بقلم أحمد أبو ارتيمة
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
يبدو أننا في غزة قد تغيرنا إلى الأبد، فهل يمكن أن يكون شيء ما في بنية أدمغتنا قد تغير خلال عامين من العيش الذي يتجاوز حدود التحمل البشري؟
كلما سألني صديق من خارج غزة عن أحوالنا، أجيب: وضعنا يفوق الوصف، وقد شاركتُ مؤخرًا مع أصدقائي في الخارج تسجيلًا صوتيًا مدته دقيقة واحدة لطائرة بدون طيار للاحتلال تحلق بلا توقف فوق رؤوسنا.
قلتُ لهم أن يتخيلوا أن هذا الضجيج المزعج لم يهدأ ولو للحظة واحدة خلال الساعات العشر الماضية، والآن تخيلوا العيش تحت هذا الضغط النفسي الساحق، دون توقف تقريبًا، لما يقرب من عامين.
أي نفسية يمكن أن تنبثق من هذا الإبادة؟ هل سيتمكن الناجي من التعافي؟
إن الجراح التي تُلحق بأرواحنا لا تُوثقها نشرات الأخبار، ولا تُقاس بالإحصائيات، بل هي خسائر فادحة، راسخة في أعماق إنسانيتنا.
صادفتُ صديقًا في الشارع، كان أستاذًا جامعيًا قبل حرب الإبادة الجماعية هذه، وحين التقيته كان وجهه شاحبًا، وملابسه تبدو وكأنها لم تُغيّر منذ شهور، كان تعبيره يحمل ثقل أعباء حياة كاملة.
بادرته بالتحية: “كيف حالك؟” كان سؤالًا تافهًا أجوفًا لمجرد بدء محادثة، فأجاب: “لقد أُهينت كرامتنا، نحن نعيش في زمن يزدهر فيه اللصوص والناهبون، بينما يموت الشرفاء جوعًا ويأسًا”.
سحق من بقي
صوّر صديقي الواقع بدقة في تلك الجملة الواحدة، حيث يُعاد تشكيل المجتمع هنا وفقًا لسياسة مدروسة من قِبل سلطات الاحتلال.
فمنذ بداية هذه الإبادة الجماعية، استهدف جيش الاحتلال آلاف الأساتذة والأطباء والصحفيين والشخصيات العامة في جميع القطاعات، متبعًا استراتيجية مدروسة لسلب المجتمع قيادته الفكرية والاجتماعية.
وفي الوقت نفسه، دبر الاحتلال خطة أكثر خبثًا لسحق من تبقى، فشجع على نهب شاحنات الطعام القليلة المسموح لها بالدخول تحت ضغط دولي، ومنع عمليات التسليم المنتظمة للمستودعات ومراكز التوزيع، ما أعطى اللصوص الضوء الأخضر لمهاجمة الشاحنات وسرقة المؤن وإعادة بيعها بأسعار باهظة للمحتاجين.
لقد أنتجت هذه السياسة طبقة اجتماعية جديدة من اللصوص، أصابها الثراء من الحرب والسرقة، وهذه هي النتيجة المرجوة تحديدًا، حيث أن إحدى آليات الإبادة هي تشجيع تشكيل عصابات إجرامية، منفصلة عن قيم المجتمع أو غايته الجماعية، للهيمنة على النظام الجديد.
ومن غير المرجح أن تنهب الشخصيات المرموقة في المجتمع كأساتذة الجامعات والمعلمون والأطباء والمصلحون الشاحنات أو تسعى وراء المساعدات الغذائية الأمريكية المغمسة بالدم، ولذلك فهم يواجهون المجاعة ما لم يتمكنوا من جمع القليل من الفتات للبقاء على قيد الحياة.
وهناك قسوة خاصة في هذا الإذلال، فأولئك الذين عاشوا يومًا ما باحترام اجتماعي وتقدير مهني، يُجبرون الآن على النزول إلى أدنى مستويات هرم ماسلو، يكدحون لتأمين طبق من طعام رديء الجودة لأنفسهم ولأطفالهم.
إنهم يجدون أنفسهم في مجتمع ينزلق نحو الوحشية، حيث تُعرّف العلاقات الإنسانية بشكل متزايد بصراع وحشي من أجل البقاء.
لقد تغيّر أطفال غزة، كنتُ أسير في الشارع مؤخرًا عندما رأيتُ مجموعةً من الفتيات يطاردن شاحنة، وقد صاحت إحداهن: “أسرعوا، لنُرشقها بالحجارة وحذّرت أخرى: هناك رجال مسلحون يركبون فوقها وردّت ثالثة: لا بأس، لسنا خائفين منهم!”.
هذا التشويه للطفولة ليس من صنيع الطبيعة، بل هو نتيجة سياسة متعمدة يدعمها الاحتلال
فعندما كان الغذاء يدخل بكميات ضئيلة ولكن كافية، ويُحفظ ويُسلّم إلى الوكالات الدولية لتوزيعه بشكل منظم، لم تكن هذه المشاهد موجودة قط.
لكن دولة الاحتلال اتخذت قرارًا بمهاجمة تلك المؤسسات نفسها التي تُنظّم توزيع المساعدات، بهدفٍ صريحٍ هو إغراق غزة في الفوضى وتمزيق أسس الاستقرار الاجتماعي وتدمير إنسانية الناس ودفعهم إلى الوحشية في محاولةٍ لتجريدهم من الشرعية الأخلاقية.
يبدو أن الجهات السياسية الفاعلة غير راغبة في اتخاذ الخطوات الحاسمة اللازمة لوقف الانهيار الشامل في غزة.
لقد همس الشيطان للاحتلال والحكومات الحليفة لها بفكرة إسقاط المساعدات جوًا، وكان ذلك مخطط مثالي، حيث قدم مشهدًا رائعًا أمام الكاميرات، في حين لم يكن له تأثير حقيقي يُذكر في تلبية الحد الأدنى من احتياجات الناس.
أحلام بسيطة لم تتحقق
في كل يوم، تُفرغ بضع طائرات حمولتها في مكان ما في غزة، يشاهد الأطفال، فيصفقون ويهتفون، ومع ذلك، ربما تُعادل حمولة طائرة واحدة نصف شاحنة.
والحد الأدنى اليومي لاحتياجات غزة هو حوالي 500 شاحنة، فإذا كانت هناك حاجة لحوالي 1000 عملية إنزال جوي يوميًا، فما فائدة 10 أو 20 منها؟
لا فائدة تُرجى من هذه العملية سوى أنها مجرد مسرحية إعلامية، لا يُمكن تفسير تصفيق الأطفال وحماسهم إلا بحداثة التجربة، فلأول مرة، تُحلق الطائرات فوق رؤوسهم دون أن تُلقي قنابل أو صواريخ، وهذه بحد ذاتها ظاهرة جديدة على سكان غزة.
قبل هذه الحرب، كانت طائرات الموت الإسرائيلية فقط تحتكر السماء، ولذلك يصفق الأطفال لرؤية الطائرات التي لا تقتلهم.
وبهذا المعنى، قد يُنظر إلى الإنزال الجوي على أنه نوع من التحرر النفسي العابر، لا كنوع من الراحة الجسدية بل طريقة بسيطة لتخفيف الضغط الذي لا يُطاق.
من يستطيع أن يقيس حجم الدمار الذي ألحقته هذه الحرب بأرواح أطفال غزة؟
لقد سألني ابن أخي مؤيد ذو التسع سنوات: “متى تنتهي الحرب؟” قلت له: “لا أعرف، لكن لماذا تسأل؟” أجاب: “لأننا متعبون، كلما قالوا إن وقف إطلاق النار قريب، لا يأتي أبدًا”.
سألته ماذا سيفعل إذا انتهت الحرب، فقال إنه يريد العودة إلى رفح، قلت له: “حتى لو كانت هناك هدنة، فقد لا ينسحب الجيش من رفح، إنها مدينة حدودية”.
ثم سألني: “لماذا لا تعود إلى مدينة حمد، حيث كنت تسكن قبل الحرب؟” قلت له: “ماذا سأفعل هناك؟ منزلي مدمر”.
أشرقت عيناه وهو يجيب: “لماذا لا نعيد بناءه؟” قلت له: “لا يوجد إسمنت”، أصرّ، بحكمة الطفولة البسيطة: “لست بحاجة إلى إسمنت، يمكنك إعادة بنائه بالأنقاض”، فقلتُ في نفسي: لو أن العالم يفكر ببراءة الأطفال!
بعد ذلك بقليل، سمعتني شقيقته رؤى، ذات العشر سنوات، أقرأ الخبر الذي يقول أنه يُفترض أن تسمح سلطات الاحتلال بإدخال بعض البيض إلى غزة، ففرحت فرحًا غامرًا، والتفتت إلى والدتها قائلة: “عندما يصل البيض، أريدكِ أن تطبخيه بكل الطرق مقليًا، مسلوقًا، مع البطاطس، مع الطماطم”.
سألتها والدتها: “كل ذلك في يوم واحد؟” أجابت رؤى: “نعم، لأني أفتقدهم كثيرًا”.
ومثل جميع أطفال غزة، وآبائهم وأمهاتهم، لم تأكل رؤى بيضًا، ولم تشرب حليبًا، ولم تتذوق أي نوع من اللحوم لأكثر من خمسة أشهر، وقد مضت أسابيع منذ ذلك قرأت أمامها ذاك الخبر وربما أشهر أخرى لكن حلمها البسيط والبريء لم يتحقق.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)