بقلم أوسكار ريكيت
ترجمة وتحرير مريم الحمد
منذ أشهر، كان السودانيون ومن يراقب الوضع في السودان يخشى ما حدث أخيراً، فقد حدث الأسوأ، نزلت القوات المسلحة السودانية بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان لقتال قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي” في شوارع مدن البلاد.
بعد سنتين من الحفاظ على زواج المصلحة منذ أكتوبر 2021، انقلبت الكيانات العسكرية على بعضها، فباتت القوات السودانية المناهضة للديمقراطية في حالة حرب، في وقت عاد فيه السودانيون إلى حصار النيران من جديد، يبحثون عن ملاذ من المقاتلات النفاثة للقوات المسلحة من جهة، وقذائف المدفعية والمدافع المضادة للطائرات التابعة لقوات الدعم السريع من جهة ثانية.
منذ عام 2003 كان يطلق على قوات الدعم السريع “شياطين على ظهور الخيل”، بسبب قيامهم بجرائم التطهير العرقي ضد السكان السود المحليين في دارفور
أما العاصمة السودانية، الخرطوم، فصارت أشبه بمدينة أشباح، لم تعد هناك بنية تحتية كانت هشة أصلاً، وانتشرت العصابات بلا رادع في شوارع المدينة، في ظل بحث حميدتي عن طريق للسيطرة عبر ما وصفه أنه سوف “يصطاد البرهان كالكلب”، بينما يؤكد البرهان أن “كل حرب تنتهي بالتفاوض حتى لو هزم الخصم”، فمن أين بدأ كل هذا؟
تعود البداية إلى ما قبل عقد من الزمان، في الأسبوع الأخير من سبتمبر 2013، حين اجتاحت السودان موجة احتجاجات بعد أن أعلن رئيس البلاد آنذاك، عمر البشير، إنهاء دعم الوقود واتخذ إجراءات تقشفية، فردت قوات الأمن بالعنف الذي تسبب بمقتل أكثر من 170 شخصاً بينهم أطفال، كما جُرح واعتقل مئات آخرون.
قام البشير أيضاً بإضافة وحش آخر من أجل حمايته، فتم إنشاء مجموعة شبه عسكرية سميت بقوات الدعم السريع تحت رعاية المخابرات، وكأن البشير قد صنع لنفسه وحشاً على طريق الخراب!
موت في دارفور
تشكلت قوات الدعم السريع من نفس المقاتلين والشخصيات البارزة التي كانت جزءاً من ميليشيا الجنجويد التي نشأت في الثمانينيات في الحرب الأهلية المستمرة في تشاد، قبل أن تصبح سيئة السمعة بسبب ما فعلوه في دارفور منذ عام 2003، فقد كان يطلق عليهم “شياطين على ظهور الخيل”، بسبب قيامهم بجرائم التطهير العرقي ضد السكان السود المحليين.
كان ذلك القانون الطلقة الأولى التي أودت بعرش البشير حين قامت الثورة عام 2019، وكان حميدتي من أول من انقلب عليه!
على رأس تلك القوات كان حميدتي، الذي تنحدر عائلته من تشاد، تحول حميدتي إلى أمير حرب في دارفور يقوم بعمل البشير على الحدود الغربية، حتى أن البشير كان يلقبه بقوله “حمايتي”، فقد استخدم قواته لاحقاً كحراسة شخصية له ولعددمن قيادات حزب المؤتمر الحاكم الذي يقوده.
مع مرور الوقت، أصبح حميدتي وإخوته أغنياء للغاية، خاصة بعد استفادته من تحول السودان عام 2011 من الاقتصاد النفطي إلى اقتصاد الذهب، تحول ساهم في صناعته من خلال استخدام قوات الدعم السريع لتهريب الذهب من المناجم التي كان يسيطر عليها في دارفور، ثم أرسل قواته للقتال في مناطق مثل مالي واليمن ضمن التحالف الذي تقوده السعودية.
في الخرطوم، لم يكن لحميدتي موطئ قدم بعد، لكن قوات الدعم التي شكلها كانت جزءاً أساسياً من استراتيجية البشير في مقاومة أي انقلاب محتمل، كان البشير حريصاً على أن تبقى قوات الجيش والشرطة وقوات الدعم على خلاف مقابل الولاء له فقط بهدف البقاء في السلطة، لأنه كان يخشى من انقلاب إسلامي من داخل الجيش.
ظلت قوات الدعم السريع تحت إشراف المخابرات حتى تحولت عام 2017 وبقانون رئاسي إلى مجموعة شبه عسكرية مسؤولة مباشرة عن البشير، فكان ذلك القانون الطلقة الأولى التي أودت بعرش البشير حين قامت الثورة عام 2019، وكان حميدتي من أول من انقلب عليه!
بعد الانقلاب على البشير، أخذ البرهان زمام السلطة والسيطرة، دون أن يكون الرئيس الفعلي، فسارعت قوات الدعم السريع إلى التركز ككيان خاص مستقل بشكل واضح ويعمل كقوة موازية، أقام حميدتي على أساسه تحالفاً عسكرياً مع البرهان ضد العدو المشترك، الديمقراطية، التي اعتقد أنصارها من السياسيين التكنوقراط أمثال عبد الله حمدوك، الذي شغل منصب رئيس الوزراء بين 2019-2021، أنه بات بإمكانهم إعادة السودان إلى قيادة مدنية حقيقية.
في أكتوبر 2021، سقط الديمقراطيون مرة أخرى على يد انقلاب عسكري جمع البرهان وحميدتي في تحالف مضطرب أخذت تتكشف معالم ضعفه بعد ذلك، ففي خريف عام 2022، قرر حميدتي إعادة تعريف نفسه على أنه بطل الديمقراطية، فذهب مع البرهان إلى توقيع اتفاق إطاري بوساطة دولية لبدء عملية انتقال السودان إلى الحكم المدني في ديسمبر 2022، وهنا بدأ الحليفان بالشقاق، بعد أن اختلفا على الجدول الزمني وإدارة دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة السودانية، لم يكن حميدتي يريد دمج قواته في الجيش حتى يتخلص البرهان ممن يراهم “متطرفين إسلاميين” في القوات المسلحة.
صراع العروش
ماذا يمكن أن يكون من المأمول بعد ذلك؟ لا يوجد لدى أي منهما، البرهان وحميدتي، تاريخ حافل بحماية المدنيين، بل على العكس من ذلك، فالشعب السوداني محاصر ليس بصراع عروش داخلية فقط، بل بلعبة خارجية تتنافس فيها القوى الإقليمية والدولية على الربح والنفوذ، ففي الأشهر التي سبقت الصراع الأخير، ترددت شخصيات أمريكية وأوروبية واسرائيلية وسعودية وإماراتية وروسية على الخرطوم.
لطالما تمتع البرهان بدعم مصر، التي تدرب فيها، خاصة وأن السيسي قرر غض بطره عن الإسلاميين الموجودين في جيش البرهان من عهد البشير، ويعتقد بحسب معلومات استخباراتية أمريكية، أن مصر تشارك في القتال الدائر اليوم بتقديم الدعم الاستخباراتي والتكتيكي للقوات المسلحة السودانية.
لقد أدى تحرك البشير قبل عقد إلى إطلاق سلسلة من الأحداث التي أدت إلى تعميق الاضطرابات في السودان، واستغلها اللاعبون الإقليميون والدوليون بأجنداتهم المناهضة للديمقراطية
وعلى الجانب الآخر، قد تصطف أثيوبيا، خصم مصر، إلى جانب حميدتي، خاصة بعد ما أُشيع عن شرائه للكثير من العقارات في أديس أبابا، أما تشاد، التي تشترك بحدود طولها 1300 كم مع السودان، فهي تعارض بشدة وصول حميدتي إلى السلطة، وضمن كل ذلك، لم تعد الولايات المتحدة تمتلك القدرة أو الإرادة لفرض قوتها في المنطقة.
من المعروف أن حميدتي طور علاقات قوية داخل الموساد الإسرائيلي، لكن في المقابل، يتمتع البرهان بعلاقة أكثر تطوراً مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فالاتصالات تتم بشكل رسمي مع البرهان، كما أن هناك مرتزقة روس في أجزاء نائية من ساحل البحر الأحمر بالسودان، حيث تتطلع موسكو لبناء قاعدة بحرية، الأمر الذي يثير استياء واشنطن.
ويبقى العامل الخارجي الأكثر تأثيراً حتى الوقت الحالي، هو تأثير الإمارات والسعودية، اللتان يُعتقد أنهما أقرب إلى حميدتي، المقرب من حاكم أبو ظبي محمد بن زايد، حيث يصدر السودان ما قيمته 16 مليار دولار من الذهب إلا الإمارات سنوياً، فيما تقترب الرياض من فكرة واشنطن بأنه لا ينبغي أن يكون أي من الرجلين مسؤولاً.
لعبة التجسس
يلعب عملاء المخابرات منذ عهد البشير أدواراً حاسمة في مصر والسعودية والإمارات، مما يزيد من تعكير المياه، فقد مهد رئيس المخابرات السوداني، صلاح قوش الذي يعيش في القاهرة، الطريق لعملاء المخابرات السودانية لزيارة واشنطن بعد الاتفاق الإطاري في ديسمبر 2022، فيما يلعب طه عثمان الحسين، مدير مكتب البشير السابق الذي أقاله البشير بعد اقتراحه استخدام قوات حميدتي للانقلاب على قطر، اليوم مستشاراً للشؤون الإفريقية لدى الحكومة السعودية منذ 2017.
لقد أدى تحرك البشير قبل عقد إلى إطلاق سلسلة من الأحداث التي أدت إلى تعميق الاضطرابات في السودان، واستغلها اللاعبون الإقليميون والدوليون بأجنداتهم المناهضة للديمقراطية، لكن السودانيون يبقون على أمل أن تأتي الديمقراطية يوماً إلى بلدهم وإن استغرقت سنوات، لكنه ستأتي في نهاية المطاف.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)