بقلم لبنى مصاروة
ترجمة وتحرير مريم الحمد
كنت أجلس في مقهى في يافا، إحدى أقدم المدن في العالم، والتي كانت ذات يوم مدينة فلسطينية مزدهرة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط تعج بالحياة الثقافية والصحف ودور النشر ودور السينما والمسارح.
أما اليوم، فقد أصبحت إحدى ضواحي تل أبيب، حيث يعيش اليهود الإسرائيليون في مجتمعات مسورة، فيما يُطرد الفلسطينيون بسبب الأسعار التي لا يستطيع تحملها سوى الأشكناز الأثرياء، ففي أي مكان آخر، يمكن أن يسمى هذا تحسيناً، ولكن في إسرائيل فهو ذو نكهة عرقية!
حيوات متوازية
كان المقهى الذي جلست فيه يعج بالزبائن، فما هو إلا مجرد يوم آخر في الحياة المزدحمة في إسرائيل العلمانية.
كان هناك امرأة بالقرب مني ترتشف قهوتها وهي تحمل بساط اليوغا، فيما كان زوجان قريبان يناقشان مسرحية شاهداها في اليوم السابق في المسرح، وكانا يخططان لعشاء عيد الفصح مع اقتراب العطلة.
يمكن أن يكون هذا مشهداً طبيعياً في أي عاصمة غربية، ولكن هنا في تل أبيب، كل هذا يحصل على بعد ساعة واحدة فقط بالسيارة من غزة، حيث الإبادة الجماعية أصبحت هي الأمر الروتيني.
كل صباح، منذ أكثر من 18 شهراً، كان أحمد يراسلني من خان يونس، فيكتب: “الليلة، قُتل 19 شخصاً في قصف الخيام والمنازل هنا وأجريت 3 مقابلات وجمعت صوراً ومواد فيديو، فهل أنتِ مهتمة؟” بنبرة مؤثرة حزينة.
يعرف أحمد، مثل الكثيرين في غزة، بأن العالم لم يعد مكترثاً بمجزرة تلك الليلة، فقد أصبح وجود أطفال مقطوعي الرأس وأسرٍ تُحرق أحياء في الخيام هو الوضع الطبيعي الجديد!
وبينما كنت أشاهد فيديو أحمد، وما فيه من أجساد صغيرة مغطاة بقماش أبيض ووجوه العديد من الأطفال مكشوفة، كان الزوجان الإسرائيليان القريبان يقرران ما إذا كانا سيستضيفان عشاء العطلة مع عائلتها أم عائلته!
في مقطع آخر على هاتفي، كان هناك فتاة صغيرة بين الناجين، فقد فقد ما لا يقل عن 39,384 طفلاً في غزة أحد والديهم أو كليهما منذ بداية الهجوم الإسرائيلي، فإذا بامرأة تتوجه للكاميرا: “ماذا فعلت بإسرائيل؟ هل من أحد يسمع؟”.
حيثما كنت أجلس، كنا محاطين بالمستشفيات، فلماذا لا يسارع الأطباء لإنقاذ أهل غزة؟ هم على بعد ساعة فقط!
وعلى الأرض، ينشغل الجيش الإسرائيلي بقتل المسعفين ومن ثم التستر على الحقيقة، فقد كتبت صحيفة هآرتس الإسرائيلية بأن “الممارسة الشائعة” أن يقوم الجيش بدفن ضحاياه، كما فعلوا عندما أطلقوا النار على قافلة من سيارات الإسعاف و أضواؤها تومض.
جاء في تقرير هآرتس: “أما بالنسبة للشهادات التي تفيد بأن الجنود قاموا بدفن الجثث والمركبات في الرمال، فإن الجيش يدعي أن هذه ممارسة شائعة تهدف إلى منع الكلاب الضالة والوحشية من إيذاء الجثث”، وهنا يطرح سؤال حول عدد الجثث الأخرى التي قتلها الجيش ودفنها؟! وكيف أصبح قتل الناس ثم دفنهم أمراً طبيعياً؟! وذلك مجرد سطر آخر في هذه الصحيفة الليبرالية!
سيل من الأخبار المرعبة
الأخبار من غزة لا تتوقف أبداً، ففي الساعة الرابعة من صباح ذلك اليوم، تلقيت رسالة من رويدة، وهي شابة فلسطينية كانت تدرّس العلوم في مدرسة ابتدائية، فكتبت: “الوضع مخيف للغاية، والقصف العنيف لا يتوقف، أنا لا أستطيع النوم ليلاً بسبب شدة القصف، فأنا أخشى أن يتوقف قلبي من شدة الخوف والهلع لأن منطقة الخطر التي يعملون عليها كمحور جديد ملاصقة لمنطقتي، وإذا حدث لي شيء فلا تنسوني وتحدثوا عني كثيراً، فأنا لست رقماً أنا قصة كبيرة جداً”.
يختار العالم تجاهل مثل هذه النداءات، وبدلاً من ذلك فقد قرر، مثل الإسرائيليين، مراقبة الوضع في صمت مع الاستمرار في الحياة اليومية كالمعتاد!
أما علي من شمال غزة، فيقول أن عائلته نامت جائعة، وأنه لم يكن هناك طعام ولا قمح ولا حطب لإشعال النار، فقال: “الأمر صعب مع الصغار، فمن الصعب رؤيتهم جائعين، وقد أمضيت اليوم كله أتجول للعثور على شيء لأشتريه، كيلو السكر بـ 50 شيكل، هذا إذا كان بإمكانك العثور عليه”.
وتساءل محمد عما إذا كان عدد الأطفال الذين قُتلوا حتى الآن لا يكفي لكي يوقف العالم القتل، فما الذي يجب أن يحدث أيضاً حتى يخرج العالم عن صمته وينهي هذا الرعب؟!
قبل أكثر من أسبوع، ارتقى وليد خالد عبد الله أحمد، البالغ من العمر 17 عاماً، في المعتقلات الإسرائيلية بسبب ما كان من علامات “المجاعة والجفاف الناجم عن الإسهال الناجم عن التهاب القولون والمضاعفات المعدية، وكلها تفاقمت بسبب سوء التغذية لفترات طويلة والحرمان من التدخل الطبي المنقذ للحياة”، وفقاً للحركة العالمية للدفاع عن الأطفال – فلسطين.
في حديث له مع موقع ميدل إيست آي، أكد والده بأن وليد كان يحلم بأن يصبح لاعب كرة قدم، كما كان يأمل في استكمال دراسته في الخارج، في اختصاص العلوم المالية والمصرفية، ثم العودة لخدمة وطنه، لكن الاحتلال الإسرائيلي دفن كل تلك الطموحات!
تواطؤ قانوني
قبل أسابيع، رفضت المحكمة العليا الإسرائيلية التماساً تقدمت به منظمات حقوق الإنسان تطالب فيه بإلزام الدولة بتوفير مساعدات إنسانية كافية ومتسقة لغزة، داعمة بذلك القرار الذي اتخذته إسرائيل في أوائل شهر مارس بمنع دخول المساعدات بشكل كامل واستئناف الحرب.
هذه هي القرارات التي يتخذها النظام القضائي الإسرائيلي كل يوم، وهذه هي المحكمة العليا التي نزل الليبراليون الإسرائيليون إلى الشوارع للدفاع عنها فهي نفس المحكمة التي رفضت التماساً للسماح بدخول المساعدات إلى غزة، وبالتالي إضفاء الشرعية على المجاعة الجماعية!
أعود لأجد رسالة من رجل من شمال غزة يقول فيها: “نحن ضعفاء جداً، لا نأكل وجهازنا المناعي ضعيف، وقد دفعت 10 دولارات مقابل بيضة واحدة من أجل ابنتي التي تبلغ من العمر 3 سنوات فهي تحتاج إلى الحليب والمواد الغذائية الأساسية”.
رغم كل ذلك، يختار العالم تجاهل مثل هذه النداءات، وبدلاً من ذلك فقد قرر، مثل الإسرائيليين، مراقبة الوضع في صمت مع الاستمرار في الحياة اليومية كالمعتاد!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)