بقلم إيمان الحاج علي
ترجمة وتحرير مريم الحمد
بينما تقترب من نهايتك أيها العزيز عام 2024، فإنني أمد يدي من أرض غزة المدمرة والتي تحلق فيها أصوات الطائرات بدون طيار مع أصداء القنابل التي تصم الآذان وتملأ أرواحنا باليأس، فقد تحولت حياتنا إلى كابوس منذ أن بدأت الإبادة الجماعية الإسرائيلية في أكتوبر عام 2023.
لم تظهر أيها العام العزيز أي رحمة، فقد كنت موجة من العذاب واليأس، تجتاح آمالنا وأحلامنا وجوهر الحياة الطبيعية التي عرفناها من قبل، وأنا ما زلت لا أستطيع أن أتخلص من الذكريات المؤلمة لتلك الأيام المروعة عندما فرض علينا ترك منازلنا واللجوء إلى رفح التي أصبحت ملاذاً وسجناً لنا في آن معاً!
اضطررنا لحشو حياتنا الغنية بالذكريات والراحة في حقائب ظهر واهية ونحن نواجه المجهول المخيف الذي ينتظرنا، فقد كان كل يوم فيك أيها العام يجلب موجة جديدة من القلق، وسوف أظل أتذكر بوضوح وداعي المؤلم لغرفة نومي التي كانت مريحة ومليئة بكتب ذات يوم.
لقد تم استبدال تلك الأيام اليوم بواقع بارد وبحر من عدم اليقين والخوف الذي يغمرنا.
ألم جماعي
لقد جاءنا يناير 2024 برعب عمليات الإخلاء القسري، وهي لحظات سوف تظل محفورة في ذهني إلى الأبد، فأنا لن أنسى الصمت المرير الذي غلف عائلتي بينما كنا ملتصقين معاً في شاحنة، محاطين بوجوه قلقة لأناس لا نعرفهم، جميعهم مرعوبون مما لا يمكن تصوره من القادم الذي ينتظرهم، فقد كان هناك ألم جماعي يتجاوز كل الكلمات.
لن أنسى يوماً الملاجئ المؤقتة التي نصبناها على طول المناظر الطبيعية، ولن أنسى شعوري بالبرد القارس يتسرب إلى عظامي في
الليالي التي قضيناها على الأرض القاسية التي لا ترحم، ولن أنسى رعشات الجوع وتدهور أجسادنا وأرواحنا تحت وطأة الأمراض.
لن أنسى مهانة مشاهد الحمامات المشتركة المزدحمة، بعد أن أصبح غياب الخصوصية منعطفاً قاسياً في معاناتنا، مما أدى إلى تفاقم انزعاجنا الجسدي مع الشعور بالعجز.
يأتي شهر ديسمبر مثقلاً بثقل المعاناة، التي غفل عنها العالم في غزة، الأرض التي دمرتها الحرب والفوضى، ففي الوقت الذي يقوم فيه آخرون بتزيين منازلهم بحماس، يتقاسمون وجبات الطعام ويتبادلون الهدايا، نكافح نحن ضد عدو غير مرئي ونحارب العزلة والخراب
من ناحية أخرى، فقد كان كل يوم من أيام المجاعة يأتي بشؤم يلوح في الأفق، فيلتهم بطوننا وآمالنا وقد كنا نترك في كثير من الأحيان لمواجهة خيار لا يمكن تصوره بين الأكل أو مجرد البقاء على قيد الحياة.
أما عمليات الإخلاء، فقد تحولت إلى روتين كئيب، وهو خيط الوجود الوحيد الذي تعلقنا به لمجرد البقاء، وأنا لن أنسى كيف مر علينا رمضان، الشهر المليئ بلحظات اجتماع العائلة والصلاة، كئيباً قاسياً هذا العام!
يأس يزداد يوماً بعد يوم
لم تتوقف المذابح لحظة هذا العام، فقد غزت كل لحظات الفرح والاحتفال لدينا، فقد كانت أعيادنا مليئة بالحزن والأسى وكنا نبدأ نهارها بمجزرة في كل مرة!
عندما أفكر في أهوال الإبادة الجماعية، لا أزال أستطيع سماع خطى والدي على الأرض وهو يجمع الحطب من أجل الخبز وسط أصوات المدفعية.
مع كل انفجار،كانت خياراتنا تتقلص أكثر وعالمنا يزداد انهياراً، وقد تعلمنا أن نتعجل عندما نلتقط الأشياء القليلة التي يمكننا حفظها، وفي كل مرة كان علينا المغادرة، تركنا أجزاء من أنفسنا وراءنا، أجزاء من الحياة التي كلما مر عام 2024، أصبحت بعيدة المنال أكثر فأكثر.
نصبنا خياماً مؤقتة بجوار البحر الذي لا يرحم، وأصبحت المياه النابضة بالحياة يتردد صداها مع معاناتنا الجماعية، كما أصبحت الشمس، التي كانت ذات يوم مصدراً للبهجة والدفء، خصماً جديداً حين تضرب أشعتها الخيام التي أصبحت ملجأنا الوحيد، كما يترنح ذهني عندما أفكر كيف كنت أسير على طول الشاطئ أضحك مع عائلتي وأصدقائي، والآن لا أرى الشاطئ إلا مكاناً خانقاً ممتلئاً بالحزن واليأس.
لقد مر هذا العام بقسوة مع كل ذكرى، فقد كانت بمثابة تذكير مؤلم بما فقدناه، ففي نوفمبر، عندما اقترب عيد ميلادي، لم أستطع إلا أن أفكر في اليأس الذي خيم على لحظات السعادة والاحتفال، فالمخاوف من مرور عام آخر كانت ثقيلة على كتفي وأنا أحسب الأيام المليئة بالخسارة بدلاً من الضحك.
في الوقت الذي يستعد فيه الناس في جميع أنحاء العالم للاحتفالات للترحيب بالعام الجديد، نجد أنفسنا غارقين في الحداد على الأرواح المفقودة والمستقبل المسروق.
يأتي شهر ديسمبر مثقلاً بثقل المعاناة، التي غفل عنها العالم في غزة، الأرض التي دمرتها الحرب والفوضى، ففي الوقت الذي يقوم فيه آخرون بتزيين منازلهم بحماس، يتقاسمون وجبات الطعام ويتبادلون الهدايا، نكافح نحن ضد عدو غير مرئي ونحارب العزلة والخراب.
من الصعب تحمل هذا التناقض الصارخ، فالأمل بعيد المنال بالنسبة لنا، إذ يبدو أن أحلام السلام والحياة الهادئة تكاد تُنسى وسط الركام!
إنهاء الإبادة الجماعية
لعل المفارقة الأعظم تكمن في حقيقة مفادها أن العالم ينغمس في الفرح، ولا يدرك أن بقاءنا يتوقف على لحظات الأمل والتضامن العابرة التي نسعى جاهدين للحفاظ عليها وسط حزننا المقنن.
مع دخول عام 2025، بات أعظم احتفال نجرؤ على أن نأمل فيه هو نهاية هذه الإبادة الجماعية والوعد بمستقبل أكثر إشراقاً يولد من جديد من رماد اليأس
نحن نتوق إلى فجر عام جديد ينيره بصيص السلام الذي نسعى إليه بشدة، ونرجو أن نجد في العام المقبل القوة لننهض من أعماق نضالنا ونستعيد هويتنا وكرامتنا وإنسانيتنا.
هذه هي أمنيتي بينما تنحسر على ما مر بنا في عام 2024، على أمل ألا تظل قصصنا تائهة في عالم مشتت، نتمنى أن يكون لها صدى عند من لديهم القدرة على الاستماع والعمل من أجل التغيير.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)