صراع على الحافة: لماذا انفجرت المواجهة بين باكستان وطالبان الآن؟

ترجمة وتحرير موقع بالعربية

لقد وفر وقف إطلاق النار لمدة 48 ساعة بين أفغانستان وباكستان هدوءاً قصيراً ولكنه هش على طول واحدة من أكثر الحدود اضطراباً في العالم.

من الناحية النظرية، تعتبر الهدنة بمثابة مهلة ولحظة تصمت فيها الأسلحة ويهدأ الغبار بعد أيام من القتال العنيف الذي أسفر عن مقتل العشرات من الجنود والمدنيين من الجانبين، ولكن من الناحية العملية، يبدو الأمر أشبه بفترة باستراحة محارب فقط.

لعدة أيام سبقت وقف إطلاق النار، ترددت أصوات إطلاق نار كثيف على الحدود الأفغانية الباكستانية التي يبلغ طولها 2640 كيلومتراً، والمعروفة باسم خط دوراند الذي يعود إلى الحقبة الاستعمارية.

“إن طالبان ضعيفة في الحرب التقليدية، فباكستان تتمتع بالتفوق في الطائرات بدون طيار والطائرات النفاثة والتكنولوجيا، فيما تتمتع طالبان بخبرة واسعة في حرب الميليشيات غير المتكافئة، حيث حاربت الولايات المتحدة لسنوات ولهذا السبب تدعم حركة طالبان الباكستانية ضد باكستان” – دوست محمد باريش- الأكاديمي في جامعة بلوشستان في كويتا

وفقاً لتاجر باكستاني يعيش بالقرب من معبر سبين بولداك شامان ويدعى محمد أشاكزاي: “لقد انتقل الوضع من مناوشات بسيطة إلى وضع يشبه الحرب الحقيقية”، حيث تعكس هذه المشاعر قلقاً متزايداً خاصة مع إدراك أن القتال الأخير يمثل أكثر من مجرد مشاجرات حدودية روتينية حول الأراضي أو المواقع الأمنية الجديدة، فقد تطور الاحتكاك إلى شيء أعمق وأكثر منهجية.

ويحذر المحللون من أن الهدنة لن تفعل الكثير لمعالجة الأزمة الأساسية الكامنة وراء أعمال العنف، وهي عودة التشدد داخل باكستان، حيث ترتبط موجة العنف هذه ارتباطاً وثيقاً بعودة طالبان إلى السلطة في أفغانستان في أغسطس عام 2021، بعد انسحاب القوات الأمريكية، باعتباره نصراً استراتيجياً ولكنه تحول منذ ذلك الحين إلى كابوس أمني.

بدلاً من تأمين حدودها الغربية، تواجه باكستان الآن حدوداً تحددها العداء والردود العكسية، والتي تتمحور حول مزاعم بأن إدارة طالبان في كابول تؤوي حركة طالبان الناشئة في باكستان، وهي منظمة متشددة محظورة مسؤولة عن مئات الهجمات على الأراضي الباكستانية.

هناك عواقب صارخة لكل هذا، فوفقاً لمؤشر الإرهاب العالمي، تحتل باكستان الآن المرتبة الثانية بين أكثر دول العالم تأثراً بالإرهاب بعد بوركينا فاسو.

تداعيات عودة طالبان

عندما استولت حركة طالبان على كابول في أغسطس عام 2021، امتدت موجات الصدمة إلى ما هو أبعد من حدود أفغانستان، ففي باكستان، كانت التداعيات حادة بشكل خاص.

لقد كان انتصار طالبان سبباً في تشجيع مجموعة واسعة من الجماعات المسلحة من المتشددين الإسلاميين مثل حركة طالبان الباكستانية وولاية خراسان الإسلامية، الفرع الإقليمي لتنظيم الدولة الإسلامية في أفغانستان وباكستان، بالانضمام إلى الفصائل العرقية الانفصالية مثل جيش تحرير البلوش، الذي يستهدف أيضاً المصالح الصينية في باكستان.

وبحلول عام 2020، شهدت باكستان انخفاضاً مطرداً في هجمات المتشددين بفضل الحملات العسكرية المستمرة منذ عام 2014، وهجمات الطائرات الأمريكية بدون طيار التي قتلت قادة رئيسيين، والانقسامات الداخلية داخل الشبكات المتطرفة، لكن هذا التقدم انهار بسرعة بعد سقوط كابول.

لقد أعادت حركة طالبان الباكستانية التي تم تنشيطها تنظيم صفوفها وتوسعت، فعملت على توحيد الفصائل المنشقة واستيعاب الفروع المحلية لتنظيم القاعدة، كما كثفت الجماعة هجماتها في أنحاء خيبر بختونخوا، في حين شن الانفصاليون البلوش هجمات متطورة مثل “تفجيرات انتحارية” شملت النساء. 

وفقاً للمعهد الباكستاني لدراسات السلام (PIPS)، وهو مركز أبحاث أمني مقره إسلام آباد، فقد ارتفعت الهجمات الإرهابية في باكستان العام الماضي إلى أعلى مستوياتها منذ عام 2015، مدفوعة إلى حد كبير بعمليات حركة طالبان الباكستانية.

وفي حديثه لميدل إيست آي، أكد مدير المعهد، محمد أمير رنا: “منذ عام 2021، عادت حركة طالبان الباكستانية إلى الظهور باعتبارها أقوى تهديد محلي لإسلام آباد، فحملتها من التفجيرات الانتحارية والاغتيالات والكمائن أحيت ذكريات السنوات الأكثر دموية في باكستان”.

في الوقت نفسه، أنشأ تنظيم ولاية خراسان، الذي طردته إدارة طالبان من أفغانستان، موطئ قدم له في باكستان، حيث أوضح الأكاديمي في جامعة بيشاور الذي يدرس الصراعات الإقليمية، الدكتور عامر رضا،  في مقابلة مع موقع ميدل إيست آي، بأن “تنظيم الدولة الإسلامية قد انشأ موطئ قدم في المنطقة شمال غرب باكستان، بعد أن دفعت حملة القمع التي شنتها إدارة طالبان في أفغانستان بالعديد من المقاتلين عبر الحدود”. 

وأضاف: “قام التنظيم بتنفيذ عدة هجمات على الأحزاب الإسلامية الباكستانية بسبب موقفها المؤيد للديمقراطية وقربها من حركة طالبان الأفغانية والمسؤولين الحكوميين والأقليات الدينية”.

طالبان بين الأيديولوجية والبقاء

لقد كشفت التوترات المتصاعدة عن معضلة سياسية عميقة لإدارة طالبان، حيث تواجه كابول خياراً ملحاً، فإما تلبية المطالب الأمنية الباكستانية من خلال كبح جماح حركة طالبان الباكستانية أو المخاطرة بإحداث انقسامات داخلية بين مقاتليها.

رسمياً، تنفي حكومة طالبان إيواء مسلحين أجانب، وتصور المشاكل الأمنية في باكستان على أنها داخلية، ولكن المسؤولين يعترفون سراً بأن أي حملة عسكرية ضد حركة طالبان باكستان قد تكون كارثية.

وتكمن العقبة الأساسية في الأيديولوجية المتقاربة، فكما يشير المحللون، تعد حركة طالبان الباكستانية “في الأساس فصيلاً من طالبان”، تربطهما أيديولوجية مشتركة وروابط عائلية وسنوات من القتال المشترك.

يشير العديد من مسؤولي طالبان إلى المسلحين الباكستانيين باسم “المهاجرين”، وهو مصطلح يستخدم تاريخياً لأولئك الذين لجأوا، في هذه الحالة، إلى المقاطعات الأفغانية الشرقية، بعد حملات باكستان الكبرى لمكافحة الإرهاب مثل عملية “ضرب العزب” في عام 2014.

في حديثه لميدل إيست آي، أشار الصحفي الأفغاني المقيم الآن في باريس، شابير أحمد، إلى أن “نظام طالبان لا ينظر إلى حركة طالبان باكستان على أنها إرهابية، بل باعتبارها جزءاً مرتبطاً بها أيديولوجياً وحلفاء تاريخيين في ساحة المعركة، حيث تنبع هذه القرابة من تاريخ من التضحيات المشتركة، فقد قاتل مقاتلو حركة طالبان الباكستانية وماتوا إلى جانب حركة طالبان الأفغانية ضد القوات الأمريكية”.

ويرى المحللون بأن هذا الشعور بالأخوة يفسر سبب انضمام أعداد متزايدة من مقاتلي طالبان العاديين أو مساعدتهم لوحدات حركة طالبان الباكستانية في العمليات عبر الحدود ضد باكستان. 

