عقب إعلان القوات المسلحة السودانية تحرير مدينة الخرطوم من قوات الدعم السريع شبه العسكرية، اندلعت الاحتفالات في شوارع العاصمة، وذلك بعد احتلالها من قبل قوات الدعم السريع لقرابة عامين استولت فيها على المنازل وشردت الآلاف.
امتلأت شوارع الخرطوم بالبهجة إثر الإعلان عن الخبرحيث تدفق مئات من السكان الذين بقوا في المدينة إلى الشوارع احتفالاً، فيما رحب السودانيون النازحون في دول أخرى واللاجئون في البلدان المجاورة بهذه الأخبار على أمل العودة إلى ديارهم التي طال انتظارها.
في حديثه لميدل إيست آي، وصف محمد عبيد من شرق النيل، التي كانت معقلاً سابقاً لقوات الدعم السريع، رعب البقاء في ظل الاحتلال، حيث قال: “بقيت في الداخل لعدة أيام دون طعام، وكنت خائفًا جدًا من الخروج من المنزل، ولا أريد حتى أن أتذكر تلك الأيام، فقد كان من الممكن أن تموت في أي لحظة دون سبب، وإذا تلقيت أموالاً من أحد أقاربك عبر الخدمات المصرفية عبر الهاتف المحمول، كان من الخطر الخروج للخارج وجمعها فقد كانوا في كل مكان وعلى استعداد لنهب هاتفك”.
وأضاف: “وإذا ما تمكنت من الوصول إلى متجر ستارلينك لصرف الأموال، فسوف تجد مقاتلي الدعم السريع يديرون المكان ويستولون على 30% من أموالك دون سبب ويسيطرون على جميع الإمدادات ويبيعونها بأسعار فاحشة”.
وفي حي الدايم، في قلب الخرطوم، ظل أحمد سليمان البالغ من العمر 56 عاماً محاصراً في منزله لمدة عامين، مقطوعاً عن الطعام والضروريات الأساسية، حيث صرح لميدل إيست آي بالقول: “لقد شهدنا تعذيباً لا يمكن تصوره خلال هذه الفترة، فنحن لم نرتكب أي خطأ باستثناء أننا لم يكن لدينا ما يكفي من المال للفرار، وقد نهبتنا قوات الدعم السريع وعذبتنا وأذلتنا وفعلت بنا كل الشر الممكن، وأنا اليوم لا أستطيع أن أصدق أنهم رحلوا، فقد عدنا من الجحيم”.
أما عماد حسن، الذي فر إلى القاهرة عندما اندلع الصراع، فقد أوضح لموقع ميدل إيست آي بالقول: “إنه أمر لا يصدق، فقد كان يوم 26 رمضان هو نفس اليوم الذي اندلعت فيه الحرب قبل عامين، والآن أصبحت الخرطوم حرة مرة أخرى”.
وقال حسن، 37 عاماً، وهو يلوح بمفتاح منزله المهجور منذ فترة طويلة في الخرطوم: “لم أعتقد أنني سأستخدم هذا المفتاح مرة أخرى”.
في حديثه، قارن حسن تجربته بتجربة اللاجئين الفلسطينيين الذين أُجبروا على ترك منازلهم ولكنهم لم يفقدوا الأمل في العودة أبداً، فقال: “ما زالوا يحملون مفاتيح منازلهم أينما ذهبوا، ونحن السودانيون نحب أرضنا وسوف نعود، ورغم أن قوات الدعم السريع طردتنا بأكثر الطرق إذلالاً لكننا سنعود”.
عودة المقاتلين إلى منازلهم
وفي الوقت الذي كان فيه العديد من السودانيين ينتظرون حاملين مفاتيح منازلهم، حمل آخرون السلاح وانضموا إلى القتال إلى جانب القوات المسلحة السودانية لاستعادة مدينتهم، ومن بينهم عمار سيد أحمد، وهو مقاتل وطئت قدمه منزله أخيراً بعد عامين من الحرب.
كانت محطته الأولى هي مطار الخرطوم الدولي، وهي خطوة رمزية تهدف إلى إثبات أن المدينة أصبحت مرة أخرى تحت سيطرة القوات المسلحة السودانية
عمار هو عضو في جماعة البراء بن مالك الإسلامية، التي تقاتل إلى جانب القوات المسلحة السودانية منذ أن أمر رئيس المجلس السيادي السوداني، عبد الفتاح البرهان، بفتح معسكرات عسكرية للشباب السوداني للدفاع عن أنفسهم، فقد دخل الرجل البالغ من العمر 35 عاماً، وهو في الأصل من حي الكلاكلة القبة بجنوب الخرطوم، منزله بالزي العسكري الكامل.
هناك العديد من المقاتلين مثل عمار ممن لم يروا عائلاتهم كل ذلك الوقت، في حين قام آخرون بزيارة عائلاتهم سراً خوفاً من انتقام قوات الدعم السريع، وفي وصف اللحظات التاريخية، صرح عمار لميدل إيست آي بالقول: “أشكر الله أننا عدنا أخيراً إلى ديارنا بعد سنوات من النزوح والإذلال، سواء داخل السودان أو خارجه، فنحن نستحق أن نعيش بكرامة”.
وأضاف: ” سارعت لرؤية عائلتي حتى قبل أن يعلن قائد الجيش رسمياً خلو الخرطوم من قوات الدعم السريع، فقد افتقدتهم كثيراً وقد رحبوا بي بالزغاريد والفخر”.
عودة رمزية
قبل عامين، كان قد وجد قائد القوات المسلحة السودانية البرهان نفسه في وضع بئيس، حيث كانت قوات الدعم السريع قد حاصرته وكبار ضباطه وكادت أن تعتقلهم عندما سيطرت على معظم أنحاء الخرطوم.
تمكن البرهان من الفرار من مقر القوات المسلحة السودانية المحاصر في أغسطس عام 2023، وذلك بعد 4 أشهر من الاحتجاز، حيث أثار خروجه الدراماتيكي العديد من الشائعات، فهناك من زعم بأنه تم نقله جواً بواسطة القوات الخاصة، فيما تكهن آخرون بأنه سبح تحت الماء عبر نهر النيل للوصول إلى أم درمان، حيث كانت القوات المسلحة السودانية لا تزال تسيطر على تلك الأراضي.
في ذلك الوقت، سخر قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان “حميدتي” دقلو ونائبه وشقيقه عبد الرحيم حمدان دقلو، من البرهان، زاعمين أنه كان يختبئ في قبو مقر القوات المسلحة السودانية، ثم كشف البرهان لاحقاً بأن مقاتلي قوات الدعم السريع كانوا قد اقتحموا منزله في 15 أبريل عام 2023 وقتلوا 30 من رجاله.
أما اليوم، فنجد أن عودة البرهان إلى الخرطوم مختلفة عن وضعه السابق، حيث بدا واثقاً منتصراً، ووصل إلى العاصمة على متن مروحية عسكرية واستقبلته القوات المسلحة.
كانت محطته الأولى هي مطار الخرطوم الدولي، وهي خطوة رمزية تهدف إلى إثبات أن المدينة أصبحت مرة أخرى تحت سيطرة القوات المسلحة السودانية.
رغم الهجمات الأخيرة التي شنتها قوات الدعم السريع باستخدام طائرات بدون طيار على القصر الرئاسي، والتي أسفرت في إحداها عن مقتل ضباط بالجيش وصحفيين، إلا أن البرهان أصر على مخاطبة الأمة من داخل القصر معلناً من قلب الخرطوم أن “الخرطوم حرة الآن فهذا الأمر قد انتهى”.
نصر هش
رغم مشاهد البهجة، إلا أن الوضع لا زال متقلباً بالنسبة للعديد من النازحين السودانيين بحيث لا يمكن المخاطرة بالعودة إلى ديارهم، منهم صبري الحسن، الذي نزح من الخرطوم إلى بورتسودان على ساحل البحر الأحمر بعد اندلاع الحرب، فقد أكد لميدل إيست آي بأنه لا يزال يخشى العودة، حيث قال الحسن: “أريد العودة إلى الخرطوم، لكنني خائف، فانعدام الأمن واحتمال وقوع هجوم آخر لقوات الدعم السريع وخطر تجدد الحرب يجعل الأمر خطيراً للغاية”.
لقد أدى الصراع بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، الذي بدأ في أبريل عام 2023، إلى مقتل ما لا يقل عن 150 ألف شخص في الأعمال العدائية التي تتهم قوات الدعم السريع فيها بارتكاب أعمال إبادة جماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
إلى جانب المخاطر الأمنية، فقد أشار الحسن إلى النقص الحاد في الخدمات الأساسية، مؤكداً أنه “في الوقت الحالي، فإن العودة مستحيلة، فلا يوجد أمن ولا رعاية صحية ولا تعليم ولا كهرباء، لا شيء، المدينة ملوثة والظروف صعبة للغاية”.
تجدر الإشارة إلى أن العاصمة كانت ذات يوم رمزاً للجمال عند ملتقى النيلين الأبيض والأزرق، والآن لا تحمل إلا ندوب الحرب من دمار واسع وشوارع مليئة بالحطام ومنازل مليئة بالقصص المأساوية، فجثث المدنيين والجنود هي بمثابة تذكير قاتم بالمعاناة التي تم تحملها.
ورغم نجاح القوات المسلحة السودانية، إل أنه لا تزال هناك حالة من عدم اليقين حول مدى استدامة سيطرتها، فقد تعهدت قوات الدعم السريع بإعادة تنظيم صفوفها وشن المزيد من الهجمات، حيث يخشى الكثيرون من أن المعركة من أجل الخرطوم لم تنته بعد.
من جانبها، فقد نفت قوات الدعم السريع فقدان السيطرة على الخرطوم، وادعت بدلاً من ذلك بأن قواتها أجرت “انسحاباً تكتيكياً” من العاصمة، حيث صرح مستشار قوات الدعم السريع الباش طيبيق في بيان صحفي بأن المجموعة شبه العسكرية لا تزال في “أعلى مستوياتها” ومستعدة تماماً لمواصلة القتال ضد القوات المسلحة السودانية.
علاوة على ذلك، ففي نفس اليوم الذي أعلنت فيه القوات المسلحة السودانية استعادة السيطرة على الخرطوم، أعلنت قوات الدعم السريع إطلاق تحالفها العسكري مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة عبد العزيز الحلو، حيث وقعت المجموعتان اتفاقاً سياسياً مؤخراً في نيروبي بكينيا، أعلنت فيه قوات الدعم السريع حكومة “سلام ووحدة” موازية في المناطق التي تسيطر عليها.
لقد أدى الصراع بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، الذي بدأ في أبريل عام 2023، إلى مقتل ما لا يقل عن 150 ألف شخص في الأعمال العدائية التي تتهم قوات الدعم السريع فيها بارتكاب أعمال إبادة جماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
نتيجة للصراع، فقد اضطر نحو 12 مليون شخص إلى النزوح من منازلهم، فيما يواجه أكثر من نصف السكان حالياً “مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد” وفقاً للأمم المتحدة.