عزيزة.. شيّعت زوجها وحيدةً تحت النار، ثم دفنته مرتين بيديها

بقلم أحمد عزيز

ترجمة وتحرير نجاح خاطر 

في حديقة صغيرة جنوب قطاع غزة، وبين دوي القصف وأزيز الطائرات، حفرت الفلسطينية عزيزة قشطة قبراً بيديها لرفيق دربها إبراهيم قشطة، بعدما قضى متأثراً بجراحه خلال حصار فرضه جيش الاحتلال على مدينة رفح.

لفّت الستينية الفلسطينية جثمان زوجها بستارة نافذة دون كفن ودفنته بمفردها وسط الدمار بعدما استشهد إثر إصابته بشظية في رقبته نتيجة قصف عنيف شنّه جيش الاحتلال.

“لن أتركك أبداً بعد 50 عاماً من العيش معاً”

وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، بقي إبراهيم وهو كفيف يبلغ من العمر 70 عاماً متمسكاً بالبقاء في منزله بحي خربة العدس رغم الحصار والقصف، فرفضت عزيزة مغادرة المنزل أيضاً وقررت البقاء إلى جانبه.

وقالت عزيزة لموقع ميدل إيست آي: “قال لي: لن أغادر المنزل، وستبقين معي، فقلت له: بالطبع، لن أتركك أبداً بعد خمسين عاماً من العيش معاً”.

ولمدة شهرين، بقي الزوجان وحيدين في منزلهم المحاصر، يعيشان على مؤن بسيطة قوامها فاصولياء وعدس ومعكرونة وأرز ومربى، وكانا يحاولان جلب المياه من مبنى مجاور كلما سنحت الفرصة.

وقالت عزيزة وهي تتذكر اللحظات التي عاشتها وزوجها تحت دوي المدافع وغارات الطائرات الحربية: “كنا محاطين بالقصف من كل الجهات، من الشرق والشمال والغرب، والأسوأ كان من الغرب”.

وحين سقطت قذائف على منزل ابنها المجاور وانهار على من فيه، رفض إبراهيم مغادرة المنزل، فبقيت عزيزة معه. 

ولم تكن عزبزة الوحيدة التي فقدت أقاربها، إذ تقول إن “أكثر من عشرة من أبناء عمومتي ما زالوا تحت الأنقاض حتى اليوم”.

خمسة ساعات من النزيف.. ثم الرحيل

وفي أحد الأيام، تسببت غارة عنيفة بهدم المنازل المحيطة بهم، ولم يتبقَ سوى غرفة واحدة وحمام، وبعد انقشاع الغبار، رأت عزيزة زوجها ينزف من رقبته بعد أن أصابته شظية،

فهرعت إليه، غسلت جرحه، ولفته بقطعة قماش، ثم حملته على ظهرها، تنقله ببطء بين أنقاض المدينة المنكوبة.

وتقول وهي تستذكر تلك الساعات الثقيلة: “استمر النزيف خمس ساعات، كنا خلالها وحدنا، لا أصوات ولا إضاءة”.

وحين وصلت بيت أحد أقربائها، وضعت عزيزة جسد زوجها على الفراش، وسألته إن كان يريد الطعام، فرفض، واكتفى بملعقة عسل وقليل من الماء.

وتابعت تروي تفاصيل ساعات زوجها الأخيرة: “قال لي: صبّي بعض الماء على رأسي، ووضعت رأسي على وسادته وجلست بجانبه، فرأيت يده ترتجف، فقلت له: هل أدلكها؟ قال: لا، اتركيها، ثم سقطت يده، وعرفت أنه قد رحل”.

“دفنته وحدي.. والله أعطاني القوة”

وفي غياب تام لأي مساعدات أو إمكانيات للدفن، حملت عزيزة جسد زوجها إلى حديقة قريبة، ووجدت حفرة صغيرة قرب شجرة زيتون.

تابعت الزوجة حديثها بالقول: “لففته بستارة نافذة، ووضعته في كيس بلاستيكي، وبدأت أدحرجه برفق نحو الحفرة”، في عملية استغرقت ساعتين من الجهد المضني، لكنها أكدت أن الله منحها القوة.

وضعت عزيزة صفائح الزينكو فوق جثمان زوجها ثم غطتها بألواح خشبية ثم حثت عليها التراب وودعته  “بتلاوة آية الكرسي وسورة يس وبكيت بصمت”.

عادت عزيزة إلى منزلها، واستحمت، ونامت لأول مرة منذ شهرين، لكن ذلك الهدوء لم يدم طويلاً.

“وجدت رأسه مكشوفاً.. فدفنته من جديد”

ففي اليوم التالي، عادت عزيزة إلى القبر بعد أن سمعت أصوات قصف مجاورة، لتجد ألواح الزينكو مثقوبة بالرصاص ورأس زوجها مكشوفاً.

قالت: “انفطر قلبي لرؤيته على هذا الحال، فالتقطت رأسه، وكان خفيفاً كرغيف خبز وأعدته إلى القبر، حفرت هذه المرة أعمق، وغطّيته مجدداً”.

ورغم هول التجربة، لم تشعر عزيزة بالخوف قط حيث تقول: “فقط شعرت بالألم والصبر”، ثم عادت إلى بيتها، وأعدت كوباً من الشاي وتناولت إفطاراً بسيطاً بما تبقى من مؤن.

وبعد أسبوعين من البقاء وحيدة، قررت عزيزة المغادرة، فسارت حاملة عصا ملفوفة بقطعة قماش بيضاء وحقيبتين صغيرتين.

وعند حاجز لجيش الاحتلال، أُمرت بالتوقف، ثم ألقيت عليها زجاجة مياه، وواجهتها دبابة، طلبوا منها خلع الحجاب لالتقاط صورة، وهددوها بالقتل إن رفضت.

وتابعت: “خلعت غطاء رأسي لكنهم وجهوا نحوي عشرين سلاحاً وفي النهاية نجوت”.

فبعد تحقيق ومضايقات، وضع الجنود عزيزة في سيارة جيب، وواجهت أسئلة عن زوجها وأبنائها، ثم تُركت عند مكان يدعى “المرج”، حيث ضلت طريقها أربع ساعات قبل أن تصل إلى مركز إغاثة يشرف عليه جيش الاحتلال وشركة أمريكية.

وتقول عن هذه التجربة: “طلبوا منها التوجه شمالاً، حتى وصلت لمخيم نازحين، ومنه إلى خان يونس، وهناك التقيت أربعة شبان عرفوا عائلتي واتصلوا بأقاربي الذين حضروا وأخذوني”.

وتتابع: “كان الألم أكبر من الخوف، والصبر رفيقي الوحيد”، لقد فقدت عزيزة كل شيء لكنها احتفظت بكرامتها وقوة قلبها.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة