بقلم فيصل كوتي
ترجمة وتحرير مريم الحمد
كان منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، قد وصف غزة بأنها “مقبرة لعشرات الآلاف من الأشخاص ومقبرة أيضاً لأهم مبادئ القانون الإنساني”، بل إن الواقع أسوأ من ذلك، وأنا أرى أن غزة باتت مقبرة الليبرالية نفسها!
قبل 3 عقود، كانت الليبرالية هي المحرك الأول في مشروع الديمقراطية ذات المقاسات الغربية، فكانت الديمقراطيات الجديدة تنشأ في أوروبا في وقت كان فيه الاتحاد السوفيتي ينهار، وكانت روسيا تمر بمرحلة انتقالية حسمها سقوط جدار برلين، كما كان نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا يتهاوى في وقت كانت بدأت فيه ملامح تغير في الصين.
في تلك الظروف، بدت الديمقراطية الليبرالية وكأنها لا تقهر، سواء من الناحية العملية أو النظرية، فلم تكن هناك منافسة حقيقية وكأن الليبرالية كان حكماً بمكانة المنتصر.
لو سألت أي طالب فنون على دراية جيدة عن الليبرالية، فسوف يخبرك أنها أيديولوجية سياسية وفلسفية تتمحور حول مبادئ الحرية الفردية والمساواة والحكومة، وأنها تؤكد على حماية الحقوق والحريات الفردية، بما في ذلك حرية التعبير والدين والتجمع، فضلاً عن سيادة القانون والحكم الديمقراطي.
وفي الوقت الذي تدعو فيه الليبرالية إلى اقتصاد قائم على السوق مع حقوق الملكية الخاصة والتجارة الحرة والحد الأدنى من التنظيم الحكومي، فإنها تعزز أيضاً برامج الرعاية الاجتماعية لضمان تكافؤ الفرص لجميع المواطنين.
إضافة إلى كل ذلك، تدعم الليبرالية فكرة التعددية والتسامح والتنوع، بهدف إنشاء مجتمعات يمكن للأفراد فيها تحقيق مصالحهم الخاصة والعيش وفقاً لمعتقداتهم الخاصة دون تدخل غير مبرر من الدولة، فجوهر الليبرالية يكمن في التزامها بسيادة القانون وحقوق الإنسان.
من الناحية النظرية، يبدو الأمر مذهلاً، فما هي المشكلة إذن مع الليبرالية الغربية؟!
خلل في جوهر الليبرالية
المشكلة تكمن في أولئك الذين راقبوا “الإبادة الجماعية” على مدى 6 أشهر متواصلة، بل كانوا يجلسون في الصف الأمامي مما يعني أن هناك تآكلاً منهجياً قد حصل للقيم والمثل الليبرالية، فقد كشفت غزة عن النفاق الغربي والمعايير المزدوجة، كما هزت الليبرالية حتى النخاع.
يتعرض اليوم الالتزام المحلي والدولي بسيادة القانون وحقوق الإنسان والنظام القائم على القواعد للتقويض الحقيقي من قبل أقوى جماعات الضغط في العالم، فقد اختطفت جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل معظم الديمقراطيات الليبرالية الغربية.
رغم هذا التقدم الذي يدعيه الليبراليون، إلا أننا نشهد اليوم جرائم حرب وإبادة جماعية يتم بثها مباشرة على أجهزتنا، فإذا كانت الليبرالية غير قادرة على تقديم شكل أخلاقي ومعنوي للحكم، فما الفائدة إذن؟ ما فائدة التصريحات والمعاهدات الفخمة؟!
لقد أصبح العالم كله الآن مطلعاً على أعمال الساسة الغربيين، والتي تم توثيقها سابقاً في كتاب عضو الكونغرس، بول فيندلي، عام 1985 تحت عنوان “يجرؤون على التحدث علناً”، ثم في كتاب بعنوان “اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية” من تأليف جون ميرشايمر وستيفن والت عام 2007.
من العجب كيف أن كل النخب والقادة الليبراليين الذين انضموا إلى الملايين لدعم حرية التعبير وأعلنوا “أنا شارلي” تضامناً مع الصحيفة الفرنسية الساخرة، شارلي إيبدو، بعد أن قتل الإرهابيون 12 شخصاً في مكاتبها في باريس عام 2015، هم من يدعون الآن إلى قمع حرية التعبير!
قام مجلس النواب الأمريكي، وبأغلبية 377 صوتاً مقابل 44 صوتاً، بتمرير قرار مفاده أن “شعار (من النهر إلى البحر، فلسطين ستتحرر) هو معاد للسامية ويجب إدانة استخدامه”، ولكن لو كان العكس واستبدلت كلمة فلسطين بكلمة إسرائيل لما حصلت كل تلك الإدانة!
وفي موقف آخر، قامت جامعة جنوب كاليفورنيا، في خطوة غير مسبوقة، بمنع الطالبة، أسنا تبسم، طالبة دراسات الإبادة الجماعية، من إلقاء خطابها بسبب تهديدات مزعومة من الجماعات المؤيدة لإسرائيل حول وجود “مخاوف أمنية”.
على صعيد آخر، تم اعتقال المئات من الطلاب وأعضاء هيئة التدريس في كل من جامعات كولومبيا وييل ونيويورك، كما تم اعتقال 200 متظاهر آخر معظمهم من اليهود أمام مقر إقامة زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، في بروكلين، حيث تجمع المتظاهرون للاحتفال بعيد الفصح اليهودي.
من دافعوا عن حرية التعبير طوال حياتهم أصبحوا الآن يحظرون الكوفية، لأنها تجعل بعض الناس “غير مرتاحين”، فقد حظر المجلس التشريعي في أونتاريو غطاء الرأس، مما اضطر إلى عقد اجتماع مقرر بين المشرعين والمتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين خارج المباني التشريعية لأن النشطاء ارتدوا كوفياتهم.
أما العلامات العسكرية الإسرائيلية والأعلام الإسرائيلية والرموز السياسية الأخرى فلا مشكلة في ارتدائها!
أهداف غير ليبرالية
بطبيعة الحال، الوضع في الدول الأوروبية غير بعيد عن ذلك التناقض أيضاً، فقد تبين أن الليبرالية هشة ومرنة في يد من يدعونها لا لشيء إلا لتحقيق أهدافهم غير الليبرالية، أي تعزيز التطهير العرقي من قبل دولة إسرائيل العرقية القومية والعنصرية.
الحقيقة أن كيفية استجابة النخب الليبرالية لما يجري في غزة من أجل إنقاذ ما تبقى من مصداقيتها سوف يكتب في التاريخ ويحدد إرث الليبرالية، ولذلك يجب على الليبراليين أن يدافعوا عن مبادئهم أو ينكسوا رؤوسهم إلى الأبد خجلاً مما سيمليه التاريخ عنهم!
تجدر الإشارة إلى أنه بعد عمليات القتل الجماعي التي شهدتها الحرب العالمية الثانية والمحرقة النازية، قام النظام العالمي الليبرالي الجديد آنذاك بفرض معاهدات حقوق الإنسان وسن القوانين الإنسانية لضمان عدم تكرار مثل هذه المذابح والانتهاكات “مرة أخرى”.
بعد الحرب العالمية الثانية، شهدنا أيضاً إنشاء الأمم المتحدة وصياغة الوثيقة الدولية لحقوق الإنسان التي من شأنها أن تلزم “كل دولة بالاعتراف بالحق المتساوي لكل فرد على أراضيها في الحياة والحرية والكرامة والملكية والحرية الدينية واستخدام لغته الخاصة”.
تألف مشروع القانون آنذاك من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
شهدنا أيضاً صدور اتفاقيات جنيف لعام 1949، والتي سعت إلى تحسين الحماية القانونية لغير المقاتلين والعاملين في المجال الطبي والمرافق والمعدات الطبية والمدنيين الجرحى والمرضى.
رغم هذا التقدم الذي يدعيه الليبراليون، إلا أننا نشهد اليوم جرائم حرب وإبادة جماعية يتم بثها مباشرة على أجهزتنا، فإذا كانت الليبرالية غير قادرة على تقديم شكل أخلاقي ومعنوي للحكم، فما الفائدة إذن؟ ما فائدة التصريحات والمعاهدات الفخمة؟!
ادعاء التفوق الأخلاقي!
لطالما ادعى المثقفون الليبراليون أن لديهم حق التفوق الأخلاقي وبالتالي تزعم الدفاع عن العدالة سواء كان ذلك لصالح أو ضد المصالح الغربية، ولكن لماذا يختلف الوضع عند إسرائيل؟ عندما يصبح الولاء الأعمى هو الاعتبار الوحيد أو الأساسي، فما الذي يجعل الليبرالية مختلفة عن القبلية؟!
عندما يصبح من الممكن التضحية بالأمن والسلامة العالميين على مبدأ الصداقة والتشابه، فلماذا إذن يتمسك الغرب بادعاء الوصاية السياسية والعسكرية على نظام دولي قائم على القواعد؟!
هنا يحصل الخلط بين القوة والهيمنة باعتبار الأخيرة حقاً أيضاً، ولكن دعونا لا ننسى أن من ومن ذات المنطق يصبح من حق الأقليات المنشقة والمضطهدين والمستعمرين اعتبار المقاومة خيارهم الوحيد وبأي وسيلة ضرورية، وأن الثورة هي دائماً هي الاحتمال الأعلى.
لقد أثبت التاريخ أن المجتمعات التي تجمع بين الاستجابة لإرادة شعوبها وتوفير الحماية القوية للأفراد والأقليات، هي أكثر المجتمعات التي تحقق توازناً مرناً ومستداماً بين هذه القوى المتنافسة.
لا يسعنا إلا أن نأمل وندعو أن تستيقظ النخب المثقفة من الليبراليين من سباتها ليذكروا السياسيين الليبراليين بأن وجود المشروع الديمقراطي الليبرالي بات مهدداً بالانهيار مع أن الأوان قد فات في الغالب!
الحقيقة أن كيفية استجابة النخب الليبرالية لما يجري في غزة من أجل إنقاذ ما تبقى من مصداقيتها سوف يكتب في التاريخ ويحدد إرث الليبرالية، ولذلك يجب على الليبراليين أن يدافعوا عن مبادئهم أو ينكسوا رؤوسهم إلى الأبد خجلاً مما سيمليه التاريخ عنهم!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)