بقلم ياسمين السبعاوي
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
يمكن للمشاعر أن تتنقل بسرعة بين الغضب والاستياء والشعور بالذنب ثم تعود الكرّة مرة أخرى دون توقف، وهذا ما يشار إليه بدورة الحزن الجماعي.
ولطالما كان الفلسطينيون في الغرب على تماس وثيق مع تداعيات احتلال وطنهم، لكن العدوان على غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وبعد ذلك على الضفة الغربية ولبنان، التي تؤوي ما يقرب من مليون لاجئ فلسطيني، خلّف جرحاً ذهنياً وعاطفياً مفتوحاً لا يعرف الكثيرون على الإطلاق ما إذا كان سيندمل أم لا.
درست جيس غنام التجربة الفلسطينية بالمقارنة مع تجربة الأطفال العراقيين بعد غزوات متعددة، وكذلك المسلمين في حقبة ما بعد 11 سبتمبر/أيلول، ووصفتها بأنها “لا تشبه أي شيء”.
وقالت غنام للمشاهدين في بث مباشر على شبكة الإنترنت استضافته منظمة الصحة العقلية الإسلامية، ماريستان، بعد أسابيع قليلة من بدء العدوان: “ليس لدينا خريطة لفهم عمق واتساع ومكونات هذه الأزمة عبر الأجيال ولا لفهم التأثير الذي ستخلفه على جيلنا الحالي والأجيال القادمة”.
وأضافت غنام، أستاذة الطب النفسي بجامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو: “في السياق الفلسطيني، لا يوجد ما يسمى بـ (ما بعد) في اضطراب ما بعد الصدمة”.
وبصرف النظر عن وقف إطلاق النار الذي دام أسبوعاً وتخلله تبادل للأسرى في نوفمبر/تشرين الثاني، لم يمر يوم واحد دون أن يتخلله إطلاق النار في الأيام الـ 365 الماضية، حيث استهدفت الغارات الجوية أو نيران القناصة أو التهديد بالمجاعة والمرض الفلسطينيين في غزة.
“لم أختبر شخصياً هذا القدر من الحزن في حياتي، إنه أشبه بالعيش في علاقة مسيئة مع العالم” – ندى الحانوتي، فلسطينية أمريكية، ديربورن
اعتمدت وسائل الإعلام الرئيسية في أمريكا الشمالية على وجه الخصوص على جيش الاحتلال في التحقق من الأحداث وتفسيرها، وقد أعرب المسؤولون المنتخبون في هذا الجانب من العالم عن تضامنهم الثابت مع الأسرى الإسرائيليين في غزة، على حساب عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى الفلسطينيين.
وقالت صفاء سويسي، وهي فلسطينية أمريكية في تولسا بأوكلاهوما لميدل إيست آي: “أنا أشاهد ما يحدث لشعبي وأنظر إلى هذه الوجوه، إنها تبدو مثلي، تتحدث مثلي ولديها نفس الأسماء مثلنا وتأكل نفس الأطعمة التي نأكلها”.
وتابعت: “إذا كان أطفالي في الشارع وصدمتهم سيارة وأخذوا ينزفون في الشوارع، فلن يهتم أحد لأمرهم ، لأنهم أطفال فلسطينيون؟”.
طُردت عائلة سويسي من فلسطين عام 1948 وانتقلت إلى لبنان للعيش كلاجئين، حيث قالت سويسي أن التعلق الذي يشعر به الفلسطينيون بأرضهم الأصلية فريد من نوعه، فحين كانت طفلة، وبعكس أصدقائها السوريين أو المصريين، لم يكن لديها دولة ذات سيادة لتعود إليها كل صيف.
وأوضحت سويسي: “لم أكن قادرة على قول عبارة سأعود إلى الوطن، وأعتقد أن الغضب قد اشتد لأن هذه هي الإبادة الجماعية الأكثر توثيقاً في تاريخ العالم”.
وأردفت: “ومع ذلك، عندما أغادر منزلي، عندما أفتح الباب وأخرج، أجد الجميع من حولي يواصلون حياتهم وكأن شيئاً لم يكن”.
“أزمة المعنى”
طارد الاغتراب المجتمعات الفلسطينية طوال هذه الحرب، حتى بعد أن اكتسبت حركة الاحتجاج زخماً، وحتى بعد أن أصبح قول “فلسطين” أقل تحريماً، مما أدى في النهاية إلى إقامة معسكرات طلابية داعمة لغزة في بعض المؤسسات الأكاديمية الأكثر نخبوية في أمريكا الشمالية.
وأخذت ثال محمد، وهي معالجة نفسية في تورنتو، أونتاريو، تتطوع بخدماتها من خلال جلسات افتراضية تقدمها لكل من تأثر بالعدوان على غزة.
وسُجل ارتفاع كبير في عدد الذين يطلبون المساعدة، والعديد من الذين اقتربوا منها لم يسعوا أبداً إلى أي شكل من أشكال الاستشارة من قبل.
وقالت محمد لموقع ميدل إيست آي: “لدي مراجعين من الكنديين الفلسطينيين الذين غادروا للتو وهم منهكون بسبب شعورهم بالذنب، بعضهم مدرسون وبعضهم يعمل في المستشفيات، لكنهم لك يتمكنوا من فهم قدرتهم على الاستمرار في العمل ولم يتمكنوا من فهم مدى افتقادهم للإنسانية”.
وصف الفلسطينيون خلاصات وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بهم بأنها تدفق مستمر لبعض الصور الأكثر فظاعة وإيلاماً على الإطلاق، وهذه الفيديوهات هي عادةً لقطات أصلية تحمل علامة مائية قام بتحميلها صحفيون ومؤثرون فلسطينيون داخل غزة.
يظهر المحتوى كل ساعة وأحيانًا في أقل من ذلك، مما يضفي عليها طابعاً فورياً وصدقًا لم يكن معروفاً قبل ظهور منصات مثل تيك توك وإنستغرام.
والعديد من مقاطع الفيديو هي تظهر أطفالاً مشوهين يصرخون في عذاب أو ينادون على الآباء الذين لم يعودوا موجودين.
أما أولئك الذين يتصفحون هذه الصور باستمرار فيمكن أن يشعروا وكأنهم يعيشون في واقع بديل وهم عاجزون عن إيقافه.
وقالت ندى الحانوتي، وهي أمريكية من أصل فلسطيني من ديربورن بولاية ميشيغان، في يناير/كانون الثاني. “”لم أختبر شخصياً هذا القدر من الحزن في حياتي، إنه مثل أن تكون في علاقة مسيئة مع العالم، هذا يجعلني يصيبني بالغضب إلى حد الجنون”.
وقال منصف مبارك، وهو معالج نفسي سريري في مركز خليل في تورنتو، لميدل إيست آي أنه كان لديه مراجع “مكتئب للغاية” بسبب ما كان يحدث في غزة، لدرجة أنه توقف عن تناول الطعام لمدة أسبوع واضطر إلى أخذ إجازة من العمل.
وقال إن آخرين كانوا يتحدثون باستمرار عن شعورهم بالذنب أثناء الحديث عن مشاكلهم الخاصة.
آليات التأقلم
أما ماي لطيف من لندن، أونتاريو، فقد أمضت أشهراً في محاولة إجلاء عائلة حماتها وزوجة أخيها من غزة.
لقد أصبحوا الآن آمنين، ولكن طوال الوقت، كانت لطيف تكافح أيضاً في عملها كمعالجة نفسية للتعامل مع تداعيات العدوان على المراجعين.
وأوضحت قائلة: “الكثير منا في حالة من الحزن ولا ندرك ذلك لأن أعراض الحزن متنوعة للغاية”.
“عندما يكون لك مكان في الحدث، وعندما تشاهد الظلم كل يوم لمدة 365 يوماً، فمن الصعب حقاً القيام بعملك” – صفاء سويسي، أمريكية من أصل فلسطيني، تولسا
وتابعت لطيف: “عندما نتحدث عن الفلسطينيين الذين لديهم عائلات في غزة، نجد نوبات القلق والذعر والشعور بالذنب لأن أطفالهم يعيشون آمنين هنا، هذا ما يسميه علم النفس الغربي بالانفصال”.
تفضل لطيف استخدام مصطلح “التكيف بالتخدير”، الذي ظهر من خلال الاتجاه إلى الإدمان وتعاطي المخدرات، وفي أغلب الأحيان، الصراع الأسري وهو النمط الذي لاحظته لطيفة أثناء ممارستها.
وأضافت لطيف: “القتال يجعلك تشعر بطاقة أعلى قليلاً من الحزن العميق، لذا فإن القتال مع بعضنا البعض كان، كما أعتقد، طريقة تعامل بها الناس ولم يتمكنوا من ربط ذلك بحقيقة أن الحرب تثير الكثير في داخلهم”.
لاحظت لطيف أيضاً انخفاض القدرة على التواصل أو التعاطف مع مشاكل الآخرين اليومية، والتي قد تبدو غير مهمة في مواجهة ما أسمته الأمم المتحدة “أعمال الإبادة الجماعية” في غزة.
وقالت لطيف: “عندما اصطحبت ابني إلى موقع لعبة التايكوندو تحدثت أمهات الأطفال الآخرين معي عن هذه اللعبة والتنافس فيها، لكني شعرت أن هذا الحديث كان غبياً، كانت هناك أشياء لم أستطع التفاعل معها، وما زلت أواجه صعوبة في التعامل معها”.
وقالت سويسي، في أوكلاهوما، أنها تفهم ضرورة فصل الأجهزة الإلكترونية ليلاً كشكل من أشكال العناية بالذات، مثل قضاء أمسية أو حتى أسبوع دون متابعة دورة الأخبار، لكنها تعترف بأن آليات التكيف الصحية أسهل عند القول من ممارستها بالفعل.
وأضافت: “عندما تأخذ استراحة، تشعر وكأنك تخليت عنهم، تشعر وكأنك خنتهم”.
لكن كل من تحدثت إليهم ميدل إيست آي وصفوا أيضاً شعوراً باليقظة يمكن أن يسير جنباً إلى جنب مع فترة طويلة من الحداد، وهو أمر إيجابي، نظراً للغريزة البشرية للبقاء على قيد الحياة.
وعبرت لطيف عن ذلك بقولها: “نعم، هناك أزمة صحة نفسية، ولكن هناك أيضاً أشخاص يستيقظون على قوتهم ويلاحظون أن لديهم القدرة على التحدث، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، واستخدام صوتهم والدفاع عن أولئك الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم”.
وقال مبارك، لميدل إيست آي أن مراجعيه لجأوا بشكل متزايد إلى إيمانهم للتغلب على الصعوبات.
وأضاف: “يبدو أن أولئك الذين اعتادوا التشكيك في الإسلام أو القيم الإسلامية بدأوا في ممارسة دينهم وتقديره بشكل أكبر، أود أن أقول أن هذا يبدو نابعاً من ملاحظتهم لمرونة وإيمان أهل غزة”.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)