عقب أحداث الشغب… كيف أصبحت الحركة اليمينية المتطرفة هي السائدة في بريطانيا؟

بقلم ألين غابون

ترجمة وتحرير مريم الحمد

لقد أثارت أعمال الشغب الأخيرة، التي بدأت 30 يوليو الماضي في المملكة المتحدة بعد مقتل 3 فتيات صغيرات طعناً، الجدل حول التهديد العنيف الذي تشكله الحركة اليمينية المتطرفة تجاه مجتمعات الأقليات مثل المهاجرين والمسلمين في البلاد.

لقد أدى تناقل المعلومات الخاطئة والشائعات التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي في أعقاب مقتل الفتيات إلى أعمال تخريب ضد المساجد البريطانية ومقابر المسلمين، كما جاءت أعمال الشغب أيضاً في وقت تزامن مع حملة انتخابية قامت فيها وسائل الإعلام اليمينية وسياسيون مثل زعيم حزب الإصلاح، نايجل فاراج، بالتحريض ضد المسلمين والمهاجرين.

لقد أظهرت أعمال الشغب العنيفة التي قام بها اليمين المتطرف في بريطانيا مؤخراً، أن كراهية الإسلام يمكن أن تشكل تهديداً جسدياً حقيقياً ودائماً للمسلمين وحتى لغير المسلم الذي يُنظر إليه أو يُصنف على أنه مسلم، مثل العرب المسيحيين أو الملحدين

من ناحية أخرى، فقد أظهر استطلاع للرأي نشر مؤخراً أن 92% من المسلمين البريطانيين يشعرون “بتراجع الإحساس بالأمان” بعد أعمال الشغب التي قام بها تيار اليمين المتطرف، حيث أعرب الكثيرون عن خوفهم من مغادرة منازلهم، كما أفاد 1 من كل 6 أشخاص أنهم قد تعرضوا لهجوم عنصري، فيما ذكر ثلثا المستطلعة آراؤهم أنهم شهدوا هجوماً ضد زميل مسلم.

تجدر الإشارة إلى أن الحملة الانتخابية في فرنسا وتلك التي سبقتها في جميع أنحاء أوروبا بما فيها إيطاليا وإسبانيا، شهدت بروز عدد من السياسيين اليمينيين المتطرفين الذين حصلوا على دعم من قطاعات كبيرة من الناخبين.

إذا ما أردنا فهم هذه الديناميكيات التي حصلت مؤخراً، فينبغي لنا أن نأخذ في الاعتبار 4 جوانب فيما يتعلق بتيار اليمين المتطرف الأوروبي، إيديولوجيته وأهدافه وأجندته السياسية والتهديد الذي يمثله، بالإضافة إلى تأثير هذه الأحزاب في صناديق الاقتراع وأسباب تصويت الناس لهم.

الجوهر الإيديولوجي

تشترك الأحزاب اليمينية الأوروبية في جوهر إيديولوجي مشترك ظل ثابتاً تاريخياً وجغرافياً، حتى تم ترجمته إلى مقترحات انتخابية، ويتضمن هذا الجوهر ما أطلق عليه علماء السياسة مؤخراً اسم “الشعبوية الوطنية” أو “الشعبوية الجديدة”.

غالباً ما ترتبط تلك “الشعبوية الجديدة” بمعاني القومية المتفاقمة أو تمجيد الفخر الوطني والذي غالباً ما يكون مصحوباً بالشعور بالتفوق على الآخرين، فهو يدعم الفهم القومي والعنصري نحو العرق الأبيض وتصبحه فلسفة إقصائية تقدس العنصرين الأخيرين وتنطلق منهما.

ويشكل التطبيق الاستبدادي للقانون والنظام سمة مركزية أخرى، كما يكون هناك انعدام للثقة في “العولمة” بأشكالها المختلفة، ويتضمن ذلك رفض الهجرة وفكرة الحدود المفتوحة والعالمية والتعددية الثقافية، مقابل التشبع بالأوهام القومية لمجتمع متجانس وثابت.

