بقلم أندرياس كريغ
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
لم يقف العدوان الذي شنته دولة الاحتلال على الدوحة، الثلاثاء الماضي، عند حدود استهداف موقع جغرافي، بل أصاب في العمق مسار الوساطات الإقليمية برمته بعدما ضُرب قلب العملية الدبلوماسية التي لطالما جعلت من قطر إحدى أبرز الوسطاء في الخليج.
إنها المرة الثانية خلال شهرين فقط التي تتعرض فيها الدوحة لهجوم مباشر من طرف يُفترض أنه شريك في الوساطة، والمرة الثانية التي تفشل فيها واشنطن في ردع أي اعتداء يستهدف حليفتها الأقرب في الخليج.
لقد كان الهجوم مدروساً بعناية، وإن بدا متهوراً في التنفيذ، إذ استهدف الاستقرار والأمن والدبلوماسية الإقليمية في آن واحد.
واشنطن عاجزة
جاء القصف في لحظة حساسة، إذ يسعى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ومعه تيار “اجعلوا أميركا عظيمة مجدداً” (MAGA)، إلى تقليص الانخراط في قضايا المنطقة.
لكن ما بدا للعالم هو رئيس يكبله العجز، لا يملك القدرة حتى على “إلجام كلبه”، بحسب وصف مجازي متداول في الأوساط السياسية الأمريكية، حتى أن المشهد بات أقرب إلى “الذيل الذي يهزه الكلب”، وهو ما سيُقرأ في الخليج كعلامة ضعف وارتباك أمريكي.
وهم الحياد الآمن
وعلى مدار عقود، بنت قطر استراتيجيتها على وهم بدا باعثاً للطمأنينة مفاده أن دورها كوسيط، “سويسرا الشرق الأوسط”، سيمنحها قدراً من الحماية.
لقد ظل الحياد المبدئي والحوار ولغة المصافحات في العلن واللقاءات السرية في الكواليس هو النهج القطري الدائم، وباستمرار كان ذلك يتم برعاية أمريكية وبما يخدم مصالح واشنطن.
وعلى رأس ذلك كله تتربع قاعدة “العديد” الجوية، أكبر تمركز عسكري أمريكي في الشرق الأوسط، والتي اعتُبرت بوليصة التأمين النهائية للدوحة.
لكن الهجوم الأخير أثبت أن هذا الوهم قد تحطم، لقد بدا الشعور بالأمان متهالكاً منذ الولاية الأولى لترامب، حين منح رواية أن قطر “تدعم الإرهاب” مساحة في واشنطن، الأمر الذي فتح الباب أمام حصار استمر ثلاث سنوات فرضته أبوظبي والرياض والمنامة.
واليوم، وبعد عودة ترامب إلى البيت الأبيض، تتعرض الدوحة لصفعتين في غضون شهرين فقط، الأولى على يد إيران في 23 يونيو/حزيران، والثانية على يد دولة الاحتلال في سبتمبر/أيلول.
لقد وضع التمسك بالحياد المبدئي دفاعاً عن التعددية الإقليمية والاستقرار دولة قطر مباشرة في مرمى النيران.
إهانة متعمدة لواشنطن
لم يكن الهجوم على الدوحة مجرد اعتداء على وسيط إقليمي، بل كان صفعة مباشرة للبيت الأبيض، فقد اعتاد بنيامين نتنياهو على دفع الرؤساء الأمريكيين إلى الزاوية، وهذه المرة اختار إذلال ترامب في وضح النهار.
المفارقة أن الاجتماع المستهدف كان يناقش خطة لوقف إطلاق النار برعاية أمريكية، وضعها ستيف ويتكوف بالتنسيق مع شركاء قطريين، في محاولة “للمستحيل” وهو جمع الأطراف حول طاولة تفاوض.
لكن نتنياهو أثبت مجدداً أن استمرارية الحرب أهم لديه من أي تسوية، وبكلمات أخرى فإن جيش الاحتلال قصف دبلوماسية ترامب نفسها.
لقد كانت هذه ضربة مهينة لواشنطن وتذكيراً لقاعدة ترامب الانتخابية بأن وعوده بالابتعاد عن “التشابكات الخارجية” تتلاشى.
وبينما سعى الخليج، وقطر على رأسه، لتأمين مخرج للولايات المتحدة من حروب لا تنتهي، أعاد نتنياهو جرها إلى المستنقع ذاته.
نزيف في المصداقية
كما يُعد الهجوم اعتداءً على البنية الهشة للاتفاقيات الإبراهيمية، ذلك المشروع الكبير لتطبيع العلاقات بين دولة الاحتلال ودول خليجية، والذي بات أكثر هشاشة من أي وقت مضى.
يزداد المشهد قتامة بسبب الفوضى السائدة في واشنطن، فالإدارة الأمريكية تبدو عاجزة، وحضورها في المنطقة يكاد يتلاشى، ونفوذها يتراجع بشكل غير مسبوق.
لقد جرى انتهاك أحد أبرز الوسطاء في الخليج، ودُيست سيادته علناً، فيما عجزت إدارة ترامب حتى عن صياغة إدانة واضحة على منصة “تروث سوشيال” لاعتداء دولة الاحتلال على قطر.
وإذا كان الاحتلال يتحدث عن “جز العشب” كاستراتيجية لإبقاء المقاومة الفلسطينية تحت السيطرة، فإنه منذ عامين يمارس “حراثة بساتين الجيران”، بلا قواعد، ولا خطوط حمراء، ولا ضوابط.
إن الفوضى الأمريكية تجعل الأمر أكثر خطورة فواشنطن تبدو بلا وزن، بلا رؤية، بلا قدرة على ردع، لقد بدأت مصداقيتها كحامية لأمن الخليج تنزف حتى آخر قطرة.
ومنذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، لم تجد القيادة القطرية سبباً واحداً يدفعها للتشكيك في التزام الولايات المتحدة بأمن المنطقة.
بل إن الدوحة راهنت على أن اعتمادها المتبادل مع واشنطن قد يمنحها مكانة خاصة، تصل إلى مستوى الحليف المساوي لدولة الاحتلال، لقد كانت سنوات طويلة وضعت قطر فيها “جميع بيضها في السلة الأمريكية”.
لكن اليوم، تجد الدوحة نفسها أمام سؤال وجودي: هل كانت ساذجة في الثقة بتحالفها مع واشنطن، بينما فضّل بعض جيرانها كالإمارات العربية المتحدة سياسة تنويع الحلفاء وتعدد المسارات؟ لقد صار الحديث عن “الاستقلالية الاستراتيجية”، الذي كان يوماً ما مجرد مصطلح أكاديمي، ضرورة وجودية لقطر.
توازن مختل وتحذيرات متأخرة
تنتشر روايات متضاربة حول من حذّر من الهجوم ومتى، والأخطر أن تكون التحذيرات للبيت الأبيض قد جاءت من الجيش الأمريكي نفسه وليس مباشرة من مكتب نتنياهو، والأشد إيلاماً لقطر أن التحذير الموجه إليها صدر بعد أن كانت الصواريخ قد أصابت أهدافها.
لقد تصرف نتنياهو هذه المرة دون الحاجة إلى “ضوء أخضر” أمريكي، بل بافتراض أن له اليد الطولى.
هذا التحول في ميزان القوة يعكس مدى انحدار مكانة واشنطن، فقد وجد ترامب نفسه محشوراً بين مطرقة الحلفاء الخليجيين وسندان اللوبي الإسرائيلي، ليظهر متناقضاً يحاول إرضاء الطرفين بينما يرى الجميع الفتات يتساقط من بين يديه.
مفارقة مرة
رغم فداحة الضربة، فشلت دولة الاحتلال في تحقيق الهدف العملي، قادة حركة حماس ما زالوا أحياء، بينهم خليل الحية، ذلك الرجل الهادئ غير الكاريزمي، الذي قد يخرج من هذه التجربة بوزن سياسي أكبر بفضل صموده.
المفارقة أن ضربة كان يُفترض أن تضعف حماس قد تمنحها زخماً جديداً، إذ سيُنظر إلى الناجين باعتبارهم أكثر قوة، ما يضاعف تعقيدات ملف الأسرى لدى الاحتلال.
إن هذا الفشل يفضح تناقضاً صارخاً مفاده أن عملية عسكرية أرادت إضعاف المقاومة، لكنها انتهت بتقويتها.
الدوحة بين الوساطة والاستهداف
الدرس الذي تستخلصه قطر قاسٍ لكنه واضح، إن دورها كوسيط إقليمي لا يمنحها حصانة، بل قد يجعلها هدفاً للضربات من كل اتجاه.
ورغم أن إستراتيجية “الانخراط البراغماتي” لا تزال مهمة، إلا أنه لم يعد ممكناً أن تُبنى هذه الاستراتيجية على أمل أن تكون واشنطن حاضرة دائماً لتوفير المظلة الدفاعية.
وكذلك لم تعد “الاستقلالية الاستراتيجية” ترفاً، بل ضرورة، فعلى العقول الاستراتيجية في الدوحة أن تعيد تقييم الفرضيات الأساسية التي حكمت سياستها لعقود.
لقد ولى زمن كانت فيه الولايات المتحدة “قائد الأوركسترا” في الشرق الأوسط، واليوم، تُعزف الألحان خارج إيقاعها.
وعلى قطر، مثل بقية دول الخليج، أن تحدد خيارها: هل تستمر في العزف وفق نوتة واشنطن، أم تجمع مواردها وقدراتها لتصوغ أوركسترا خاصة بها، تمكّنها من أن تصبح قطباً مستقلاً للاستقرار في المنطقة؟
ربما بات اليقين الوحيد اليوم هو غياب اليقين، والقواعد القديمة لم تعد صالحة، وفي هذا الفراغ، على الدول الصغيرة مثل قطر أن تجد طرقاً جديدة للبقاء، للوساطة، ولإثبات أهميتها، فالحياد قد لا يحميك من النار، لكنه قد يُبقيك ضرورياً.
وعلى الرغم من عجز ترامب عن صياغة رد واضح، فإن المجتمع الدولي أدان دون لبس هجوم دولة الاحتلال على الدوحة، أوروبا، والجنوب العالمي، والعالم العربي، وحتى المنظمات الدولية، جميعها حمّلت الاحتلال مسؤولية هذا الانتهاك الخطير للقانون الدولي.
وهذا يثبت أن إستراتيجية قطر في لعب دور الوسيط لم تكن عبثاً، وأن قيمتها في الساحة الدولية، رغم كل الضغوط، لا تزال قائمة.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)