بقلم ريتشارد فالك
ترجمة وتحرير مريم الحمد
بطلبها الأخير، اتخذت المحكمة الجنائية الدولية أول خطوة تاريخية حقيقية منذ إنشائها في عام 2002، حيث أوصى مدعيها العام، كريم خان، بإصدار أوامر اعتقال ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع، يوآف غالانت، و3 من قادة حماس.
كما كان متوقعاً، فقد أدان الجانبان هذا الإجراء الذي اتخذته المحكمة الجنائية الدولية بأقوى لغة ممكنة، فمن ناحية، امتلأت وسائل الإعلام الغربية المتحيزة بردود الفعل الغاضبة من قبل إسرائيل وحلفائها، في حين تم تجاهل البيان الرسمي الصادر عن حماس.
تؤكد هذه المعايير المزدوجة على النفاق الأخلاقي والعدمية القانونية التي تغرق فيها الولايات المتحدة، فهي تستشهد بالإجراءات الدولية باعتبارها أدوات للسياسة الخارجية بدلاً من أساس وجودها وهو أن تكون قواعد قابلة للتطبيق عالمياً!
رغم تشابه الاعتراض بين الجانبين إلا أن هناك اختلافاً قدره 180 درجة في وجهات نظرهم الموضوعية، فاعتراض إسرائيل الأساسي على إجراء المدعي العام هو التكافؤ المفترض بين حماس وحكومة إسرائيل المنتخبة ديمقراطياً.
أما حماس ومؤيدوها، فيشعرون بالفزع إزاء التكافؤ الذي تنطوي عليه الدعوة إلى إصدار أوامر الاعتقال والتي “تساوي بين الضحية والجلاد” في ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي القمعي الذي يؤكد وجود حقوق قانونية للفلسطينيين في المقاومة المسلحة.
أنا أرى أن الرد الإسرائيلي خطابي جدالي، بمعنى أنه لا يمكن اتهام إسرائيل وقادتها بارتكاب جرائم في سياق يتشكل مما حدث في 7 أكتوبر الذي تم اعتباره أسوأ هجوم على الشعب اليهودي منذ المحرقة، ومن هذا المنطلق، فقد وصف نتنياهو التوصية بإصدار أوامر الاعتقال بأنها “انتهاك أخلاقي ذو أبعاد تاريخية واستهزاء بالعدالة يشكل سابقة خطيرة”.
قصور في الدفاع
إن ما يفتقده الرد الإسرائيلي هو القدرة على الدفاع عن السلوك الإسرائيلي الذي يُنظر إليه في جميع أنحاء العالم على أنه يرقى إلى مستوى الإبادة الجماعية.
إن الجرائم والأدلة محددة بلغة القانون، وهي بالتأكيد ذات حجم وخطورة تتطلب رداً موضوعياً من جانب إسرائيل، فلا سقف أقل من ذلك يمكنه إقناع الرأي العام العالمي بأن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية قد تجاوز صلاحياته باقتراح إصدار أوامر الاعتقال!
من المهم الإشارة إلى القرار المؤقت الذي أصدرته محكمة العدل الدولية بشبه إجماع في يناير الماضي، كدليل على أن الاتهامات الموجهة إلى قادة إسرائيل لا تشكل وصمة عار أو سابقة خطيرة، ويعطي هذا الحكم أسباباً قوية، وإن كانت مؤقتة، للاعتقاد بأن العنف الذي تمارسه إسرائيل منذ 7 أكتوبر هو مثال واضح للإبادة الجماعية المستمرة التي تستهدف جميع السكان المدنيين في غزة.
مع مرور أشهر الحرب، فقد فقدت الأوساط الأمنية الإسرائيلية الثقة في النظرة الأمنية التي وضعتها في البداية، حيث أصبحت الحرب مدمرة ذاتياً لدرجة جعلت غالبية الإسرائيليين يعتقدون الآن أن قيادة نتنياهو هي المسؤولة عن إخفاقات متعددة، فقد أخفقت في تدمير حماس وتحقيق العودة الآمنة للرهائن والحفاظ على سمعة البلاد كدولة شرعية ذات سيادة
ينطبق نفس الانتقاد على رد فعل حماس وإن كان بدرجة أقل، حيث أن الدعوة إلى إصدار أوامر اعتقال ضد قادة حماس أمر مشكوك فيه بسبب غياب تحقيق دولي محايد حتى الآن في ما حدث بالفعل في 7 أكتوبر.
ليس من المستغرب في ظل ذلك مسارعة الولايات المتحدة للدفاع عن إسرائيل، وانضمامها إلى هجوم طائش على مصداقية المحكمة العالمية القائمة على معاهدة، والتي من المفترض أن تتمتع بتفويض التحقيق واتخاذ الإجراءات ضد مرتكبي الجرائم الدولية.
في مواضع أخرى، يشتكي المسؤولون الأمريكيون من العقبات القضائية التي تحول دون القدرة على توجيه اتهام لمواطني البلدان التي ليست أطرافاً في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ولكن في نفس الوقت كانت واشنطن متحمسة لتوجيه اتهام متسرع للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بعد غزو أوكرانيا عام 2022.
تؤكد هذه المعايير المزدوجة على النفاق الأخلاقي والعدمية القانونية التي تغرق فيها الولايات المتحدة، فهي تستشهد بالإجراءات الدولية باعتبارها أدوات للسياسة الخارجية بدلاً من أساس وجودها وهو أن تكون قواعد قابلة للتطبيق عالمياً!
تصريح خارج السياق
في تعليقه على قرار المدعي العام خان، قال الرئيس الأمريكي جو بايدن: “مهما كان ما قد يوحي به هذا المدعي العام، فلا يوجد تكافؤ بين إسرائيل وحماس”، في تصريح دلل بوضوح على أن الولايات المتحدة من الناحية القانونية سوف تقف دائماً “إلى جانب إسرائيل ضد التهديدات التي يتعرض لها أمنها”.
السؤال هنا، ماذا إن كانت الأدلة تؤكد على صحة إصدار أوامر الاعتقال؟!
من خلال تكرار مثل هذا الموقف الأحادي الجانب، فإن بايدن يزيد من تثبيت فكرة تواطؤ واشنطن في الإبادة الجماعية في غزة، ومن عجيب المفارقات أن غضب إسرائيل وحلفائها كان أحد أهم أسباب التي أعطت تصريحات المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، أهمية لم تحظ بها المؤسسة من قبل قط.
يتجلى إرهاب الدولة في أقوى صوره في غزة اليوم، بعد أن كانت إسرائيل وحلفاؤها محاولة تصدير المشهد على أنه دفاعي، لكن سرعان ما تكشف العنف المتعمد والترحيل القسري للفلسطينيين في غزة بعيداً عن حجة مخاوف إسرائيل الأمنية.
كان ينبغي على خان أن يشرح لماذا كان من السابق لأوانه من الناحية القانونية إدراج هذا الادعاء ضد إسرائيل ضمن الأسباب التي تدعو إلى التوصية بأن تصدر المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت، ولكنه من خلال تجنب أي ذكر للإبادة الجماعية، وكأنه يتجنب الواضح الذي يصعب تجاهله!
لقد تم نسيان السياق الذي حددته حكومة نتنياهو قبل هجوم حماس، وحتى في الغرب، كان يوُصِف هذا الائتلاف الحاكم بأنه الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل، بسبب الحملة التي قادها المستوطنون لجعل الحياة غير صالحة للعيش للفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة، في رسالة تم مفادها “ارحلوا وإلا سنقتلكم”.
منذ أشهرها الأولى، أعطت الحكومة الإسرائيلية وزراءها المتطرفين، إيتمار بن غفير و وبتسلئيل سموتريش، الضوء الأخضر لممارسة هذا العنف كجزء من هدف بعيد المدى متمثل في إنشاء إسرائيل الكبرى من جانب واحد، والقضاء على احتمالات إقامة دولة فلسطينية أو أي شكل ذي معنى لتقرير المصير.
إخفاقات متعددة
يمكن القول أنه بتلقي إسرائيل إنذاراً مسبقاً عن هجوم حماس وامتلاكها قدرات مراقبة متقنة، فإن ردها يعتبر غير مفهوم من حيث الحجم، وذلك يجعل من الصعب تصديق أنه لم يتم الاتفاق بالفعل على سيناريو رد واسع النطاق بغض النظر عن احتجاز الرهائن.
هذا التفسير يصبح أكثر مصداقية حين نرى أن الانتقام الإسرائيلي قد بدأ من أول لحظة بأساليب ولغة الإبادة الجماعية، بما في ذلك سياسات حرمان الفلسطينيين في غزة من الغذاء والوقود والكهرباء والمياه والترحيل القسري للفلسطينيين من شمال غزة إلى جنوبها والهجمات الشنيعة على المستشفيات والمراكز السكانية واستخدام المجاعة كسلاح في الحرب والجهود المستمرة لحث مصر وبلدان أخرى على قبول أعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين.
مع مرور أشهر الحرب، فقد فقدت الأوساط الأمنية الإسرائيلية الثقة في النظرة الأمنية التي وضعتها في البداية، حيث أصبحت الحرب مدمرة ذاتياً لدرجة جعلت غالبية الإسرائيليين يعتقدون الآن أن قيادة نتنياهو هي المسؤولة عن إخفاقات متعددة، فقد أخفقت في تدمير حماس وتحقيق العودة الآمنة للرهائن والحفاظ على سمعة البلاد كدولة شرعية ذات سيادة.
أما إدارة بايدن، فقد أدارت، من خلال موقفها الداعم غير المشروط لإسرائيل والإدانة غير المسؤولة للمحكمة الجنائية الدولية، ظهرها لجيلها الشاب وأطلقت العنان لوحشية الشرطة والإجراءات العقابية ضد الحراك المؤيد للفلسطينيين، كما أدى سلوكها في الأمم المتحدة إلى الإضرار بالقانون الدولي وبطبيعة الديمقراطيات الليبرالية التي تفتخر بالانتماء لها وقيادتها.
من جانب آخر، يستحق المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية الانتقاد أيضاً، فلا يوجد تكافؤ بين الهجوم الذي وقع لمرة واحدة في 7 أكتوبر، وحملة الموت والدمار الإسرائيلية المستمرة على غزة!
مع مرور الوقت، أظن أن الفشل في معالجة “الإبادة الجماعية” سوف يُنظر إليه على أنه نقطة الضعف الأكثر إثارة للصدمة في البيان الرسمي للمدعي العام، فقد كان ينبغي على خان أن يشرح لماذا كان من السابق لأوانه من الناحية القانونية إدراج هذا الادعاء ضد إسرائيل ضمن الأسباب التي تدعو إلى التوصية بأن تصدر المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت، ولكنه من خلال تجنب أي ذكر للإبادة الجماعية، وكأنه يتجنب الواضح الذي يصعب تجاهله!
من ناحية أخرى، نأمل أن تقبل هيئة القضاة توصية المدعين العامين وأن تصدر أوامر اعتقال ضد زعماء إسرائيل وحماس، وفي المقابل أن تبذل قصارى جهدها أيضاً لمحو الانطباع بوجود التكافؤ، فإذا ما التزمت المحكمة الجنائية الدولية بموقفها المبدئي الأساسي، فإن ذلك سوف يعزز سمعتها باعتبارها بُعداً من أبعاد الحكم العالمي غير الملوث بالجغرافيا السياسية الحزبية.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)