بقلم لبنى مصاروة
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
ما إن ظهرت عاصفة “بيرون” على خرائط التنبؤات الجوية حتى انهالت على سكان دولة الاحتلال تعليمات السلامة، عليكم إحكام إغلاق النوافذ، إبعاد السيارات عن الأشجار، الاحتفاظ بأرقام الطوارئ في متناول اليد.
فعلى مدى أكثر من أسبوع، انشغلت وسائل إعلام دولة الاحتلال بتوقع كميات الأمطار التي قد تهطل على تل أبيب، وبمدى قدرة البنية التحتية على استيعابها.
أرسلت البلديات رسائل نصية خاصة للسكان تتضمن إرشادات السلامة، وأغلقت المتاجر أبوابها، وتسابق الناس إلى المتاجر الكبرى لتخزين احتياجاتهم، فهكذا تستعد المجتمعات الوظيفية لمواجهة الطقس السيئ.
وبالفعل، جاءت العاصفة تحدياً، لكنه تحدٍ بقي قابلةاً للإدارة لمن يمتلكون بيوتاً آمنة، وشبكات صرف فعّالة، وخدمات دولة قائمة، وتحت السماء ذاتها، في قطاع غزة المحاصر، كان التنبؤ الجوي بمثابة حكم بالإعدام.
أخذت عاصفة “بايرون” تضرب غزة ابتداء من يوم الأربعاء، مصحوبة بأمطار غزيرة وفيضانات استمرت حتى يوم الخميس، ومن المتوقع أن تتواصل طوال الأسبوع.
ووجد مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين شردتهم حرب الإبادة المتواصلة التي يشنها جيش الاحتلال أنفسهم محاصرين داخل خيام لا توفر أي حماية من قسوة الطبيعة، بعدما غمرت المياه كثيراً منها جراء القصف المكثف الذي دمّر شبكات الصرف الصحي وتصريف المياه.
وبعد شهرين فقط مما يسمى “وقف إطلاق النار”، تواجه هذه الكتلة البشرية الهشة أقسى أيام الشتاء، وسط خطر متسارع لانتشار الأمراض، وفي ظل إنعدام أي مكان جاف يلجؤون إليه.
وما إن بدأت الأمطار بالهطول حتى انتشرت مقاطع مصورة تظهر الخيام وهي تغرق، وأقمشتها تتمزق، والعائلات تخوض في مياه وصلت إلى الركب، في محاولات يائسة لإنقاذ ما تبقى من متاعها القليل.
وفوق ذلك كله، لا تزال دولة الاحتلال تعرقل دخول المساعدات، فأكثر من 6,500 شاحنة ما زالت عالقة عند المعابر، محمّلة بمستلزمات شتوية أساسية، من خيام وبطانيات وملابس دافئة ومواد نظافة.
وفي الوقت الذي تنتظر فيه هذه القوافل السماح لها بالدخول، يمشي الأطفال حفاة ويرتدون ملابس صيفية في برد قارس.
أجل، هناك نحو مليوني فلسطيني يعيشون اليوم داخل خيام هشة أو هياكل بدائية يمكن أن تنهار مع أول هطول غزير للأمطار، بعد سنوات من القصف المتواصل والتدمير شبه الكامل للمساكن والبنى الصحية وشبكات الصرف.
ومرة أخرى، ومع بداية الأمطار، عادت المشاهد ذاتها، صور خيام غارقة، قماش ممزق، وأسر تخوض المياه بحثاً عن ملاذ مؤقت.
وقد وجد عشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين سُلبت بيوتهم بفعل الحرب والحصار أنفسهم هذه المرة غارقين تحت العاصفة.
وتلقت فرق الدفاع المدني نداءات استغاثة من مختلف أنحاء القطاع، بعدما امتلأت الخيام بالمياه، ولم يبق أمام الناس سوى خيار واحد هو الفرار إلى بقعة أقل انغماراً بالمياه، هذا إن وُجدت بالطبع.
منسيون في العراء
لم تعبأ العاصفة بوقف إطلاق نار، ولا بمفاوضات، ولا بتعهدات إنسانية، لكنها كشفت بوضوح فاضح عدم المساواة الصارخة بين من يحظون بالحماية ومن يُتركون لمصيرهم، فيما لا يزال قادة العالم والمجتمع الدولي يديرون ظهورهم لغزة، ويواصلون التخلي عن أهلها.
وبالنسبة للفلسطينيين مثل عمرو أكرم (19 عاماً)، لم تكن العاصفة مجرد معاناة جديدة، بل تذكيراً قاسياً بأن العالم نسيهم.
لقد هُجرت عائلة عمرو أكرم من بلدة خزاعة في خان يونس في وقت سابق من هذا العام، بعد أن ذاقت ويلات الدمار والنزوح والجوع.
وعندما نزح أبناء عائلة عمرو عقب قصف منزلهم، لم يحملوا معهم ملابس شتوية، كما يقول، ومع غياب أي مأوى حقيقي، انهارت خيمتهم الهشة مع وصول “بايرون”، حيث يقول عمرو بصوت مرتجف: “غرقت خيمتنا وتمزقت بفعل الرياح، ندعو الله أن تتوقف الأمطار”.
بطانية واحدة يتقاسمها الأشقاء بلا مقاعد أو كراسي وبلا فرشات، بلا دفء، هذا ليس بقاءً على قيد الحياة، بل هو تخل كامل.
وفي أرجاء غزة، يعيش مئات الآلاف أوضاعاً مشابهة، إن لم تكن أسوأ، فمع انعدام شبكات الصرف الصحي الفاعلة، تحمل مياه الفيضانات الفضلات البشرية إلى الأماكن ذاتها التي يُجبر الناس على تسميتها بيوتاً.
ويحذر مسؤولون في مجالات حقوق الإنسان من أن هذا الواقع ينذر بتفشي الأوبئة، وقد يؤدي إلى وفيات جراء انخفاض حرارة الجسم أو الأمراض المنقولة بالمياه.
قبل أيام مثلاً، توفي معين حمو، وهو شاب فلسطيني، بعدما سقط أثناء محاولته سد نوافذ منزله المحطم بالبلاستيك والنايلون لحماية أسرته من البرد، لم يرد اسمه في نشرات الأخبار، ولم يلتفت إليه أحد.
سخرية من الألم
وسط هذا الدمار، لم يتردد بعض المعلقين في إعلام دولة الاحتلال في الاحتفال بتداعيات العاصفة على غزة.
فقد قال أحد المشاركين في برنامج على “القناة 14” إنه لا يمانع تدمير خيام غزة أو تشريد الفلسطينيين مرة أخرى، واصفاً العاصفة بأنها “عملية تنظيف” وليست كارثة إنسانية.
وأضاف: “لا أعتقد أن خيمة واحدة ستبقى قائمة صباح الجمعة، ولا مشكلة لديّ إن لم يبقَ الناس هناك أيضاً”، ثم تابع: “ما يحدث الآن هو تنظيف، الله عاقبهم، والآن ينظف القطاع قليلاً بالماء”.
هذه الآراء لا تنشأ في فراغ، بل تعكس انهياراً أخلاقياً شاملاً تجاه كيفية النظر إلى معاناة المدنيين الفلسطينيين، وكيف يُتسامح معها أو يُستهان بها.
ومع استمرار هطول الأمطار، بدأت النتائج تتجسد بوضوح، ملاجئ مغمورة، طعام تالف، مقتنيات ضاعت، ويأس يتسرب إلى قلوب عائلات استُنزفت كل طاقاتها في محاولة البقاء.
أما التداعيات الصحية، فسوف تتكشف على مدى أسابيع وأشهر، الأطفال الذين أنهكهم سوء التغذية والأمراض يواجهون مخاطر مضاعفة.
لم تكن العاصفة سوى الشرارة، لكن انهيار الحماية الإنسانية في غزة هو نتيجة سنوات من الحرب والحصار الخانق وفشل الاستجابات الدولية.
واليوم، يعاقَب الفلسطينيون فقط لأنهم بشر يعيشون في مكان صُنّف “قابلاً للتخلص منه” في سياسات الدول القوية ولا مبالاتها.
وبالنسبة للعالم الخارجي، تأتي العواصف وتمضي، تتعطل الحياة قليلاً، لكن نادراً ما تُدمَّر الحياة، أما في غزة، فقد تحولت “بايرون” إلى فصل كارثي جديد في قصة طويلة من العزلة المفروضة.
لقد كشفت العاصفة إفلاساً أخلاقياً عالمياً، حين يُسمح لشعب بأن يغرق تحت العاصفة ذاتها التي يستعد لها آخرون بأريحية وأمان.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)







