بقلم ريحان الدين
ترجمة وتحرير مريم الحمد
يعتبر تقدم المنتخب المغربي في كأس العالم للسيدات إلى المراحل المتقدمة حدثاً بالغ الأهمية، إلا أن هوية خصمهم في مباراتهم الأخيرة فرنسا والتي انتهت بفوز فرنسا بأربعة أهداف دون مقابل، تضيف بالتأكيد طبقة مهمة من خلفية تاريخية خاصة، حيث تقدمت بطلات الأطلس إلى الصدارة في دوري المجموعات على حساب ألمانيا بعد فوزهن على كوريا الجنوبية وكولومبيا على التوالي.
يُعتبَر تقدم المغرب إلى الأدوار المتقدمة في كأس العالم للسيدات حدثاً بالغ الأهمية بالفعل، لكن المباراة بين منتخبي المغرب وفرنسا التي انتهت بفوز الأخيرة بأربعة أهداف دون مقابل، تضيف طبقة أخرى من الإثارة التاريخية، فالعلاقة بين المغرب وفرنسا طويلة ومعقدة وعكس ما تبدو للوهلة الأولى، فإنها لقرون شهدت هزائم لباريس قبل أن تستعمر الأخيرة المغرب.
أما مباراتهم مع فرنسا، فهي تحاكي مباراة المنتخب الرجالي مع فرنسا أيضاً في نصف نهائي مونديال قطر قبل أشهر، في ديسمبر 2022، حيث وصفت المباراة على سبيل الدعابة على وسائل التواصل الاجتماعي بأنها آخر مباراة في حقبة “ديربي الاستعمارية”، سكرتير الاستعمار الإنجليزي، وذلك بعد فوز هولندا على جنوب إفريقيا، وفوز انجلترا على نيجيريا بركلات الترجيح.
وبذلك تكون مباراة فرنسا والمغرب آخر مباريات البطولة بين المستعمر والمستعمرة التاريخية، فرغم المسافة التي تصل إلى 1800 كم بين البلدين، إلا أنهما يتشاركان تاريخاً يمتد على مدى ألف عام، مروراً بقراصنة المغرب الذين تاجروا بالعبيد الفرنسيين والغزو الأوروبي الوحشي للمنطقة العربية وعلاقة تجارية وثيقة اليوم، فما هي أهم ملامح ذلك التاريخ بين البلدين؟
الفتح الإسلامي وقراصنة البحر المغاربة
في العام 711 م، شن المسلمون غزواً نحو أوروبا عبر الشواطئ المغربية بقيادة طارق بن زياد، الأمازيغي الذي اعتنق الإسلام وحكم مدينة طنجة، وفي غضون سنوات، صارت معظم إسبانيا والبرتغال تحت الحكم الإسلامي.
كان الحكم آنذاك تابعاً للدولة الأموية، التي أمرت الأمازيغ والعرب في إسبانيا بالتوغل شمالاً من أجل السيطرة على سبتمانيا، والتي تعتبر لانغدوك روسيون جنوبي فرنسا اليوم، ثم داهموا شرقي فرنسا ووصلوا إلى ليون وأتون، لكن الفرنجة هزموهم في معركة تورز عام 732م، مما أدى إلى تراجع المسلمين وبحلول عام 759م، استعاد الفرنجة معظم فرنسا الحديثة.
عاد المسلمون إلى المنطقة في القرن العاشر، من أجل بناء قلعة في بروفانس، بالقرب من منطقة سان تروبيه، الأمر الذي شكل تهديداً للحدود الفرنسية بعد سيطرة المسلمين على شبه جزيرة أيبيريا بالكامل، ولعدة قرون بعد ذلك، حافظت فرنسا على علاقات تجارية مع المغرب، كدولة إسلامية مستقلة في شمال إفريقيا لم تخضع للحكم المباشر للإمبراطورية العثمانية.
تحولت المغرب إلى محمية فرنسية رسمياً عام 1912، مع تسليم بعض أجزاء البلاد إلى إسبانيا، وعلى عكس الجزائر التي اعتبرت جزءاً من فرنسا، لم تكن المغرب من الناحية الفنية مستعمرة بل كانت محمية منتدبة، حيث استمر سلطان البلاد كرئيس للدولة
المشكلة الأهم في العلاقة بين البلدين كانت وجود القراصنة المغاربة، الذين كان الكثير منهم من اللاجئين المسلمين الفارين من إسبانيا بعد سقوطها في يد الإسبان، فقد كانوا يعملون في شمال إفريقيا ويستولون على السفن الأوروبية انتقاماً لطرد المسلمين وتعذيبهم من إيبيريا، وكان تمركزهم في مناطق سلا والرباط، كما شنوا غارات على المدن الساحلية الأوروبية بما فيها فرنسا، لجلب العبيد وبيعهم في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
عام 1629، قام الأدميرال الفرنسي إسحاق دي رازيلي بقصف مدينة سلا، ودمر 3 سفن للقراصنة المغاربة، وأرجع عدداً من العبيد الفرنسيين، وبعد مرور عامين على تلك الحادثة، تم التوقيع على المعاهدة الفرنسية المغربية، والتي منحت الرعايا الفرنسيين حقوقاً تفضيلية في المنطقة المغاربية.
سيطرة فرنسية
استمرت التوترات بين القراصنة المغاربة وفرنسا حتى منتصف القرن 18، كما قصفت فرنسا سلا والرباط مرة أخرى عام 1765، حتى حاولت فرنسا غزو المغرب في حملة “العرائش” لاحقاً ذلك العام، ولكن فشلت المحاولة وأسفرت عن مقتل 300 فرنسي على الأقل.
عام 1844، اندلعت الحرب الفرنسية المغربية، وذلك بعد دعم المغرب للثورة الجزائرية ضد الغزو الفرنسي، فهاجمت فرنسا طنجة والصويرة، ووصلت لمنطقة إيسلي على الحدود الجزائرية، الأمر الذي أجبر المغاربة على ترسيم الحدود وإنهاء تحالفهم مع زعيم المقاومة الجزائرية الأمير عبد القادر الجزائري.
عام 1905، حدث ما عُرف لاحقاً بـ “الأزمة المغربية الأولى”، والتي كانت نقطة اشتعال وإحدى إرهاصات لحرب العالمية الأولى، وذلك عندما دخلت ألمانيا في نزاع مع فرنسا وبريطانيا حول السيطرة على المغرب، فبعد وصول القيصر الألماني فيلهلم الثاني إلى طنجة، أعلن دعمه لاستقلال المغرب، ثم تم حل الأزمة عام 1906 في معاهدة في منطقة الجزيرة الخضراء في إسبانيا، حيث تم منح فرنسا السيطرة في المغرب مع ضمانات تجارية لجميع الدول الأخرى المتنازعة.
بعد مرور عام على المعاهدة، تم استخدام وفاة الطبيب الفرنسي، إميل موشامب، في مراكش كذريعة لبدء غزو عسكري على المغرب، بالإضافة إلى الديون الضخمة للمغرب باعتبارها محركاً رئيسياً للاستعمار الفرنسي، وبذلك اندلعت أزمة مغربية ثانية عام 1911 بين القوى الأوروبية، خاصة بعد توغل فرنسا في المغرب مما اعتبر انتهاكاً لاتفاقية الجزيرة الخضراء الإسبانية، فردت ألمانيا بإرسال سفينتها الحربية إلى أغادير.
منذ الاستقلال، حافظت المغرب على علاقات ودية مع فرنسا، حيث تعتبر الأخيرة إلى جانب إسبانيا، أكبر شريك تجاري للمغرب، وتشكل حوالي 22% من صادراتها
تحولت المغرب إلى محمية فرنسية رسمياً عام 1912، مع تسليم بعض أجزاء البلاد إلى إسبانيا، وعلى عكس الجزائر التي اعتبرت جزءاً من فرنسا، لم تكن المغرب من الناحية الفنية مستعمرة بل كانت محمية منتدبة، حيث استمر سلطان البلاد كرئيس للدولة، لكن سرعان ما استولى المستعمرون الأوروبيون على ثلث الأراضي الزراعية المغربية، رغم أنهم لم يشكلوا إلى سُبع عدد السكان.
سيطر الفرنسيون أيضاً على حراسة حدود الدولة وفرض الضرائب في الموانئ الرئيسية بالإضافة إلى الموارد الطبيعية بما في ذلك تعدين الفوسفات في ولاية خريبكة المغربية، كما تم إرسال حوالي 40 ألف مغربي إلى الخطوط الأمامية خلال الحرب العالمية الأولى.
نضال من أجل التحرر
منذ بداية استعمارها، واجهت فرنسا مقاومة مغربية قوية، حتى قتل آلاف المغاربة في مسيرة نضالهم نحو التحرر والاستقلال، ففي عام 1912، شن الفرنسيون حملة عنيفة على الجنود المغاربة الذين تمردوا في فاس، مما أدى إلى مقتل 800 شخص، ثم قام رجال القبائل الأمازيغية بحصار المدينة، ولكن تمت هزيمتهم وقتل 600 شخص منهم.
في السنوات الأولى للانتداب، شنت فرنسا هجمات عديدة على المناطق التي رفضت الانصياع لأوامرها، لا سيما قبائل بنو زيان وقبائل الريف الأمازيغية، واستمرت الحرب مع قبائل بني زيان حتى عام 1921، تخللها معركة الهري التي حققت فيها القبائل انتصاراً كبيراً بقتل أكثر من 600 جندي فرنسي، لكن القبيلة أُجبرت في النهاية على الخضوع للحكم الفرنسي.
اندلعت حرب الريف عام 1921 بين المقاتلين الأمازيغ في منطقة الريف الجبلية والقوات الاستعمارية الإسبانية، وبعد أن سحق الريفيون الجيش الإسباني في معركة “أنوال” هزيمة ساحقة، انضمت فرنسا إلى الحرب عام 1925، وأنهت سيطرة الريفيين.
في ذلك الوقت، بدأ ظهور الحركة الوطنية المغاربية التي اعترضت في الثلاثينيات على مرسوم أصدره السلطان يقضي بإخضاع المجتمعات الأمازيغية للقانون العرفي وليس الإسلامي.
ومع اقتراب نهاية الحرب العالمية الثانية، تطورت قناعة المغاربة وإيمانهم بإمكانية الاستقلال، خاصة بعدما أعرب الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت عن دعمه لها خلال مؤتمر الدار البيضاء عام 1943، وعلى إثر ذلك تأسس حزب الاستقلال في نفس العام للعمل على التحرر والاستقلال من المستعمر الفرنسي.
هناك أكثر من 1.5 مليون شخص من أصل مغربي يعيشون في فرنسا، ويمثلون أكبر جالية مغربية في العالم، من بينهم 750 ألف مواطن مغربي
لاحقاً، أعلن السلطان محمد الخامس دعمه للاستقلال، حتى تعرض لتعطيل رحلة كان قد خطط لها إلى مدينة طنجة عام 1947، بقتل مئات المدنيين في الدار البيضاء في مذبحة وحشية على حي سكني، كما قُتل 100 مغربي على أيدي القوات الفرنسية في نفس المدينة خلال تظاهرات مناهضة للاستعمار في ديسمبر عام 1952.
تم نفي محمد الخامس إلى مدغشقر عام 1954، وتنصيب ابن عمه محمد بن عرفة، الأمر الذي أشعل فتيل الاحتجاجات التي قادها التيار القومي، ونجح في إعادة محمد الخامس من المنفى في نوفمبر عام 1955، وتم إعلان استقلال المغرب رسمياً.
أعداء الأمس شركاء الحاضر
بعد الاستقلال، بدأ الملك الحسن الثاني، ابن محمد الخامس، بإعادة البلد إلى المغاربة، فسلم الأصول المملوكة للأجانب، وخاصة لفرنسا، إلى مالكيها المغاربة، ولكن إلى أعضاء النخبة المسيطرة على الاقتصاد في البلاد.
منذ الاستقلال، حافظت المغرب على علاقات ودية مع فرنسا، حيث تعتبر الأخيرة إلى جانب إسبانيا، أكبر شريك تجاري للمغرب، وتشكل حوالي 22% من صادراتها، ويعد الفرنسيون أكبر مستثمر أجنبي مباشر مع دولة في شمال إفريقيا، فغالبية الشركات الفرنسية لديها شركات تابعة في المغرب، منها 33 من أصل 40 شركة مدرجة في مؤشر سوق الأسهم الفرنسية CAC 40.
هناك أيضاً تحالف في مجال التعليم بين الجانبين، فالمدارس التي يديرها فرنسيون منتشرة في المغرب، حيث يقبل المغاربة من الطبقة المتوسطة والعليا على تعليم أولادهم في المدارس الفرنسية، فحوالي 33% من المغاربة يتحدثون الفرنسية بطلاقة، ولا تزال لغة راسخة في مجالات الحياة بما في ذلك المعاملات الحكومية والخطاب الإعلامي، لكن في عام 2022، تم إطلاق حملة تدعو لاستبدال اللغة الإنجليزية مكان الفرنسية كلغة أجنبية رسمية في البلاد، من أجل تحفيز الشباب للإقبال عليها.
هناك أكثر من 1.5 مليون شخص من أصل مغربي يعيشون في فرنسا، ويمثلون أكبر جالية مغربية في العالم، من بينهم 750 ألف مواطن مغربي، كما يعد العديد من نجوم المنتخب المغربي الرجالي والنسائي من مواليد فرنسا، منهم المدرب وليد الركراكي والحارسة إيناس عرويسة والمدافعتان نسرين التشاد وصباح الصغير وغيرهم.
في العام الماضي، تدهورت العلاقات إلى حد ما بعد رفض فرنسا تأشيرات الدخول للمهاجرين المغاربة في قطاعات عدة، وتزامنت التوترات مع تحسن في العلاقات الفرنسية الجزائرية التي تتنازع معها المغرب منذ سنوات على سيادة الصحراء الغربية.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)