ثم يغلق الهاتف ويهمس: “يا الله…”.
يقترب منه رجل آخر، يبدو أنه يعرفه، ويسأل: “أبو مهند، ماذا حدث؟”
فينهار بالبكاء قائلاً: “مات أبنائي مهند ومحمد، كلاهما ماتا، أقسم بالله لقد رحلا، لقد رحل أبنائي”.
هذا ليس خيالاً، بل هو فيديو من أحد مستشفيات غزة، حيث يتم توثيق الحزن في لحظته، وهذه ليست صرخة رجل واحد يتردد صداها في ممر المستشفى، بل هي واحدة من صرخات لا تعد ولا تحصى تؤكد أن الإبادة الجماعية تتكشف في جسد طفل واحد في كل مرة!
وفي الوقت الذي تبدأ فيه قوات الاحتلال البرية الإسرائيلية سياسة التطهير العرقي في شمال غزة، يُساق المدنيون في جميع أنحاء الجنوب مرة أخرى إلى مساحات تتقلص باستمرار حيث لا يوجد أمان من القصف.
تصفح لقطات مرعبة
أقضي ساعات كل يوم في تصفح قنوات تيليجرام التي تعرض ما وصفته منظمة العفو الدولية بـ “الإبادة الجماعية التي يتم بثها على الهواء مباشرة”، فالألم والرعب والخوف والدماء، إلى جانب المجاعة القسرية والطرد، أصبحت مشاهد مرئية على شاشاتنا.
على سبيل المثال، يبدأ الجرحى بالتدفق على مستشفى العودة وسط غزة بعد غارة جوية من طراز F-16 على مدرسة الحصاينة التابعة للأمم المتحدة في مخيم النصيرات للاجئين، حيث لجأت العائلات النازحة إلى المأوى، ثم تبدأ أعداد وأسماء الشهداء في الظهور، وسرعان ما تبدأ مقاطع فيديو للمجزرة بالانتشار مع صفوف من الأطفال الجرحى في غالب الأحيان.
يظهر طفل يرقد بملابس ملطخة بالدماء بينما يلف الأطباء الضمادات حول رأسه، فيما يبكي طفل آخر وهو يمص أصابعه ربما من الجوع،
وفي مقطع آخر، يظهر أب يحتضن ابنته المصابة بينما يحاول المسعفون إنقاذ أطرافها المكسورة.
“لقد نجونا، لكننا لا نعرف ما يخبئه الغد، فالأمر أشبه بالعيش في حظيرة دجاج في انتظار الذبح، وكل يوم يأتون ويختارون 300 أو 400 أو 500 للذبح، نحن فقط لم يأتِ دورنا بعد” – شاب من غزة
هذه هي الصور التي لن يراها الملايين من الأمريكيين والأوروبيين أبداً، وهم في غرف معيشتهم الممتلئة بالأخبار الدعائية للشركات التي تحميهم من مثل هذه المشاهد، وذلك لأنها الفظائع التي قد تدفعهم إلى التساؤل عما تدعمه حكوماتهم!
“إلى أين نذهب؟”
كل يوم تتدفق المزيد من الأخبار، وهذه المرة من مدينتي، خان يونس، حيث صدرت المزيد من أوامر الإخلاء وهربت العائلات اليائسة مرة أخرى، فقد أظهر مقطع فيديو رجلاً يجري في شوارع مليئة بالركام وأمه المسنة على ظهره ويصرخ: “أين يجب أن نذهب؟”.
بالطبع، سيذهب الكثيرون إلى المواصي، وهناك ربما يتم قصف خيامهم بدلاً من منازلهم!
الأخبار لا تتوقف، ففي قصف تم فيه استهداف منزل عائلة أبو دقة شرق خانيونس، فاستشهدت الأم جمانة أبو دقة مع أطفالها الأربعة الصغار وهم وسام وجولان وجيلان وسراج، كما أصاب قصف مدفعي آخر حي العمر في الفخاري شرق خان يونس، مما أدى إلى استشهاد عائلة بأكملها وذهب كل شيء في غمضة عين.
وهناك أيضاً قصف للمخيم المؤقت في المواصي من وقت لآخر، وهي منطقة الجحيم التي ادعى جيش الاحتلال الإسرائيلي أنها “المنطقة الآمنة”، ففي إحدى المرات، ضربت المنطقة بحوالي 10 غارات فدمرت إحداها خيمة عائلة قصاب في الجزء الجنوبي من المواصي، مما أدى إلى القضاء على الأسرة بأكملها، حيث استشهدت الأم عبير مع أطفالها الستة.
تأتي الهجمات بسرعة كبيرة، واحدة تلو الأخرى، ولذلك فإن من الصعب التقاط الأنفاس، حيث يبدو الأمر وكأن قوات الاحتلال الإسرائيلي تسابق الزمن لتدمير أكبر عدد ممكن من المناطق والمنازل والخيم وفي أسرع وقت ممكن، فيما أعلنت عنه منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية بتسيلم بأنه “حملة تطهير عرقي متعمدة في قطاع غزة”.
“يذبحوننا مثل الدواجن”
في شمال غزة، قصفت القوات الإسرائيلية مولدات الكهرباء في المستشفى الإندونيسي المحاصر، وهو أحد شرايين الحياة الطبية الأخيرة المتبقية في الشمال، فتسبب ذلك في انقطاع التيار الكهربائي بشكل كامل مما يهدد الآن حياة كل مريض لا يزال يتنفس.
وإلى أن تختار الحكومات الأجنبية خياراً مختلفاً، فسوف يستمر الفلسطينيون في العيش في عالم يحمل فيه الصحفيون أطفالهم المصابين بدلاً من الكاميرات، ويعمل فيه الأطباء على ضوء المشاعل، وتكون فيه صرخة الطفل هي الدليل الوحيد على الحياة!
بالمثل، فإن مستشفى ناصر في خان يونس “يعاني بشدة” من نقص الإمدادات الطبية بعد أن أصاب هجوم إسرائيلي مستودعاً طبياً مؤخراً.
هذه ليست أضراراً جانبية، بل هي استراتيجية متعمدة، وتنفيذ ممنهج لخطة معلنة منذ القصف الذي تعرض له المستشفى الأهلي في 17 أكتوبر عام 2023، والذي أدى إلى استشهاد نحو 500 شخص.
أتذكر الكلمات التي قالها لي أخي قبل عام ونصف تقريباً حين قال: “لقد نجونا، لكننا لا نعرف ما يخبئه الغد، فالأمر أشبه بالعيش في حظيرة دجاج في انتظار الذبح، وكل يوم يأتون ويختارون 300 أو 400 أو 500 للذبح، نحن فقط لم يأتِ دورنا بعد”، فتذكرت ما قاله حين قرأت ما نقلته صحيفة واشنطن بوست في إحدى مقالاتها عن امرأة مسنة في جنوب غزة قولها نفس الشيء منذ أكثر من 20 عاماً: “إنهم يقتلوننا مثل الدواجن”.
الموت بلا أسماء
يتكرر الأمر باستمرار منذ عقود، فالرعب الذي تعرضت له تلك المرأة في جنوب غزة في عام 2002 يُرى الآن عدة مرات يومياً في جميع أنحاء المنطقة الساحلية، حتى أننا الآن نموت بلا أسماء فلا يوجد صحفي غربي يكافح من أجل معرفة أسمائنا، ليروي قصة الرجال والنساء والأطفال مقطوعي الرؤوس الذين قُتلوا أثناء نومهم في منازلهم أو خيامهم.
كل يوم يرتفع عداد الشهداء الفلسطينيين إلى أكثر من 100 شهيد، ووسط الدخان والركام وصمت العالم، يبقى السؤال بالنسبة للمليوني فلسطيني المحاصرين في معسكر الاعتقال في غزة والمتنقلين من مكان إلى آخر: “إلى أين نذهب؟”.
نحن نواجه سياسة إبادة جماعية ممنهجة، ومع ذلك، فإن استجابة العالم يكسوها الانحطاط الأخلاقي المتخفي في هيئة الدبلوماسية، وقد استغرق الأمر استشهاد أكثر من 54 ألف فلسطيني غالبيتهم العظمى من النساء والأطفال، حتى تصدر كل من بريطانيا وفرنسا وكندا بياناً مشتركاً تهدد فيه بفرض “عقوبات مستهدفة” ضد إسرائيل إذا استمرت في هجومها الموسع على غزة!
هي تدابير غير كافية في مواجهة الإبادة الجماعية، وفي مواجهة حقول القتل في غزة والمحو الممنهج لعائلات بأكملها، فهذا ليس مجرد فشل سياسي أو دبلوماسي، بل هو انهيار لإنسانيتنا المشتركة، فالفلسطينيون لا يطلبون بالتعاطف، بل بالمحاسبة بموجب القانون الدولي.
وعلى حد قول الباحثة القانونية نورا عريقات، فإن “هناك من المداخل القانونية الكافية لإنهاء الإبادة الجماعية ولرفع الحصار ولإنهاء الاحتلال وتحقيق حق الفلسطينيين في تقرير المصير”.
إن لدى العالم الأدوات القانونية اللازمة للتحرك، فيمكن للدول أن تعترف بالإبادة الجماعية ويمكنهم فرض حظر على الأسلحة وإغلاق الموانئ الإسرائيلية وقطع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية، لكنهم اختاروا عدم القيام بذلك فهم يختارون الإفلات من العقاب.
وإلى أن تختار الحكومات الأجنبية خياراً مختلفاً، فسوف يستمر الفلسطينيون في العيش في عالم يحمل فيه الصحفيون أطفالهم المصابين بدلاً من الكاميرات، ويعمل فيه الأطباء على ضوء المشاعل، وتكون فيه صرخة الطفل هي الدليل الوحيد على الحياة!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)