بقلم إيساد شيربيجوفيتش
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
لا يمكن للديمقراطية أن تتعايش مع الإبادة الجماعية، بل يجب أن يفسح أحدهما المجال للآخر، وعندما دعا دبلوماسي علنًا في يوم من الأيام إلى الإبادة الجماعية، وطالب بعقوبة إعدام الأطفال، رغم أنه اعترف بأن هذه المطالبات تنتهك اتفاقيات الأمم المتحدة، كان يجب أن يطرد دون تردد.
لكن الاستثناء أصبح هو القاعدة في النمسا، الدولة التي تستضيف وكالات الأمم المتحدة من مؤسسات يُفترض أنها ملتزمة بمبادئ حقوق الإنسان والقانون الدولي.
ففي فيديو مُصوّر سرًا وسُرّب هذا الأسبوع، ظهر سفير الاحتلال في النمسا ديفيد روت وهو يدعو بهدوء إلى الإبادة الجماعية، وقتل الأطفال، وتدمير غزة بالكامل، كانت كلماته مُرعبة، لكنها لم تكن مفاجئة، إنه ليس مجرد صوت عابر، بل كان يتحدث بكامل ثقل حكومة سُمح لها بإدامة العنف دون عقاب.
يتحدث روت عن غزة كما لو كانت مجرد مصدر إزعاج بعيد، مصدر إزعاج يجب تجاهله، لكن كلماته التي قالها دون خجل أو خوف كانت مدمرة.
لقد كان يُعلن أنه لا يوجد مدنيون أبرياء في غزة، وأن كل من يحمل السلاح يجب إعدامه، حتى الأطفال، هذا انتهاك مباشر للقانون الدولي، يُنكر إنسانية أكثر من مليوني شخص، من بينهم مليون طفل.
وهذه ليست مجرد قضية للاحتلال، بل هي قضية دولية، إنها قضية النمسا، لأنها منحت رويت منبرًا ولم تقم بإدانة تصريحاته ولم تطرده، نعم لم تقل النمسا شيئًا ولم تفعل شيئًا.
تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم
هنا يبدأ الفشل، فالأمر لم يعد هذه مجرد قضية دبلوماسية، بل قضية حياة أو موت، قضية إنسانية مقابل اللامبالاة، فعندما يواجه العالم دعوة للإبادة الجماعية، هل سيتحرك؟ أم سيصمت كالعادة، ويشاهد هذا الشر وهو ينتشر كالسرطان؟
يبدأ الفيديو كمحادثة عابرة بين دبلوماسيين. يمزح القنصل النمساوي السابق، غونتر فيل فولغر، عن لعب الغولف في غزة “سواء أعجبك ذلك أم لا”، هذه ليست ملاحظة بريئة، إنه صوت من يرى غزة ساحة لعب، مكانًا يُحتل ويُسيطر عليه، وفي النهاية يُدمر.
لكن كلمات رويت كانت مُوجعة حقاً وبطريقة مرعبة، لقد كان يُعلن: “أنا أمثل دولة إسرائيل بفخر”، قبل أن يُكمل قائلًا: “إذا كنتم تعتقدون أنه لا يوجد أشخاصٌ غير مُتورطين في غزة فإن إسرائيل تستهدف الأطفال عمدًا، وهذا غير صحيح”.
هذا ليس مجرد تصريح سياسي، بل هو بمثابة جريمة حرب. بإيحائه بعدم وجود مدنيين أبرياء في غزة، يُجرّد رويت شعبًا بأكمله من إنسانيته، مُمهّدًا الطريق لإبادتهم.
وبموجب القانون الدولي، يجب حماية المدنيين مهما كلف الأمر، حيث يتعارض كلام رويت، الذي يحظى بدعم كامل من حكومة الاحتلال مع القانون الإنساني الدولي.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يُتابع رويت: “يجب أن يكون هناك حكم إعدام على من يحمل سلاحًا في الحرب، حتى لو كان عمره 16 عامًا”.
هذا ليس كلامًا مُبالغًا فيه، بل دعوة مباشرة لقتل الأطفال خارج نطاق القضاء، وهو انتهاك واضح لأبسط حقوق الإنسان، يجب حماية الطفل في أي حرب، لقد عرف العالم هذا منذ قرون، ومع ذلك يُدافع رويت علنًا عن قتلهم.
لقد بات احتقار رويت للقانون الدولي واضحاً: “ميثاق الأمم المتحدة، مهما كان اسمه، لا يُجدي نفعًا، عقوبة الإعدام للأطفال هي حله”، إنه لا يخجل ولا يخاف، والنمسا الدولة المضيفة للأمم المتحدة تلتزم صمت.
وعد بالتدمير
يتعمق الفيديو أكثر، ويظهر بشكل جلي ازدراء رويت للجهود الدولية لإعادة إعمار غزة، إنه يسخر من فكرة المساعدات الأوروبية لغزة: “هل ستُجنّ أوروبا بما يكفي لاستثمار أموالها مجددًا في غزة؟ لذا، سيتعين علينا تدميرها في المرة القادمة.”
هذا التصريح ليس مجرد استخفاف بالكرم الأوروبي، بل هو إعلان نوايا، لن تسمح دولة الاحتلال بإعادة إعمار غزة، لن تسمح للفلسطينيين بالبقاء، ولن تسمح لهم بالعيش بكرامة، ستُدمر غزة مجددًا.
تمتلك النمسا القدرة على طرد رويت والوقوف في وجه هذا الخطاب الإبادي، لكنها لا تفعل شيئًا، مُخِلةً بالمبادئ التي يُفترض بها أن تُدافع عنها، وبفشلها في معاقبة رويت، تُصبح النمسا متواطئة في تدمير غزة والقضاء على حياة الفلسطينيين.
إن فشل النمسا في التصرف ليس مجرد عار وطني، بل إهانةً صريحةً للأمم المتحدة، فبصفتها دولةً مضيفةً، تلتزم النمسا، بموجب ميثاق الأمم المتحدة واتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية، بضمان التزام الدبلوماسيين بالمعايير التي وضعها المجتمع الدولي، والامتناع عن أي أنشطة تُعرّض السلام والأمن للخطر.
غير أن تصريحات رويت التي تدعو إلى الإعدامات الجماعية وتسخر من القانون الدولي تنتهك المبادئ الأساسية التي تهدف إلى حماية كرامة وحقوق كل إنسان
وتشمل هذه المبادئ الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، التي تُكرّس الحقوق الأساسية لجميع الأفراد، بغض النظر عن هويتهم أو أصولهم، والبروتوكول رقم 6 لاتفاقية حماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية، الذي يدعو إلى إلغاء عقوبة الإعدام، واتفاقية حقوق الطفل، التي تُعدّ وعدًا بأن كل طفل يستحق السلامة والرعاية.
مخاطر عالية
ولا تمثل تصريحات روت مجرد أخطاء، بل هي إنكار للحقوق الأساسية غير القابلة للتصرف التي تُلزمنا جميعًا.
ومع ذلك، لم تتخذ الحكومة النمساوية أي إجراء، حيث يتفاخر روت في الفيديو بقربه من المستشار النمساوي كريستيان ستوكر: “لديّ تطبيق واتساب للمستشار، مما يعني أننا السفارة الوحيدة، والدبلوماسيون الوحيدون، الذين التقوا بالسيد ستوكر”.
على العالم أن يختار الآن، هل سيقف ضد الإبادة الجماعية، أم سيقف إلى جانب من يُطبّعونها؟
نعم إن صمت النمسا مُدوّ، لكن صمت الأمم المتحدة أشدّ دلالة، فإذا كانت النمسا قد رفضت طرد روت، فقد كان على الأمم المتحدة نقل عملياتها من فيينا.
لا يُمكن للمؤسسات التي تدّعي احترام القانون الدولي وحقوق الإنسان أن تستمر في العمل في بلد يتسامح مع الإبادة الجماعية، هذا التقاعس سيجعل الأمم المتحدة متواطئة في ذات الجرائم التي تأسست أصلاً لمنعها.
وإذا لم تتحرك النمسا، فهذا ليس فشلها فحسب، بل هو فشل العالم، فأي دولة تستمر في العمل ضمن إطار الأمم المتحدة في فيينا، دون مواجهة تواطؤ النمسا في الإبادة الجماعية، تُصبح شريكة في هذا الشر.
سيحكم التاريخ علينا جميعًا، لن يُنسى فشل النمسا في طرد روت، وعلى العالم أن يختار الآن، هل سيقف ضد الإبادة الجماعية، أم سيقف إلى جانب من يُطبّعونها؟ الخيار لنا، فالمخاطر جسيمة ولا مجال للصمت.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)