تشترك الجماعات اليمينية المتطرفة أيضاً في أساليب الإغواء والجاذبية، فهي تشمل الشعبوية والوصم الخبيث للنخب السياسية والثقافية والفنية بأنها “متغطرسة ومنعزلة وغير شرعية”.

إضافة إلى ذلك، تتبنى الشعبوية تصوير الذات على أنها المستضعف أو الترويج لعبادة زعيم قوي يتمتع بشخصية كاريزمية، من دونالد ترامب إلى فيكتور أوربان وجورجيا ميلوني، باعتبارها تكتيكات فعالة.

إن انتشار الخطاب المثير للقلق حول “تراجع” الحضارة الغربية يزيد من دعم الحركة اليمينية المتطرفة، ومن أجل تفسير هذا “الانحدار” المفترض، يعتمد أنصار اليمين على التضحية المنهجية بالايديولوجيات “المهيمنة” مثل “العولمة” أو “حركة اليقظة” من جهة، ومجموعات مثل “النخب” أو “اليسار” من جهة أخرى، فضلاً عن الأقليات المختلفة.

دعم التيار السائد

لقد أظهرت أعمال الشغب العنيفة التي قام بها اليمين المتطرف في بريطانيا مؤخراً، أن كراهية الإسلام يمكن أن تشكل تهديداً جسدياً حقيقياً ودائماً للمسلمين وحتى لغير المسلم الذي يُنظر إليه أو يُصنف على أنه مسلم، مثل العرب المسيحيين أو الملحدين!

إن السجل التاريخي لليمين المتطرف سواء في تجسيداته الفاشستية والنازية المختلفة، ناهيك عن سجله المستمر من العنف، يؤكد تلك التهديدات، ففي الوقت الذي يعلن فيه اليمين المتطرف أن عداءه مركز نحو الأقليات من الأجانب وطالبي اللجوء والمسلمين والأفراد ذوي البشرة الداكنة، إلا أنهم في الحقيقة يشكلون تهديداً لمجتمعات ودول بأكملها كما أظهر التاريخ بوضوح.

تظل الإيديولوجيات التي ينشرونها أسوأ ما يمكن أن يقدمه الغرب، فهم مناهضون بشدة للديمقراطية وسلطويون وأصوليون ولا يؤمنون بالمساواة ويهاجمون المثل الغربية العالمية، بما فيها سيادة القانون والفصل بين السلطات واستقلال المجالات الثقافية والإعلامية والفكرية في المجتمع.

وتمتد جذور اليمين المتطرف إلى الأوهام الهستيرية المذعورة حول التفوق العنصري الحضاري والتهديد الذي يواجهه المسيحيون البيض بسبب الهجرة و”الأسلمة”.

لقد استفادت الأحزاب اليمينية المتطرفة من هذه الصعوبات الاجتماعية والاقتصادية وحولت معاناة تلك الفئات بمهارة إلى “حروب ثقافية”، تم إيهام المجتمع فيها أن مشاكلهم سوف يتم حلها من خلال حلول خيالية مثل إنهاء الهجرة والعودة إلى القيم العائلية التقليدية ومحاربة الإسلام

لقد أدت الأسباب السابقة إلى نجاح مذهل لليمين المتطرف في الغرب، ولكن ذلك يجب أن يكون مصدر قلق كبير وذلك لـ3 أسباب على الأقل، أولها أنه على مدى 30 عاماً، نمت حركة اليمين المتطرف بسرعة بالغة تحولت معها من أحزاب هامشية إلى متنافسة على الحكومة، مثل حزب الجبهة الوطنية في فرنسا والذي أصبح الآن في وضع يتيح له المشاركة في أعلى المستويات الحكومية.

ثانياً، لا ينبغي أن يقاس تأثيرهم فقط بانتصاراتهم الانتخابية، بل أيضاً بتأثير أفكارهم وهواجسهم، مثل آرائهم حول قضايا الهجرة و”الأسلمة” و”الانفجار” المزعوم للجريمة وانعدام الأمن، فقد أصبحت التيارات اليمينية اليوم في كثير من البلدان الغربية هي السائدة.

ثالثاً، يواصل اليمين المتطرف النمو بكل الطرق التي يمكن تصورها، انتخابياً واجتماعياً وأيديولوجياً وسياسياً، وذلك من خلال السياسات التي يتم تنفيذها على المستوى الوطني ومستوى الاتحاد الأوروبي من قبل قوى سياسية.

تظهر الدراسات الانتخابية أن اليمين المتطرف يحرز تقدماً وهو مستمر بالتغلغل والترسخ في نسيج المجتمعات التي ولد فيها، في الوقت الذي تتجمع فيه شرائح ديموغرافية ضده، وسواء كان ناخبو اليمين المتطرف أوروبيين أو أمريكيين، فإنهم متنوعون.

في الولايات المتحدة مثلاً، يجند ترامب الفئات العنصرية الحقيقية، والتي غالباً ما تكون من الفئات العمرية الأكبر سناً التي تشعر بالحنين إلى “أمريكا المسيحية البيضاء” التي تم فيها حرمان الأقليات الملونة من حقوقها، كما أنه يجذب أيضاً المتعصبين للأسلحة النارية والذين يخشون على حقوقهم في حمل الأسلحة إذا فاز الديمقراطيون، بالإضافة إلى المسيحيين الإنجيليين الذين لا يهمهم سوى الكتاب المقدس والمؤامرة الساذجة، كما يأتي الدعم من أصحاب الملايين ورجال الأعمال الأثرياء الذين يتوقعون تخفيضات ضريبية أكبر وقواعد تنظيمية بيئية أقل!

حرمان من الحقوق

أما في فرنسا، فإن الأسباب التي دفعت العديد من الناخبين الشباب، الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و25 عاماً، إلى دعم زعيم التجمع الوطني، جوردان بارديلا، لا تتقاطع في الغالب مع أسباب الناخبين اليمينيين المتطرفين الآخرين.

تشير الدراسات إلى أن جيل تيك توك ينجذب بشكل أساسي إلى صورة بارديلا الشابة والجذابة والإيجابية والأنيقة، وهذا الجزء الكبير والمتزايد من الناخبين لا يهتم في واقع الأمر بالسياسة أو بقضايا مثل الهجرة أو الاقتصاد أو أوكرانيا، فالمهم بالنسبة لهم أن يشاركهم أذواقهم الثقافية، فهو لاعب فيديو متعطش ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي حول الألعاب الشهيرة، حتى أنه يعد أتباعه باللعب ضده وجهاً لوجه إذا صوتوا له!

هؤلاء الناخبون الشباب ينظرون إلى بارديلا على أنه شخص مؤثر أكثر من كونه سياسياً، فهم ليس لديهم سوى القليل من القواسم المشتركة مع النازيين الجدد والمتطرفين العنصريين الحقيقيين الذين يصوتون أيضاً لصالح اليمين المتطرف الفرنسي.

من الواضح أن الحركة اليمينية المتطرفة سوف تستمر في النمو حتى تتصارع القوى السياسية الأخرى مع الصعوبات الاجتماعية والاقتصادية المتصاعدة التي دفعت قطاعات واسعة من السكان إلى أحضان تلك الأحزاب وحلولها الزائفة على مدى عقود

ورغم ذلك، إلا أن الشريحة الأكبر من ناخبي ترامب أو ميلوني أو لوبان أو بارديلا ليست من تلك المجموعات، فكما تظهر الدراسات، فإن أنصار هؤلاء السياسيين اليمينيين يحركهم في المقام الأول شعور بالتخلف عن الركب، وهي حقيقة اجتماعية واقتصادية موضوعية في كثير من الأحيان، حيث يشعرون بأن الأحزاب التقليدية قد خانتهم وأن النخب الثقافية والفكرية قد احتقرتهم.

“الطبقات الشعبية”

سواء كانت أصوات الفرنسيين أو الأمريكيين أو البولنديين، فإن أصوات اليمين المتطرف هي في الأغلب أصوات “الطبقات الشعبية”، وهؤلاء شرائح من المجتمع تعيش في فقر ويشعرون أنه يتم القضاء على أنماط حياتهم وقيمهم المحافظة بسبب السياسات التي سنتها الطبقة الحاكمة على مدى العقود العديدة الماضية، بعد تشكل الاتحاد الأوروبي والتحول إلى الاقتصاد النيوليبرالي والعولمة. 

هؤلاء هم ناخبو المدن الصغيرة الذين عانوا من تدهور مدنهم وقراهم، وإغلاق الشركات مثل المقاهي المحلية ومحلات البقالة وفقدان الخدمات العامة مثل المستشفيات والبنوك ومكاتب البريد، ومنهم الأشخاص الذين يعيشون في المناطق الريفية النائية، ويعتمدون على سياراتهم أكثر من سكان المدن، ولذلك فقد تضرروا من زيادة أسعار الطاقة.

من بين هؤلاء أيضاً المزارعون الأوروبيون المكافحون الذين عانوا من الحصص الأوروبية المفروضة والأنظمة البيئية التي حدت من إنتاجهم وسحقتهم اقتصادياً، ومن بين هؤلاء الطبقات العاملة من ذوي الياقات الزرقاء الذين فقدوا صناعاتهم ووظائفهم بسبب تراجع التصنيع والاستعانة بمصادر خارجية ونقل العمالة إلى أماكن أخرى، وصغار الموظفين الذين يعيشون على وظائف منخفضة الأجر.

إن تلك الطبقات الشعبية التي عاشت أو يطاردها الخوف من الانحدار الطبقي والاقتصادي، على عكس النمو الاجتماعي والاقتصادي الذي وعدت به حكوماتهم هم الناخبون الأساسيون للأحزاب اليمينية.

لقد استفادت الأحزاب اليمينية المتطرفة من هذه الصعوبات الاجتماعية والاقتصادية وحولت معاناة تلك الفئات بمهارة إلى “حروب ثقافية”، تم إيهام المجتمع فيها أن مشاكلهم سوف يتم حلها من خلال حلول خيالية مثل إنهاء الهجرة والعودة إلى القيم العائلية التقليدية ومحاربة الإسلام!

في الثمانينيات، كان مؤسس الجبهة الوطنية الفرنسية، جان ماري لوبان، قد فهم هذا الأمر تماماً عندما صاغ شعار حملته الانتخابية بشكل لافت للنظر، فكتب فيه: “مليون فرنسي عاطل عن العمل يساوي مليون مهاجر”، في صياغة وتركيب مثاليين في إشعال للمخاوف الاقتصادية والثقافية أو المتعلقة بالهوية، والتي تغذي أصوات اليمين المتطرف في كل مكان.

من هذا المنطلق، بعد السبب الرئيسي لنجاحات تلك الأحزاب هو قدرتها على تجميع كل المعاناة والمخاوف وانعدام الأمن والقلق لدى تلك الطبقات الشعبية الضعيفة والمكافحة والمهجورة.

لقد أدى تقديم كبش فداء كلاسيكي إلى تفاقم الألم والصعوبات والأسى الذي تشعر به تلك الطبقات نتيجة تجربتهم الحياتية وتوجيه ذلك إلى الغضب تجاه كيانات مثل الاتحاد الأوروبي والجماعات التي ألقوا عليها اللوم في مشاكلهم، مثل المهاجرين والأجانب والحكومات والعولمة وما أسموها “النخب الثقافية المتغطرسة”، فقد قدموا الأمل من خلال حلول مضللة مثل إنهاء الهجرة.

من الواضح أن الحركة اليمينية المتطرفة سوف تستمر في النمو حتى تتصارع القوى السياسية الأخرى مع الصعوبات الاجتماعية والاقتصادية المتصاعدة التي دفعت قطاعات واسعة من السكان إلى أحضان تلك الأحزاب وحلولها الزائفة على مدى عقود!

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة