بقلم أحمد أبو رتيمة
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
في غزة، يُقاس الوقت بالدم، فكل ساعة إضافية من الحرب تزيد من احتمال أن يصبح أحد سكان القطاع ضحية أو يفقد أحباءه، صحيح أن القتل والخسارة مأساويان دائماً، ولكن الساعات الأخيرة من الحرب كانت أكثر مأساوية.
فمنذ لحظة الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار في الدوحة، وفي الساعات التي سبقت دخوله حيز التنفيذ المرتقب، أفادت مصادر طبية محلية باستشهاد أكثر من 120 فلسطينياً في غارات للاحتلال على غزة.
كان هؤلاء الضحايا قد نجوا من الإبادة وآلاف الأطنان من المتفجرات التي ألقتها دولة الاحتلال فوق رؤوسهم على مدار 15 شهراً، لقد نجوا من الجوع، ومن الحزن على فقدان أحبائهم، ومن صعوبات النزوح والبرد، لقد تحملوا كل هذه الأهوال وتغلبوا عليها، ولم يكن قد تبقى سوى ساعات قليلة حتى موعد الخلاص.
في تلك الساعات الأخيرة، كانوا ينتظرون بفارغ الصبر أخبار المفاوضات في الدوحة، وداخل الخيام تحدثوا عن تجهيز أمتعتهم القليلة لرحلة العودة إلى منازلهم، حيث كانوا يتوقعون نهاية نزوحهم القسري بعد 15 شهراً من الحرب.
وبعد شهور من الحزن الشديد، ارتسم على وجوههم شيء من الارتياح، وعاد الأمل إلى قلوبهم، لقد ظنوا أنهم على وشك بدء حياة جديدة، وترك أيام طويلة من الخوف والحزن وراء ظهورهم، لقد بدا الأمر وكأن روحاً جديدة بدأت تظهر بين أهل غزة، ولكن آلة الإبادة الإسرائيلية أزعجتها الفرحة، فهي تسعى إلى إبقاء الحزن يخيم على الشعب الفلسطيني إلى الأبد.
وبعد ساعات قليلة من سريان وقف إطلاق النار، انقضت دولة الاحتلال على المزيد من الضحايا، فأخمدت أنفاسهم وفاقمت من آلام أحبائهم وأحزانهم وحطمت أحلامهم.
إرادة البقاء
ليس من قبيل المبالغة الأدبية أن نصف دولة الاحتلال بأنها عدوة الفرح والحياة ذاتها، فالفرح يقوي إرادة البقاء، ودولة الاحتلال لا تريد للفلسطينيين البقاء.
وفي تعليقه على الغارات الجوية في اليوم الأخير قبل وقف إطلاق النار، كان الصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي محقاً عندما قال لشبكة سي إن إن: “التعطش للدماء هو الذي دفع إلى قتل 24 امرأة و19 طفلاً في اليوم الأخير من الحرب”.
إن أحلام الفلسطينيين في غزة بسيطة للغاية: إنهاء الحرب والعودة إلى أيام هادئة خالية من الفقدان، ومن الظواهر المتكررة في الأشهر الأخيرة، وخاصة في الليل، الانفجار العفوي للهتافات من مخيمات النازحين: “هدنة، هدنة!”، وقد أصبح هذا أكثر تواترا في الليالي الأخيرة قبل توقيع اتفاق وقف إطلاق النار.
إن أولئك الذين كانوا يحتفلون بهذا الحدث المتخيل لم يحاولوا خداع أحد، بل كانت محاولة للتنفيس عما في صدورهم، ومسعى لاغتنام لحظة وجيزة من الفرح وتجسيد شعور بالسعادة، حتى لو كانت عابرة، والهروب مؤقتا من الحزن والمأساة الساحقة.
وأخيراً، وبعد أكثر من 15 شهرا من الترقب، أصبح الحلم حقيقة واقعة، ومع انتشار أخبار الاتفاق، لم يكن الناس يفكرون إلا في شيء واحد، فكل ما نريده الآن هو أن يتوقف عداد الشهداء عن الدوران، وعندما يحدث هذا، فإن قوة دافعة داخلنا سوف تشتعل من جديد
وبينما كنت أسير في الظلام بين الخيام، سمعت طفلاً صغيراً يسأل والده: “بابا، متى سنعود إلى مدينتنا غزة؟ فأجابه الأب: إن شاء الله، قريباً”، وفي وقت لاحق، سمعت رجلاً يقول لصديقه: “بمجرد أن يُفتح الطريق إلى غزة، سأقوم بتفكيك خيمتي وأذهب إلى هناك سيراً على الأقدام”.
وفي النهاية، صادفت مجموعة من الشبان متجمعين حول هاتف لأحدهم، في انتظار الأخبار على الراديو، وكان نفس السؤال يتردد من كل من يمر عنهم: “هل وقعوا على الاتفاق؟ متى ستبدأ الهدنة؟”.
وعندما وصلت الأخبار من الدوحة بتوقيع الاتفاق، صفق الناس وهتفوا وهللوا، هذه المرة، لم تكن شائعة، كانت الأخبار حقيقية، وللمرة الأولى منذ بدء الحرب، ذهب الناس إلى النوم وهم يشعرون بالارتياح، وشعروا بأنهم سوف يستيقظون قريبًا من كابوس طويل.
لكن سلامهم لم يدم طوال الليل، إذ استيقظ الفلسطينيون على صوت انفجار هائل حطم هدوءه، كانت طائرة حربية للاحتلال قد قصفت إحدى الخيام، فقتلت أسرة بأكملها ولربما عدة أسر كان أفرادها بالكاد قد ذهبوا إلى فراشهم محملين بالشعور بفرحة الخلاص، لكن دولة الاحتلال قررت إطفاء سعادتهم إلى الأبد.
الفرح كمقاومة
لماذا يفرح الفلسطينيون في غزة بعد دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ؟ إن مخزون المأساة والمعاناة عميق، لم يسلم أي منزل من نصيبه من حزن القلب خلال الحرب الإبادة الجماعية هذه، سواء من خلال قتل أحباء ساكنيه أو تدمير منازلهم أو فقدان ممتلكاتهم، أو معاناتهم لأشهر من الجوع والخوف.
هذه الخسائر لا يمكن قياسها، لكننا في غزة متعطشون للفرح، الذي يمكّننا من إصلاح حياتنا المكسورة والبدء من جديد، ولهذا السبب ناضل الشعب الفلسطيني للتغلب على آلامه العميقة، وخلق لحظات من الفرح، على الرغم من كل الصعوبات، لقد بات الفرح عملاً من أعمال المقاومة.
عندما دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، عدنا إلى منازلنا المدمرة، بحثنا بين الأنقاض على أمل أن تكون بعض شظايا ذكرياتنا قد نجت من آلة التدمير الصهيونية، سينقل الناس خيامهم ويقيمونها على أنقاض منازلهم، سنزور قبور أحبائنا.
لست متأكدًا مما إذا كنت سأجد قبر ابني الصغير عبد الله، الذي قتلته قوات الاحتلال في بداية الحرب ودُفن في مقبرة في رفح التي أجبرنا على مغادرتها قبل ثمانية أشهر، ويُقال إن الدبابات والجرافات الإسرائيلية سوت المقبرة بالأرض بعد ذلك، مما أدى إلى مسح القبور.
سأذهب إلى هناك بنفسي للتأكد مما إذا كان قبره لا يزال سليماً، فإن كان كذلك سأجلس بصمت بجانبه وأتحدث إليه، سأعتذر عن عدم قدرتي على حمايته من هذا الوحش، لقد كان عبد الله يعتقد أن الأب هو مصدر الأمان والقوة، شخص يمكنه حمايته من جميع مخاطر الحياة.
آمل أن أتمكن من البكاء، لقد كبت دموعي منذ بداية الحرب، لأننا لم نحظ بفرصة للحزن، وسأتجول في الشوارع المدمرة: هنا كانت مدرستي، والزقاق حيث اعتدت اللعب، والمسجد حيث كنت أصلي، لقد تم محو كل هذه الذكريات، رفح لم تعد موجودة.
ومع ذلك سنعود، سيعود أهل رفح، ويقيمون الخيام، ويبدأون معركة الحياة مرة أخرى، لن يكون هذا سهلاً، فلا منازل ولا بنية تحتية ولا كهرباء، ولكن إرادتنا قوية في البقاء.
لقد تغلبنا على أصعب مرحلة من الحرب، فقبل بضعة أشهر فقط، شعرنا أن لا أمل لنا في البقاء، وكل ما نريده الآن هو أن يتوقف ارتفاع عدد الشهداء، وعندما يحدث هذا، ستشتعل قوة دافعة داخلنا من جديد، مما يدفعنا إلى خوض معركة إعادة البناء والنهوض من بين الأنقاض.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)