عنصرية المنظمات غير الحكومية الدولية وإسكاتها للمجتمع المدني الفلسطيني

بقلم فلسطين صالح

ترجمة وتحرير مريم الحمد

رغم مواجهة القطاع الإنساني في فلسطين مشاكل باستمرار، إلا أن الطريقة التي يعمل بها هذا القطاع منذ بدء الإبادة الجماعية في غزة أصبحت مقلقة أكثر من أي وقت مضى.

بعد التوقيع على اتفاقيات أوسلو عام 1993، وتحت ذريعة “بناء الدولة”، وصل المانحون الدوليون والمنظمات غير الحكومية الكبرى بأجندات ليبرالية معدة مسبقاً إلى فلسطين، حاملين معهم مصطلحات مثل “التمكين” و”التنمية” و”إقامة الدولة”.

أصبح وجود المنظمات الإنسانية في فلسطين يعزز نظام القمع الذي تدعي أنها تحاربه، وذلك من خلال تدخلها لتقديم الخدمات والمساعدات التي ينبغي أن تكون مسؤولية الاحتلال من الناحية القانونية

في ظاهر الأمر، بدا مجيئهم للمساعدة، ولكن في الواقع، فقد خدم وجودهم أغراضاً أخرى بعيدة كل البعد عن دعم التحرير الفلسطيني، حيث عملت هذه المنظمات، سواء عن قصد أم غير قصد، على عدم تسييس النضال الفلسطيني وتفتيت الحركات الشعبية، بل وفرضت المساعدات الدولية على مبدأ الأولوية لمصالح السياسة الخارجية على حساب احتياجات الشعب.

لقد حولت المنظمات غير الحكومية، من خلال تأطير القضية وتغليفها باعتبارها قضية “تنموية” أو “مساعدات إنسانية”، التركيز من معالجة العنف الممنهج للاحتلال الإسرائيلي إلى حل المشاكل التقنية، فتم تقليص النضال الفلسطيني من أجل الحرية إلى قضايا مثل “بناء القدرات”، لتكون مجردة تماماً من جوهرها السياسي. 

لقد أصبح هذا الواقع أكثر وضوحاً مع استمرار الإبادة الجماعية في غزة، حيث تسارع المنظمات الإنسانية للاستجابة للأزمة المباشرة، ولكنها تتجنب وتجنب إلحاح الحاجة لمعالجة أسباب الإبادة الجذرية في ذات الوقت، حيث ينصب تركيزهم فقط على توزيع المساعدات مع تجنب تسمية طبيعة الكارثة التي هي من صنع الإنسان أو تحميل إسرائيل المسؤولية عن جرائم الحرب التي ترتكبها!

“تمكين” الفلسطينيين

لقد أدى وصول هذه المنظمات إلى تشتيت المجتمع المدني الفلسطيني بطرق خدمت في نهاية المطاف أجنداتها الخاصة، فقبل تدخلهم، كانت قيادة حركة التحرير الفلسطيني تتم بقيادة مجموعات شعبية مثل العمال والمزارعين والطلاب والناشطين والمنظمات الشبابية والأحزاب السياسية، الذين اتحدوا في كفاحهم ضد الاستعمار الإسرائيلي. 

لاحقاً، تدخلت المنظمات غير الحكومية وقامت بتقسيم هذه المقاومة الجماعية وذلك بإدخال أطرٍ صديقة للمانحين فرضت تعريفاتها الخاصة لمفهوم “التمكين” للفلسطينيين، ولكن ما فشلوا في إدراكه، سواء عن قصد أم غير قصد، هو أن تلك المجموعات الشعبية لم تكن تدعو إلى تحسين الأجور أو حقوق الأراضي أو المساواة بين الجنسين، بل كانت تقاتل من أجل البقاء والتحرر من الاحتلال الإسرائيلي.

لم يكن مهماً أننا فلسطينيون نعيش تحت الاحتلال ونكتب من خلال التجربة، بل تم إسكات أصواتنا لصالح الروايات التي أعطت الأولوية للمصالح السياسية للمنظمة وعلاقاتها مع الجهات المانحة!

الأسوأ من كل ذلك، أنه وعلى مر السنين، فقد أصبح المجتمع المدني الفلسطيني يعتمد على التمويل الذي تجذبه هذه المنظمات غير الحكومية رغم مجيئه بشروط دوماً، فقام المانحون الدوليون المدفوعون بمصالح السياسة الخارجية، بوضع شروط ومعايير تمويل تعمل على تثبيط التنظيم السياسي وتعاقب أولئك من يتجرأ على مواجهة حقائق الاستعمار الإسرائيلي.

إضافة إلى ذلك، وبعد أن كانت المنظمات غير الحكومية الفلسطينية جريئة ومتشددة، فقد اضطرت إلى ممارسة الرقابة الذاتية من أجل الحفاظ على تمويلها، فلم تؤدِ هذه التبعية إلى تحييد النشاط الفلسطيني فحسب، بل سمحت للاحتلال بالازدهار.

مع الوقت، أصبح وجود المنظمات الإنسانية في فلسطين يعزز نظام القمع الذي تدعي أنها تحاربه، وذلك من خلال تدخلها لتقديم الخدمات والمساعدات التي ينبغي أن تكون مسؤولية الاحتلال من الناحية القانونية، فهم لم يقوموا ببناء جدران السجن بشكل فعلي، لكنهم بالتأكيد ساعدوا في الحفاظ عليه.

في الوقت الذي نواجه فيه اليوم واقعاً مروعاً للإبادة الجماعية في غزة، فقد أصبحت إخفاقات القطاع الإنساني أكثر وضوحاً بشكل مؤلم بالنسبة لي، فقد عشت جزءاً كبيراً منها.

في بداية الإبادة الجماعية في غزة، كنت أعمل في قسم المناصرة والاتصالات في إحدى المنظمات غير الحكومية الدولية البارزة، ما شهدته كان أكثر من مجرد تواطؤ، فقد كان محواً للأصوات الفلسطينية من خلال أكاذيب وألاعيب تجاوزت أي شيء كنت أتخيله.

استرضاء الصهاينة

سأخبركم عن حادثة واحدة تبرز ذلك بوضوح، حيث اختارت المنظمة التي كنت معها الدخول في شراكة مع مجموعة إسرائيلية، وهو القرار الذي نسقه المكتب الإقليمي بهدوء وتم حجبه عن الموظفين المحليين حتى آخر لحظة ممكنة.

عندما اكتشفنا ذلك، شعرنا بالغضب و أوضحنا أن مثل هذه الشراكة لا تنتهك تفويض المنظمة فحسب، بل تحمل آثاراً سياسية عميقة خاصة في هذه اللحظة الحرجة، ولكن تم رفض مخاوفنا تماماً من قبل الإدارة الإقليمية ذات الأغلبية البيضاء، فاتهمونا بالتحيز وشككوا في التزامنا بحقوق الإنسان ومهمة المنظمة.

ورغم اعتراضنا، فقد مضوا قدماً بالأمر معطيين الأولوية لموافقة المانحين واسترضاء القادة داخل المنظمة المعروفين بآرائهم الصهيونية المتشددة.

لم يتوقف التلاعب عند هذا الحد، فكل ما كنا نكتبه من التغريدات إلى التقارير، كان يجب أن يمر عبر “عملية تسجيل” مرهقة أشبه بالرقابة، حتى أنهم قاموا بتعيين موظف أوروبي أبيض كانت وظيفته الوحيدة هي تحرير والموافقة على أي شيء يخرج من قسمنا، فقام هذا الشخص بمنع البيانات التي تدين إسرائيل لارتكابها جرائم حرب، وأصر على إدخال معادلات كاذبة في تقاريرنا وكان بقرر أي الحقائق مقبولة بما يكفي للنشر!

لم يكن مهماً أننا فلسطينيون نعيش تحت الاحتلال ونكتب من خلال التجربة، بل تم إسكات أصواتنا لصالح الروايات التي أعطت الأولوية للمصالح السياسية للمنظمة وعلاقاتها مع الجهات المانحة!

وتمتد العنصرية داخل القطاع الإنساني إلى ما هو أبعد من السياسات، فهي متغلغلة في اختيارات التوظيف وحتى ثقافة مكان العمل، ففي مقابلة أجريتها مؤخراً مع منظمة غير حكومية دولية بارزة في فلسطين، قوبلت بسؤال كان مهيناً يقول: “كيف يمكنك فصل كونك فلسطينياً عن العمل؟”.

كان هذا السؤال الواحد مؤشراً على تجاهل سنوات خبرتي ومهاراتي ومهنيتي واختزال الأمر بدلاً من ذلك في هويتي الفلسطينية والتي تعد مشكلة في نظرهم، فكوني فلسطينية يجعلني غير مهنية ومتحيزة وغير ملائمة لإطار عملهم على ما يبدو!

نفاق لا يطاق

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل زادت الأسئلة سوءاً، فسُئلت عن كيفية  “إدارة إحباطي” كفلسطينية تعمل ضمن ما يسمى بالخطوط الحمراء، مشيرين إلى لجنة شاركت فيها وكان فيها انتقاد للمنظمات الإنسانية لتواطؤها في الإبادة الجماعية في غزة، فطلبوا مني تبرير تصريحاتي.

كان جوابي بأن هذه الانتقادات كانت مبنية على حقائق ولا ينبغي إخفاؤها، الأمر الذي جعلهم يشعرون بعدم الارتياح، فغادرت المقابلة وأنا أشعر بالغضب والهجوم والتمييز الشديد ضدي.

الأمر لا يتعلق فقط بمقابلة واحدة سيئة أو بمنظمة واحدة سيئة، بل يتعلق الأمر بقطاع كامل يقوم بإسكات الأصوات الفلسطينية بشكل ممنهج، حيث يُنظر إلينا كفلسطينيين على أننا عاطفيون جداً ومتحيزون جداً وغير مهنيين أبداً في صناعة تدعي أنها تدافع عن العدالة وحقوق الإنسان!

إنه قطاع كامل يتوقع منا أن نجرد أنفسنا من هويتنا وأن نصبح أبواقاً جوفاء لتصريحات تضعف الحقيقة وتخدم الوضع الراهن، وهو نفاق لا يطاق، فبينما يُذبح شعبنا في غزة، نتعرض للعنصرية من قبل نفس المنظمات التي تدعي أنها تدافع عن حقوق الإنسان، فتلك المؤسسات  التي تطالبنا بالحياد ليست محايدة على الإطلاق.

لقد تركت العمل في هذا القطاع، وأنا أعتبر نفسي محظوظة لأنني طورت مهارات أخرى يمكنني استخدامها لكسب العيش دون التنازل عن قيمي ومبادئي، وأنا أحث كل العاملين في المنظمات غير الحكومية الفلسطينية على أن يفعلوا الشيء نفسه لأن النظام لن يتغير أبداً. 

الفلسطينيون يستحقون الأفضل، وسوف نظل نناضل من أجل حريتنا ومن أجل خدمة العدالة ولكن وفقاً لشروطنا وليس شروطهم هم!

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة