ترجمة وتحرير موقع بالعربية
عند الساعة التاسعة صباحًا بدأ القدّاس، ليدخل عشرون شخصًا، ثم نحو ثلاثين، تباعًا إلى المصلّى الصغير هربًا من رياح الشتاء العاتية في الخارج، بينما كانت أصوات ترانيم الميلاد العربية المنبعثة من مكبّرات الصوت عند المدخل تختلط بأصوات الرياح.
غالبيّة المصلّين الذين تجمعوا صباح الأحد كانوا من كبار السن، وهم تقريبًا آخر من تبقّى من سكان بلدة دردغيا، القرية الصغيرة في جنوب لبنان التي يضمّ حيّها المركزي غالبية مسيحية، وكان بينهم أيضًا بعض الأطفال وشبّان وشابات يرتدون زيّ منظمة “كاريتاس” الكاثوليكية الخيرية.
صلّى الحضور طوال القداس، الذي شكّل آخر تجمع ديني لهم قبل حلول عيد الميلاد يوم الخميس، غير أن هذا المكان ليس الكنيسة الدائمة للقرية، بل مصلى مؤقت في منزل كاهن البلدة، لجأ إليه الأهالي بعد أن دُمّرت كنيستهم الأصلية، فالكنيسة الحقيقية لم تعد سوى ركام.
كنيسة القديس جاورجيوس للروم الملكيين الكاثوليك، التي لا تبعد سوى خطوات عن مكان الصلاة، إلا أنها دُمّرت خلال قصف نفذته دولة الاحتلال العام الماضي، وتحولت قاعة الصلاة الرئيسية إلى كومة من الحجارة والخرسانة، وأسفر الهجوم عن مقتل شخصين على الأقل.
وبدأت دولة الاحتلال قصف لبنان في أكتوبر/تشرين الأول 2023، بعد أن فتح حزب الله “جبهة إسناد” على الحدود اللبنانية دعماً للفلسطينيين الذين يتعرضون لحرب إبادة في قطاع غزة.
وتصاعدت وتيرة العنف في سبتمبر/أيلول 2024، حين فجّرت دولة الاحتلال آلاف أجهزة الاتصال المفخخة، وأطلقت حملة قصف مكثفة دمّرت مساحات واسعة من الجنوب وضاحية بيروت الجنوبية.
وخلال أيام قليلة، اضطر نحو مليون لبناني إلى النزوح من منازلهم، فيما أسفرت الهجمات عن استشهاد أكثر من أربعة آلاف شخص.
ورغم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، ما زالت دولة الاحتلال تنفذ غارات شبه يومية على جنوب لبنان، ما أدى إلى استشهاد أكثر من 330 شخصًا منذ الموعد المفترض لوقف القتال.
أصوات الرعد والطائرات
في دردغيا، لا تزال ملصقات “الشهداء” معلّقة في الشوارع تحمل أسماءهم، ومن بينهم متطوع مسيحي شاب في الدفاع المدني، إضافة إلى مقاتلين من حزب الله من أحياء مجاورة.
ورغم الغموض والمخاوف، شوهد صباح الأحد عدد من عمّال البناء، يرتدون خوذ حمراء زاهية، وهم يحاولون إزالة الأنقاض من كنيسة البلدة المدمّرة، في محاولة بطيئة لمنع ما تبقى من المبنى من الانهيار الكامل، حيث يسند هيكل من السقالات المعدنية الخرسانة المتصدعة، فيما تمايلت في الخارج عصيّ حلوى بلاستيكية ودمى بابا نويل مبتسمة رغم الرياح القوية.
والتبس على بعض المصلين صوت الرعد فظنوه هدير طائرات حربية تابعة لجيش الاحتلال، الصوت الذي اعتادوا عليه خلال العامين الماضيين.
وبدوره، يقود جورج إيليا، الذي يصف نفسه بأنه “ناشط اجتماعي” وهو نجل مختار البلدة، مبادرات إحياء عيد الميلاد في دردغيا هذا العام ، حيث ارتدى زي بابا نويل، وجال على مدارس القرى المسلمة المجاورة على دراجة نارية زُيّنت لتبدو كعربة سانتا كلوز.
ويشكّل الشيعة غالبية سكان جنوب لبنان، إلى جانب حضور مسيحي وسني ودرزي، وتحرص مختلف الطوائف، بدرجات متفاوتة، على تزيين بلداتها بمناسبة الميلاد، رغم القلق المستمر من الحرب.
وتقع جنوب دردغيا قرى حدودية أخرى ذات غالبية مسيحية، تعرضت لأضرار أشد جرّاء غارات دولة الاحتلال، أما القرى التي لم تتعرض لدمار واسع، فلا تزال محاطة بأصوات القصف شبه اليومي، وأعمدة الدخان التي تتصاعد في الأفق.
ويقول رامي، وهو طالب جامعي يبلغ 26 عامًا من بلدة دير ميماس الحدودية، يستخدم اسماً مستعاراً لأسباب أمنية: “لقد تعودنا على ذلك” .
دير ميماس، قرية زراعية مسيحية صغيرة تضم ديرًا يعود إلى العصور الوسطى، تطل مباشرة على بلدة تابعة لدولة الاحتلال عبر الحدود، وقد تضرر جزء من مقبرتها العام الماضي، ودخلت قوات الاحتلال إليها بدبابة وجرافة عسكرية.
نزح رامي شمالًا خلال ذروة القصف، بينما بقي آخرون في البلدة، “ليس فقط كبار السن، بل أيضًا من يملكون المواشي، وبعض الأشخاص المتمسكين بالبقاء، ومن بينهم امرأة حامل وضعت طفلها لاحقًا”.
عاد رامي ووالداه إلى منزلهم قبل عام، بعد وقف إطلاق النار المفترض، ويقول إن عيد الميلاد “يبدو وكأنه يعود” هذا العام مع بعض الزينة والزوار، لكن كثيرًا من أقاربه يتجنبون المجيء إلى البلدة خلال العطلة.
تصعيد يلوح في الأفق
لا توجد أرقام دقيقة حول عدد المسيحيين الذين نزحوا من جنوب لبنان خلال القصف المكثف العام الماضي أو في الأشهر الأخيرة، إذ تتوافر فقط تقديرات جزئية من بلدة إلى أخرى.
ويقول بيار عطالله، رئيس بلدية راشيا الفخار الحدودية المنتخب في مايو/أيار، إن البلدة كانت تضم بين 115 و120 عائلة قبل الحرب، مضيفًا: “بعد الحرب خسرت نحو 20 عائلة”، حيث يتنوع سكان البلدة كمزيج من الأرثوذكس والموارنة.
وبحسب بيانات الانتخابات البلدية، فإن نحو 34 ألف ناخب مسيحي يقيمون في مناطق الجنوب الحدودية، غير أن تتبع النزوح الداخلي في لبنان يبقى صعبًا، إذ تُسجّل أماكن القيد الرسمية للمواطنين بحسب قراهم الأصلية لا أماكن إقامتهم الفعلية.
وعطالله، الذي يتنقل بين بلدته والضاحية في بيروت، يأمل في التقاعد والاستقرار في راشيا الفخار قريبًا، ويخطط هذا العام لقضاء عيد الميلاد فيها مع عائلته، حيث نُصبت شجرة ميلاد عامة ونُظمت فعاليات للأطفال.
ومع ذلك، لا يزال شبح التصعيد العسكري مخيّمًا على العيد، في ظل اقتراب المهلة النهائية لنزع سلاح حزب الله جنوب نهر الليطاني، وهو أحد بنود اتفاق وقف إطلاق النار، وقال رئيس الوزراء اللبناني نواف سلام، السبت، إن لبنان يقترب من إنجاز هذه المهمة.
وفي دردغيا، تطايرت زينة الميلاد والكرات اللامعة تحت وطأة الرياح العاتية، وعاد نحو ثلاثين مسنًا، هم معظم سكان البلدة اليوم، إلى منازلهم بعد القداس، وسط برد قارس، ومن بينهم تكلا نحاس، التي اجتمعت مع عائلتها في منزل بلا تدفئة داخلية.
ويقر الأهالي بأن أعدادهم تتناقص عامًا بعد عام، بفعل الحروب المتكررة والأزمة الاقتصادية الخانقة.
أما جورج إيليا، “بابا نويل” القرية، فواصل جولاته ببدلته الحمراء والبيضاء رغم البرد، ورغم إصابات خطيرة لحقت به قبل أسابيع في حادث سير كاد يفقده ساقيه، صباح الاثنين، وتنقل بين المدارس موزعًا الهدايا على الأطفال، كثيرون منهم من عائلات نزحت جراء قصف العام الماضي.
ومثل إيليا، ابتسم الأطفال لعيد الميلاد، بملابس سانتا كلوز المتشابهة، في جنوبٍ ما زال يعيش بين ركام الكنائس وهدير الطائرات.
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)







