في تحول مذهل للأحداث، شن المقاتلون الفلسطينيون نهاية الأسبوع الماضي هجوماً مدمراً ضد المحتل الإسرائيلي، مخترقين نحو 80 ثغرة في السياج المحيط بغزة ليستهدفوا أكثر من 20 مستوطنة وبلدة وقرية.
لقد ضربوا قواعد الجيش الإسرائيلي، وقتلوا المئات، وأحضروا عشرات الرهائن إلى غزة، في تطور ترك وسائل الإعلام الغربية الرئيسية ومن يطلقون على أنفسهم “خبراء الشرق الأوسط” في حالة من الحيرة والدهشة.
لسنوات عديدة، كرّس العديد من المحللين والسياسيين الغربيين حياتهم المهنية لـ “الصراع الفلسطيني الإسرائيلي” المعقد، مُصدرين رواية استشراقية تلو الأخرى، بينما فشلوا في وضع إطار دقيق لواقع الاستعمار الاستيطاني.
إلا انهم اليوم يجدون أنفسهم مذهولين في مواجهة آخر التطورات ويكافحون من أجل تمييز مسار الأحداث والنتائج المحتملة، حيث تؤكد حالة عدم اليقين المفاجئة هذه محدودية المنظور الغربي عندما يتعلق الأمر بفهم تطلعات شعب يتعرض للقمع المزمن.
يبدو أن استيعاب فكرة النضال من أجل الحرية والتحرر أمراً بعيد المنال حيث تبقى الفكرة بحد ذاتها خارج نطاق الفهم الغربي السائد، برغم كونها مسألة واضحة وبسيطة.
أظهرت هجمات المقاتلين الفلسطينيين خلال نهاية الأسبوع الماضي تقدماً ملحوظاً في براعتهم القتالية وقدراتهم الاستخباراتية وتنسيقهم الاستراتيجي، وقد توج كل هذا بقدرتهم على إحباط أحد أقوى جيوش المنطقة، والذي تدعمه الولايات المتحدة، ويُعد القوة العسكرية الأقوى في الشرق الأوسط.
لقد تم تحقيق كل ذلك برغم مرور عقود من الاحتلال الإسرائيلي والحصار المفروض على غزة منذ 16 عاماً، وهو ما يسلط الضوء على قوة المقاومة، وظهور الوجه الحقيقي للفاشية الغربية في الأيام القليلة الماضية.
تحطمت الواجهة
في لحظة واحدة، أدى الهجوم غير المسبوق الذي شنه المقاتلون الفلسطينيون ضد إسرائيل إلى تحطيم واجهة استغرقت سنوات لبناء الصورة الغربية الداعية لحقوق الإنسان والديمقراطية والأرضية الأخلاقية العالية في الشرق الأوسط.
وبين عشية وضحاها، تضافرت الحكومات الغربية لدعم العنف الجماعي ضد المدنيين الفلسطينيين، حتى أن البعض أيدها بحماس.
ولعقود من الزمن، تمسكت الحكومات الغربية بالصمت إزاء مشاهد جثث الأطفال الفلسطينيين الذين قُتلوا على أيدي الجيش الإسرائيلي، واليوم، يبدو أن هذه الحكومات قررت أن جميع الفلسطينيين وأطفالهم يستحقون الإبادة الجماعية لأنهم اختاروا المقاومة.
في قلب كل هذا يكمن سؤال جوهري: متى سيتوقف الغرب عن استخدام عنصريته كسلاح وإطلاق العنان له ضد العالم العربي؟
يسلط منظور فرانتز فانون بشأن تقويض الاستعمار الضوء على القضية المعقدة المتمثلة في ارتكاب بعض المقاتلين جرائم في سياق المقاومة ضد الاستعمار.
ولم يبرر فانون، وهو من أشد المؤيدين لحرب استقلال الجزائر عن فرنسا، مثل هذه التصرفات، بل وضعها في سياقها المبني على خلفية الاستعمار والعوامل النفسية واختلال توازن القوى المتأصل.
ويدرك الأوروبيون جيدًا مفهوم المقاومة، فقد احتفلوا بحركات المقاومة الخاصة بهم في الحرب العالمية الثانية وغيرها من الصراعات التاريخية، واحتفوا بالذين خاضوا مثل هذه المعارك وجرى تكريمهم كأبطال في كتب التاريخ الأوروبية.
وعليه، لا يوجد سبب يمنع السياسيين والصحفيين والمحللين الغربيين من فهم السعي الفلسطيني لنيل الحرية، فضلاً عن التعاطف معه.
تجريد “الآخر” من إنسانيته
ويكمن سؤال جوهري في قلب كل هذا: متى سيتوقف الغرب عن استخدام عنصريته كسلاح وإطلاق العنان لها ضد العالم العربي؟
تعود جذور القصف الوحشي والعشوائي المدعوم غربياً لغزة إلى السياق التاريخي للاستعمار الاستيطاني الغربي، فالفرنسيون لم يسلموا الجزائر 24 جمجمة لمقاتلي المقاومة الجزائرية كانت مخزنة في متحف باريس إلا في عام 2020.
وقبل أسبوع واحد فقط، أعادت الحكومة الهولندية تكريم تولا، بطل المقاومة في كوراكاو، بعد أكثر من قرنين من قيادته لثورة العبيد وإعدامه علناً.
وفي وقت سابق من هذا العام أيضاً، قدم ملك هولندا الاعتذار عن دور بلاده في تجارة الرقيق الاستغلالية الوحشية، وبطبيعة الحال، فهذا ليس أكثر من مجرد أمر هامشي، حيث يغيب التاريخ الاستعماري القاسي للبلاد عن الكتب المدرسية.
وخلال عام 2022، جدد ملك بلجيكا فيليب أسفه العميق حيال الاستغلال والعنصرية والعنف الذي ارتكبته بلاده أثناء استعمارها للكونغو، لكن موقفه لم يصل إلى حد تقديم الاعتذار.
فإبّان الحكم الاستعماري البلجيكي، تم “بتر أيدي الكونغوليين بشكل منهجي” لإخفاقهم في تلبية طلب بلجيكا من حصص المطاط التي أنيطت بهم مسؤولية استخراجها، ثم حفظت أيدي هؤلاء الأفارقة المسترقّين كي يتسنى عدها وتوثيقها.
وإلى العام 1990، ظلت بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة تتخذ دور أشد المدافعين عن نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وتمكنت من إحباط كل مقترحات المجتمع الدولي لإنهاء النظام المؤسسي للفصل العنصري.
هذه هي نفس الدول التي تدعم اليوم بالمطلق نظام الفصل العنصري الإسرائيلي دبلوماسياً وعسكرياً.
ووفقاً لما كتب إدوارد سعيد، فقد ابتكر الغرب مصطلح “الشرق” حيث يدور مفهوم الغرب نفسه حول فكرة “الآخر”.
ضمن هذا المفهوم، تم حشد أفكار الخوف والكراهية والاشمئزاز والكبرياء والغطرسة لربطها بالإسلام والعرب من جهة، في مقابل “نحن” الغربيين من جهة أخرى، وكل ذلك بهدف التغطية على العنصرية المتأصلة بعمق داخل النسيج الثقافي للمجتمعات الاستعمارية الاستيطانية، كما هي متمثلة بإسرائيل.
علاوة على ذلك، فإن دعم أوروبا المطلق لنظام الفصل العنصري الإسرائيلي هو بمثابة تذكير بأن القارة نفسها لم تعالج بشكل كامل بعد تحيزاتها العنصرية تجاه الشعوب المستعمرة.
تكشف ذلك بجلاء خلال الأيام القليلة الماضية عندما عبر الصحفيون والسياسيون والأكاديميون والمحللون الغربيون علنًا عن عقليتهم العنصرية والاستعمارية الاستيطانية من خلال تجريد الضحايا الفلسطينيين من إنسانيتهم بشكل منهجي وتمجيد العنف الاستعماري ضد المدنيين الأبرياء في غزة.
لقد تم رفع الأعلام الإسرائيلية في العواصم الغربية، وأرسلت الولايات المتحدة مجموعتها الهجومية من حاملة طائرات فورد إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، ووضعت المساعدات المالية والعسكرية موضع التنفيذ.
تعد إسرائيل آخر مستعمرة استيطانية في آسيا وإفريقيا، وبقاؤها يشكل أهمية بالغة للحملة الصليبية الأميركية والأوروبية ضد “جحافل” “البرابرة” غير الأوروبيين الذين يصرون على مقاومة الحكم الاستعماري.
ورغم إراقة إسرائيل للدماء الفلسطينية منذ تأسيسها، إلا أن الجماهير والحكومات الغربية واصلت تحصينها، وبالتالي فإن المذبحة الجماعية الجارية في غزة تعكس العنصرية الكامنة والسائدة في المجتمعات الغربية، إنها الكراهية التي يريد الفلسطينيون التحرر منها.
بقلم حنين حسن
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)