بقلم أحمد درملي
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
عُرف الفنان الفلسطيني ضرغام قريقع كواحد من أشد المعجبين بفان جوخ إلى الحد الذي دفع زميله وصديقه المقرب الفنان محمد الحاج إلى القول أن قريقع كان يشارك فان جوخ شغفه بالفن ومعاناته الحياتية، أن هذا أكسبه لقب “حفيد فان جوخ”.
لكن غارةً للاحتلال على غزة في 4 مارس/آذار أودت بحياة الفنان الفلسطيني البالغ من العمر 28 عاماً وزوجته وأشقائه و13 فردًا من عائلته الممتدة.
ويُعد استشهاد قريقع أحدث استهداف لأبناء المجتمع الفني في غزة، الذين استشهد الكثير منهم منذ بدء عدوان الاحتلال الدموي على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023.
كان قريقع فنانًا متعدد المواهب، بارعًا في الحرف اليدوية والفنون البصرية والتطبيقية والحدادة والرسم، وبحسب رفيقه الحاج فقد كان ضرغام يتمتع بموهبة استخدام الفن لتجميل الواقع وتخفيف معاناة الناس في ظل حصار قطاع غزة.
وأضاف الحاج: “لطالما تطلّع إلى حياة مديدة مُكرّسة لفنّه، حياةً تمكّنه من مواصلة الإبداع والإلهام ومشاركة شغفه بالجمال والمقاومة”.
ومنذ عام 2016، تطوّع قريقع وشارك في العديد من المعارض الفنية المحلية عبر المؤسسات المجتمعية في غزة، مثل دار الكلمة ومؤسسة قطان.
وكانت إحدى آخر مساهماته قبل اندلاع الحرب في غزة عام 2023 هي “شظايا المدينة”، حيث جسد في هذا العمل مع مجموعة من الفنانين الفلسطينيين الشباب باستخدام تقنيات النقش والطباعة معالم غزة الأثرية وتاريخها، التي تغيّرت بفعل الاحتلال وعدوانه.
وأوضح الحاج، الذي شارك في تأسيس المعرض: “كان دائمًا يُبدع في طرح الأفكار، وكان بلا كلل الفنان الأكثر ديناميكيةً وتعاونًا وتميزًا في المجموعة، كان يُحب الرسم، وكثيرًا ما كان يرسم الجداريات في كل مكان، في الشوارع والمطاعم والشركات والمدارس”.
وباعتباره فنانًا مخضرمًا في غزة، كان لدى الحاج معرض فني في مدينة غزة، قُصف أيضًا خلال العدوان، بعدما كان مكانًا يجتمع فيه العديد من الفنانين، بمن فيهم ضرغام، للتواصل والرسم والتخطيط لمشاريعهم المستقبلية، على الرغم من شحّ الموارد خلال حصار غزة.
ويتذكر الحاج: “كان ضرغام يُشاركني أفكاره حول ألوان جدران المعرض، وتصميم الزخارف، وتفاصيل الزوايا الخشبية التي صنعناها معاً، وكان يتمنى أن تتاح له فرص عمل مناسبة في غزة لدعم نشاطه، فهو المعيل لعائلته المكونة من ستة أفراد”.
نزوح متكرر
حصل قريقع على منحة دراسية من وزارة الثقافة الفلسطينية في غزة لإنشاء مجموعة فنية مستوحاة من ذكريات طفولته، وخاصةً علاقته الوثيقة بوالدته.
وعندما اندلعت الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2023، أخلى قريقع وعائلته منزلهم في حي الشجاعية، شرقي قطاع غزة، بعد تلقيهم منشورًا تحذيريًا من جيش الاحتلال يأمرهم بمغادرة المنطقة.
وحين عجز عن العثور على مكان يؤويه، نزح مع عائلته إلى المستشفى الأهلي، الذي استُهدف لاحقًا في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، ونجا من المجزرة، لكن اثنتين من شقيقاته الأربع استشهدتا، وأصيبت والدته بجروح بالغة.
لجأ قريقع وعائلته إلى معرض الحاج في حي الشفاء، غرب مدينة غزة، لمدة أسبوعين، لكن والدته احتاجت إلى علاج طبي عاجل لم يكن متوفرًا في شمال غزة، ثم نُقلوا إلى جنوب القطاع، وأقاموا في المستشفى الأوروبي في خان يونس.
ولحسن الحظ، أُجليت والدة قريقع إلى مصر، لكن رحلة نزوحه ومعاناته استمرت، إذ اضطر للتنقل عدة مرات بسبب اجتياحات الاحتلال البرية لجنوب القطاع.
ورغم هذه المصاعب إلا أن قريقع لم يستسلم، فقد نظّم أنشطة فنية وفعاليات اجتماعية في الملاجئ المؤقتة لمساعدة العائلات والأطفال على تجاوز الصدمة التي يمرون بها.
وقالت ياسمين جربة، وهي فنانة فلسطينية وزميلة لضرغام، وتقيم حاليًا في إيطاليا عن قريقع: “كان يُعلّم الأطفال الرسم حتى عند عدم توفر المواد، فقد كان يستخدم الطين الملون والعصي كفرش رسم، وكان يُشكّل مجموعة ويُعلّمهم الدبكة، حتى أنه كان يُنظّم لهم مسرحيات”.
تعاونت جربة مع جمعية قريظة، بمساعدة منظمات خيرية إيطالية، لإنشاء سينما متنقلة للأطفال لعرض أفلام كرتونية وأفلام كوميدية، تُساعدهم على التعافي من معاناتهم المستمرة.
“كان يُنشئ مجتمعًا فنيًا أينما حل، وعلى الرغم من النزوح المستمر وفقدان مواده بسبب اقتحامات الاحتلال البرية المفاجئة، فقد أصرت جمعية قريظة على البدء من جديد، مُحوّلً ألمه إلى هدف لمساعدة من حوله” – ياسمين جربة، فنانة فلسطينية تقيم حاليًا في إيطاليا.
كان ضرغام يحلم بالسفر إلى أوروبا لدراسة الماجستير في الفنون، لكن إغلاق معابر غزة منذ أبريل/نيسان 2024 جعل تحقيق هذا الحلم صعبًا، إن لم يكن مستحيلًا، عليه وعلى كثير من سكان غزة.
لكن ضرغام لم ييأس من تطوير نفسه ومسيرته المهنية، وكرّس جهوده لدعم أهله، وخاصة الأطفال الذين يعانون من صدمات نفسية حادة.
وكان آخر مشاريعه تصميم مسرح عرائس للأطفال، امتدادًا لمبادرته السابقة “سينما المخيم”، التي استمرت عامًا كاملًا، بهدف توفير مساحة آمنة لهم للتعبير عن أنفسهم والتعافي من خلال الفن.
أعمال فنية تحت الأنقاض
وعندما أُعلن وقف إطلاق النار بين حركة حماس والاحتلال، جمع قريقع كل ما يملك وتزوج آية، المرأة التي أحبها، وكان يخطط، مع شقيقته خلود وشقيقه بسام، للعيش في منزله في الشجاعية، لكنهم صُدموا عندما عادوا إلى هناك ليجدوا المنزل الآن كومة من الأنقاض.
نشر ضرغام منشورًا على مواقع التواصل الاجتماعي جاء فيه: “بعد 15 شهرًا من النزوح، عدت إلى غزة لأواجه واقعًا لا يُصدق وصعبًا للغاية، منزلي ومرسمي مدمران بالكامل جراء هجمات الاحتلال، وجميع الأعمال الفنية التي كنت أستعد من خلالها لمعرضي القادم “حتى تُقطع أجنحتي” اختفت تحت الأنقاض.
مضى ضرغام في منشوره يعبر عن الألم الذي أصابه بالقول: “كانت تلك الأعمال أكثر من مجرد لوحات فنية، كانت جزءًا من روحي، جزءًا من الأحلام التي لطالما رغبت في مشاركتها، ما حدث ليس مجرد فقدان للأشياء، بل محاولة لمحو الذاكرة والثقافة والإنسانية، ولكن كما يُقال لا يُقتل الأمل إلا بموت الروح، والفن روحي، ولن يموت”.
وقبل يومين من استشهاده، جلس قريقع والحاج معًا في مقهى صغير في مكانهما المعتاد بحي الرمال، يتشاركان القهوة والضحك.
كان قريقع يبحث عن هدية لعيد ميلاد زوجته، لكن مع محدودية الخيارات وارتفاع الأسعار، لم يجد شيئًا في متناوله، حيث يتذكر الحاج أن صديقه “في النهاية، اشترى لها مشروبًا غازيًا مع أن سعره أصبح مرتفعًا”.
وفي 4 مارس/آذار، وبعد خرق وقف إطلاق النار، شنت قوات الاحتلال هجمات على عشرات الأهداف، كان أحدها الحي الذي يسكنه قريقع، فاستشهد هو وزوجته أسماء وشقيقاه خلود وبسام، بالإضافة إلى 13 فردًا من عائلته الكبيرة.
“سيترك فقدان ضرغام ألمًا عميقًا في قلوبنا، لكن ذكرياته وأعماله ستبقى حية فينا جميعًا وفي قلوب من سنحت لهم الفرصة لمقابلته” – محمد الحاج، فنان فلسطيني
وتابع: “على الرغم من أن معظم أعماله الفنية مدفونة تحت الأنقاض، إلا أن العديد من فناني غزة سيطبعون ما يمكنهم انتشاله من أعماله وينظمون معرضًا استرجاعياً ليُظهروا للعالم من هو حفيد فان جوخ الحقيقي”.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)