يقول شابير أحمد: “رغم التوجيهات الصادرة عن المرشد الأعلى الملا هيبة الله أخون زاده والتي تحظر على أعضاء طالبان القتال خارج أفغانستان، إلا أن التنفيذ لا يطابق ذلك، خاصة في المناطق التي تطمس فيها الولاءات الشخصية والقبلية الخط الفاصل بين الأيديولوجية والولاء”. 

ويخشى المسؤولون الأفغان من أن يؤدي الانقلاب على حركة طالبان الباكستانية إلى تمرد، فقد أوضح أحد مسؤولي طالبان في كابول لموقع ميدل إيست آي في مقابلة خاصة قبل عام: “إن التحرك العنيف ضد حركة طالبان الباكستانية يمكن أن يدفع المقاتلين إلى أحضان تنظيم الدولة الإسلامية المنافس في ولاية خراسان”، مشيراً إلى أن إدارة طالبان، التي تخوض بالفعل صراعاً مريراً مع تنظيم الدولة الإسلامية في ولاية خراسان، لا يمكنها تحمل جبهة ثانية من المعارضة الداخلية.

موقف إسلام آباد الصعب نحو التصعيد

بسبب الإحباط إزاء ما تعتبره عدم رغبة كابول أو عدم قدرتها على كبح جماح حركة طالبان الباكستانية، فقد تحولت إسلام آباد من الحذر الدبلوماسي إلى الضغط القسري، في مزيج من الضربات العسكرية والروافع الاقتصادية والتكتيكات الديموغرافية.

ويشن الجيش الباكستاني الآن غارات جوية داخل شرق أفغانستان، مستهدفاً ما يقول بأنها مخابئ للمتشددين الباكستانيين، ويصف مسؤول باكستاني كبير في إسلام آباد هذا النهج بأنه “عقيدة الردع المتبادل”، وهي استراتيجية تقوم على اعتقاد مفاده بأن أي هجوم يصل إلى الأراضي الأفغانية فسوف يقابله انتقام مباشر عبر الحدود.

بالتوازي مع ذلك، فقد تحركت باكستان لطرد أكثر من مليون أفغاني غير شرعي منذ سبتمبر عام 2023، واصفة الخطوة بأنها ممارسة “لحق سيادي”، لكنها في الحقيقة تسلط الضوء على نية إسلام آباد الضغط على طالبان اقتصادياً وسياسياً.

وتشمل الإجراءات الأخرى تشديد قواعد التأشيرات عند معبر سبين بولداك شامان الحدودي وتشديد تجارة العبور إلى أفغانستان غير الساحلية، وهي خطوات دفعت كابول فعلياً إلى تنويع طرقها التجارية والاعتماد بشكل أكبر على ميناء تشابهار الإيراني.

“إن شن حرب تقليدية واسعة النطاق على أفغانستان قد يكون بمثابة دعوة مفتوحة لحرب عصابات طويلة الأمد في مقاطعة خيبر بختونخوا وبلوشستان، فأفغانستان تفتقر إلى التكنولوجيا والقدرة العسكرية لمواجهة مثل هذه القوة على قدم المساواة، لكنها تستطيع إرسال حركة طالبان الباكستانية ومقاتليها لتنفيذ هجمات انتحارية وهجمات أخرى داخل باكستان” – شابير أحمد – صحفي أفغاني

ويمثل التفجر الأخير مرحلة جديدة خطيرة، حيث اندلعت الأزمة بسبب انفجارين وقعا في وسط كابول وغارة جوية على سوق في مقاطعة باكتيكا الحدودية الأفغانية في 9 أكتوبر الجاري، وذلك في أعقاب سلسلة من الهجمات المتتالية على قوات الأمن الباكستانية في خيبر باختونخوا، والتي خلفت عدة قتلى من الضباط.

وقد اتهمت إدارة طالبان باكستان بتدبير الحادثين، وهو ما لم تؤكده إسلام آباد أو تنفيه، ورداً على ذلك، شنت حركة طالبان هجمات انتقامية على المواقع الحدودية الباكستانية، حيث صرح ذبيح الله مجاهد، كبير المتحدثين باسم طالبان، في مؤتمر صحفي في كابول: “كانت هذه هجمات انتقامية”.

احتدم القتال لعدة أيام حتى تم التفاوض على وقف إطلاق النار، بناء على طلب من قطر والسعودية، ولكن تم استئناف العنف خلال أيام. 

وفي 15 أكتوبر الجاري، نفذت باكستان ضربات جوية في قندهار، المعقل السياسي لحركة طالبان، قبل ساعات من إعلان وقف إطلاق النار رسمياً.

أوضح صحفي مقيم في كابول، طلب عدم الكشف عن هويته لأسباب أمنية، لموقع ميدل إيست آي: “شعر العديد من الأفغان بأن الضربة الباكستانية على كابول كانت، إلى حد ما، هجوماً على تاريخ أفغانستان وهويتها وأنها أفادت نظام طالبان سياسياً، فرغم كون حكومة طالبان لا تمثل الشعب الأفغاني حقاً، إلا أن ردها الانتقامي كان موضع تقدير على نطاق واسع داخل أفغانستان”.

وأشار الصحفي الأفغاني شابير أحمد إلى أن العديد من الأفغان كانوا ينظرون منذ فترة طويلة إلى صراع طالبان مع باكستان على أنه “مصطنع”، نظراً لعقود من دعم إسلام آباد للحركة و اعترافها بحكومة طالبان الأولى من عام 1996 إلى عام 2001، وأضاف: “لتبديد هذا التصور، شنت طالبان هجمات مضادة ضد باكستان رغم مواردها المحدودة”.

نهاية مجهولة

بالنسبة لباكستان، فإن احتمال المواجهة المستمرة على حدودها الغربية يأتي في وقت يتسم بالضغوط الاقتصادية وعدم الاستقرار الداخلي،  حيث يحذر المحللون من أن إسلام آباد تخاطر بالانجرار إلى صراع طويل ومكلف.

في حديثه لميدل إيست آي، أوضح الأكاديمي في جامعة بلوشستان في كويتا، دوست محمد باريش: “إن طالبان ضعيفة في الحرب التقليدية، فباكستان تتمتع بالتفوق في الطائرات بدون طيار والطائرات النفاثة والتكنولوجيا، فيما تتمتع طالبان بخبرة واسعة في حرب الميليشيات غير المتكافئة، حيث حاربت الولايات المتحدة لسنوات ولهذا السبب تدعم حركة طالبان الباكستانية ضد باكستان”.

أما الصحفي شابير أحمد فقال: “إن شن حرب تقليدية واسعة النطاق على أفغانستان قد يكون بمثابة دعوة مفتوحة لحرب عصابات طويلة الأمد في مقاطعة خيبر بختونخوا وبلوشستان، فأفغانستان تفتقر إلى التكنولوجيا والقدرة العسكرية لمواجهة مثل هذه القوة على قدم المساواة، لكنها تستطيع إرسال حركة طالبان الباكستانية ومقاتليها لتنفيذ هجمات انتحارية وهجمات أخرى داخل باكستان”.

هناك إجماع بين المحللين الإقليميين على أن التوترات سوف تستمر في الغليان وأن كلا الجانبين لديه حوافز قوية لتجنب الحرب، ولكن ليس حلها.

بالنسبة لباكستان، فإن التصعيد يهدد بتفاقم الاقتصاد الهش بالفعل وتفاقم الاضطرابات الداخلية، أما بالنسبة لطالبان، فيعتبر الانتقام بمثابة دليل لصفوفها على قدرتها على مواجهة الضغوط الخارجية.

أوضح باريش: “مع ذلك، تظل القضية الأساسية دون حل: إلى أن تعترف كابول بوجود حركة طالبان الباكستانية وتتصرف بشكل حاسم ضدها، فإن المخاوف الأمنية في إسلام آباد ستستمر”.

في الوقت الراهن، تحولت إسلام آباد من الدبلوماسية الحذرة إلى نهج عسكري أكثر حزماً، وقد يؤدي وقف إطلاق النار إلى شراء بعض الوقت للوساطة الدولية، ربما من الصين أو قطر أو السعودية، ولكن في غياب تغيير هيكلي في نهج كابول، فإن “الحدود سوف تظل بمثابة برميل من البارود”، وفقاً للمسؤول الأمني ​​الباكستاني. 

ولا يزال سقوط كابول في عام 2021 يلقي بظلاله اليوم، فما كان موضع ترحيب في باكستان ذات يوم باعتباره نصراً استراتيجياً قد أصبح الآن مصدراً لأشد أزمات الأمن القومي تعقيداً وخطورة منذ عقود من الزمن.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة