عهد ترامب الثاني يمثل انفصالاً ثورياً عن حقبة ما بعد الثمانينات… فكيف ذلك؟

بقلم ماركوس كارنيلوس

ترجمة وتحرير مريم الحمد

في يوم ما، سيقف المؤرخون عند عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض باعتبارها لحظة فاصلة في تاريخ الديمقراطية الأمريكية والغربية بشكل عام.

يساوي البعض بين آخر انتخابات أمريكية والانتخابات التي أوصلت مارغريت تاتشر ورونالد ريغان إلى السلطة عام 1979 في المملكة المتحدة وعام 1980 في الولايات المتحدة، حيث قاد كل منهما الديمقراطية الغربية والرأسمالية إلى عصر جديد سادت فيه أيديولوجيات المحافظين الجدد والليبرالية الجديدة، من انفتاح الأسواق والتداول غير المقيد لرأس المال المالي، مما أدى في النهاية إلى انتصارهم في الحرب الباردة التي أدخلت العالم في حقبة أمريكية أحادية القطب ثم العولمة. 

أما فوز ترامب فهو يمكن أن يكون شيئاً مختلفاً تماماً، فهو تحول، كما وصف عالم الاجتماع الألماني الراحل أولريش بيك، أكثر تطرفاً بكثير، حيث تنهار فيه كل الثوابت القديمة للمجتمع الحديث لتولد شيئاً جديداً  بشكل جذري.

تعد إعادة انتخاب ترامب تتويجاً واضحاً للقلق الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، والذي بدأ يتشكل خلال رئاستي أوباما وبعد 11 سبتمبر والأزمة المالية عام 2008،  رغم أن جذورها تمتد إلى عدم المساواة التي شهدتها مرحلة ريغان

قام الباحث الجيوسياسي الأمريكي جورج فريدمان بتقسيم تاريخ بلاده إلى 3 مراحل في تطور مؤسسة الدولة، مدة كل منها ثمانين عاماً، الأولى منذ ولادتها عام 1787 إلى نهاية حربها الأهلية عام 1865، والثانية من الحرب الأهلية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، والثالثة من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى عام 2025، عندما يؤدي ترامب اليمين الدستورية للمرة الثانية.

قام فريدمان أيضاً بتحديد مراحل اجتماعية واقتصادية مدة كل منها 50 عاماً، أهمها ما يسمى دورة روزفلت من عام 1932 إلى عام 1980، والتي تميزت بالصفقة الجديدة التي أقرها فرانكلين ديلانو روزفلت، والتي دمجت بين الفِكر الاقتصادي الأمريكي ونظريات جون ماينارد كينز، حتى نهاية السبعينيات، ودورة ريجان، التي احتكرت النظرية النقدية لميلتون فريدمان فكرياً.

وفقاً لجورج فريدمان، فإننا لا نزال في دورة ريجان الاجتماعية والاقتصادية، والتي من المتوقع أن تنتهي عام 2030.

هل هو تحول حقيقي؟

بطبيعة الحال، لا تنتهي هذه المراحل فجأة، ولكنها تتلاشى ببطء تتداخل خلاله عناصر النظام القديم مع عناصر النظام الجديد، مما يسبب حالة من التوتر والارتباك، سواء بين القادة الذين يبدون أقل قدرة على إدارة التحديات الناشئة، أو بسبب الاستقطاب والآراء العامة التي يتم التلاعب بها بسهولة.

وفقاً لفريدمان، فإن العقد المقبل سوف يكون المرة الأولى في التاريخ الأمريكي التي تتزامن فيها نهاية المرحلة المؤسسية مع المرحلة الاجتماعية الاقتصادية.

قد تكون إدارة ترامب الثانية بالنسبة لأمريكا أشبه بالثورة البلشفية التي حصلت في روسيا في العقد الثاني من القرن 20 ، أو الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، فهل يقود ترامب الولايات المتحدة إلى تحول حقيقي؟ من الصعب التكهن بذلك.

يؤكد فريدمان أن الرئاسات الأمريكية لا تشكل معايير يمكن الاعتماد عليها للكشف عن التغيير الحقيقي والتنبؤ به، حيث يقول: “يتم انتخاب الرؤساء من خلال التوافق مع الضغوط الموجودة بالفعل، وهم يحكمون استجابة لهذه الضغوط”، فهل يتغير هذا الحال مع قدوم ترامب؟ 

قد لا يكون عامل التغيير كبيراً كما يتوقعه كثيرون، ولكن ليس هناك من شك في أن ترامب عازم على إحداث اضطرابات سياسية واقتصادية واجتماعية لم يسبق لها مثيل منذ نصف قرن على الأقل في الولايات المتحدة، فهو لا يخفي نيته في إسقاط “الدولة العميقة” في شكلها الأوسع.

يتضمن ذلك إزالة “البيروقراطيين المارقين” وتطهير جميع العناصر الفاسدة في جهاز الأمن القومي والاستخبارات الأمريكي، وجعل “كل مكتب مفتش عام مستقلاً عن الإدارات التي يشرف عليها حتى لا تصبح حماة للدولة العميقة”، ومطالبة “الكونغرس بإنشاء نظام تدقيق مستقل للمراقبة المستمرة على وكالات الاستخبارات”، والتجسس على المواطنين أو إدارة حملات تضليل ضد الشعب الأمريكي”.

يؤكد ترامب أيضاً أنه سوف يمنع البيروقراطيين الفيدراليين من “شغل وظائف في الشركات التي يتعاملون معها أو يديرونها”، كما يريد “الدفع بتعديل دستوري لمعارضة تحديد فترات ولاية أعضاء الكونغرس”.

في جعبة ترامب الكثير أيضاً فيما يتعلق بشركات الأدوية الكبرى والمجمع الصناعي العسكري ولوبي “الحرب إلى الأبد” المتخفي في “الدولة العميقة” والمتمثل في المؤسسة العسكرية الصناعية التابعة للكونغرس والاستخبارات والإعلام والأكاديمية والفكرية، والذي يسخر كراهية روسيا وكراهية الإسلام وكراهية الصين كأدوات مفيدة.

لقد اختار ترامب مجموعة من المحاربين المتعصبين في السياسة الخارجية والأمن، وهم يشتركون في هدف واحد وهو إشعال النار في الكوكب خاصة في الشرق الأوسط وشرق آسيا، فهل يتمكن ترامب من التوفيق بين مثل هذه التناقضات الهائلة؟!

يبدو ترامب مصراً على هذه الأهداف، وسوف يقوم بها بمساعدة مجموعة غير متجانسة بين المؤيدين المتعصبين والأعداء السابقين، ومن الأمثلة على ذلك إعطاء إيلون ماسك، أغنى رجل على وجه الأرض، دوراً رئيسياً في حكومته الجديدة!

في الماضي، كان المليارديرات يختبئون خلف رؤساء الولايات المتحدة لتعزيز مصالحهم الأساسية وأجنداتهم، ولكنهم مع ظهور إيلون ماسك بدأوا يأخذون أدواراً أكثر وضوحاً، ولذلك تعد إعادة انتخاب ترامب تتويجاً واضحاً للقلق الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، والذي بدأ يتشكل خلال رئاستي أوباما وبعد 11 سبتمبر والأزمة المالية عام 2008،  رغم أن جذورها تمتد إلى عدم المساواة التي شهدتها مرحلة ريغان.

ربما كان انتخاب ترامب عام 2016 بمثابة بروفة، ولكن الانتخابات اليوم هي أكثر أهمية، ويمكن أنها ليست فوزاً لترامب بقدر ما هي خسارة لخصومه الديمقراطيين

مقامرة كبيرة

يمكن استخلاص بعض الاستنتاجات الأولية من خلال تقييم الاختلافات الطفيفة في أنماط التصويت في الولايات الثلاث المتأرجحة والتي كانت السبب في فوز ترامب، وهي ولايات ويسكونسن ميشيغان وبنسلفانيا.

ربما يكون أحد أهم الاستنتاجات هو أن سماسرة السلطة الديمقراطيين، الذين اختاروا كامالا هاريس كمرشحة، فضلوا خسارة الانتخابات على عرقلة المذبحة المستمرة التي كانت إسرائيل ولا زالت ترتكبها في غزة.

ولا شك أنهم أصيبوا بالصدمة والانهيار، كما الجمهوريين، بعد أن صدقت المحكمة الجنائية الدولية على مذكرات الاعتقال ضد رئيس وزراء إسرائيل الحالي ووزير دفاعها السابق، وهذا دليل آخر على مدى اختلاف المؤسسة السياسية الأمريكية أنثروبولوجياً وأخلاقياً عن بقية العالم ومدى انفصالها عن الواقع.

الحقيقة أن شعار “إسرائيل أولاً” قد انتصر على شعار “أمريكا أولاً”، وهذا ينطبق على توجهات الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء، وتستعد “الدولة العميقة” اليوم لمكافحة التمرد ضد ترامب وزرع حقول الألغام التي سوف يتعين على الرئيس المقبل التعامل معها بعد تنصيبه في 20 يناير عام 2025.

من جهة أخرى، يعد قرار إدارة بايدن بالسماح لأوكرانيا باستخدام صواريخ “أتاكمز” ضد الأراضي الروسية جزءاً من محاولة الدولة العميقة، فالانطباع بأن نية ترامب لإنهاء الحرب في أوروبا دون تأخير يجب منعها بأي ثمن حتى وإن كان ذلك يعني نشوب حرب عالمية ثالثة!

ومع ذلك، فهي محاولة متعمدة ويائسة ومتهورة من قبل إدارة بايدن لمنع الاضطرابات التي يعتزم ترامب إحداثها في أمريكا من خلال إشعال المزيد من النيران في بقية العالم في الشهرين الأخيرين له في السلطة.

إنها مقامرة كبيرة، تبدأ بأوكرانيا ويتبعها الشرق الأوسط، فبنيامين نتنياهو يريد الصراع مع إيران، كما أن الصين تتطلع للمنطقة، خاصة بعد “الإنذار” القاطع الذي وجهه الرئيس شي جين بينج إلى جو بايدن خلال اجتماعهما الأخير على هامش اجتماع آبيك الأخير في بيرو. 

لخص المحلل اللامع، أليستر كروك، هذه الاستراتيجية الخارجية المتصاعدة من قبل إدارة بايدن بأنها “سلاح محشو جاهز للإطلاق في الحرب الداخلية الأمريكية، ويهدف إلى دفع ترامب إلى حرب لا يريدها”، ولذلك يتعين على ترامب أن يلعب أوراقه بعناية.

ومن اختيارات ترامب، يبدو أنه  حريص على جمع أشخاص لخوض حربين داخليتين رئيسيتين، هما تفكيك “الدولة العميقة” وإنهاء الإنفاق الحكومي الخارج عن السيطرة وديونها البالغة 35 تريليون دولار، وهو ما قد يضع الاقتصاد العالمي برمته في تهديد وجودي.

لقد اختار ترامب مجموعة من المحاربين المتعصبين في السياسة الخارجية والأمن، وهم يشتركون في هدف واحد وهو إشعال النار في الكوكب خاصة في الشرق الأوسط وشرق آسيا، فهل يتمكن ترامب من التوفيق بين مثل هذه التناقضات الهائلة؟!

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة