بقلم حميد دبّاشي
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
في تقرير أممي حديث، أكّد الخبراء بشكل لا لبس فيه أن دولة الاحتلال ترتكب جريمة الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في غزة، حيث جاء في نص التقرير الصادر الشهر الماضي أن “السلطات الإسرائيلية وقوات الاحتلال ترتكب وتواصل ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة”.
والواقع أن هذا التقرير الأممي ليس الأول من نوعه، ولن يكون الأخير، فقد بات العالم اليوم يمتلك من الأدلة والشهادات ما يكفي لمحاسبة هذا الكيان الاستعماري الدموي على جرائمه ضد الإنسانية.
وكما جرى في محاكمات نورمبرغ بين عامي 1945 و1946، التي حاكمت مجرمي الحرب النازيين، لا بدّ من إقامة محكمة عالمية مماثلة من أجل محاسبة مسؤولي دولة الاحتلال على أفعالهم، وفي الوقت ذاته، ينبغي على الشرفاء الرافضين لهذه المجازر في دولة الاحتلال أن يتصوروا لأنفسهم مستقبلًا خارج منظومة الصهيونية الوحشية التي سلبت إنسانيتهم.
فصل ضروري
دعونا نتذكر أن اليهود في أنحاء العالم، بمن فيهم عدد من الذين يعيشون داخل دولة الاحتلال، يقفون اليوم في طليعة المعارضين للإبادة في غزة، فليس اليهود هم من يرتكبون هذه الجريمة، بل الصهاينة، وليس كل الصهاينة يهودًا، ولا كل اليهود صهاينة.
على سبيل المثال فإن السفير الأميركي لدى دولة الاحتلال مايك هاكابي، الذي يوصف بأنه “سيكوباتي”، ليس يهوديًا، ووزير الخارجية الأميركي المحتال والباحث عن الشهرة ماركو روبيو، ليس يهوديًا أيضًا، وهؤلاء ومعهم السياسيون الأميركيون والبريطانيون والألمان والفرنسيون وغيرهم، الذين يغدقون بالسلاح على دولة الاحتلال لدعم الإبادة، يجب أن يُحاسَبوا جميعًا أمام القانون الدولي.
لقد أصبحت جريمة الإبادة في فلسطين، التي وثّقتها التقارير الحقوقية والإعلامية والإنسانية على نطاق واسع، في قلب الوعي العالمي اليوم، فلا ميدان من ميادين الفكر أو السياسة أو الثقافة أو الإعلام أو الرياضة يجب أن يغضّ الطرف عن هذه الجريمة أو يتجاهل أثرها في إعادة تشكيل مفهومنا للعالم.
وكل مجال يحمل سمة (عالمي) في اسمه مثل الأدب العالمي، الفلسفة العالمية، السينما العالمية، والموسيقى العالمية، لا يحق له أن يدّعي العالمية قبل أن يمرّ من بوابة غزة التي لم تعد مجرد مكان جغرافي محاصر، بل مركز كوني يعيد تعريف الإنسانية نفسها.
إعلام وأنظمة متمرسة في التواطؤ
وما أحوجنا اليوم إلى تعبئةٍ عالمية لمواجهة تلاعب الإعلام الغربي في المفاهيم وفي مقدمة هذا الإعلام مؤسسات مثل نيويورك تايمز وبي بي سي اللتان تسعيان إلى تطبيع حقيقة الإبادة وطمسها، فبمجرد أن أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو أن الحرب انتهت، سارعت هذه الوسائل لتغيير العناوين ودفن أخبار غزة تحت قصص أخرى.
تكشف مطالعة الصحف الغربية كيف يتم طمس المجازر بينما تصبح الصهيونية الإبادية الوضع الطبيعي الجديد، وفي مقابل هذا الصمت، ينبغي على الضمير الإنساني الحقيقي أن يفعل العكس تمامًا، أن يُبقي غزة في قلب المشهد، لأنها اليوم قلب العالم ونبضه.
ولا يقتصر التواطؤ على الإعلام، بل يمتد إلى الأنظمة الغربية كلها، من واشنطن إلى برلين، ومن أوتاوا إلى كانبيرا، هذه المنظومة، التي تُسمي نفسها العالم الحر، ليست سوى نظام هيمنة عنيف يمكّن دولة الاحتلال من تنفيذ جريمتها على مرأى العالم.
ولذلك، ينبغي تعبئة كل مؤسسات المجتمع المدني في العالم للدفاع عن الفلسطينيين وجعل فلسطين حجر الأساس في كل منظومة أخلاقية وإنسانية.
دعونا نتناول ثلاثة أحداث سينمائية بارزة سلّطت الضوء على المجازر: الأول في مهرجان البندقية السينمائي، حيث أثار فيلم “صوت هند رجب” إعصارًا من المشاعر حين نال تصفيقًا متواصلًا لمدة 22 دقيقة وسط دموع الجمهور وهتافات “الحرية لفلسطين”.
أما المثال الثاني فهو في مهرجان تورنتو السينمائي، حيث قدّمت المخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر فيلمها الجديد “فلسطين 36″، الذي يستعيد أحداث العام عام 1936، يوم لجأ اليهود الهاربون من الاضطهاد في أوروبا إلى أرض فلسطين، قبل أن يتحوّلوا إلى غزاة يطردون أهلها بالسلاح.
وثالث الأحداث كان في هوليوود، عندما أعلن عشرات من أبرز الممثلين مثل إيما ستون، خواكين فينيكس، روني مارا، نيكولا كوفلان، وأندرو غارفيلد مقاطعتهم للمؤسسات السينمائية التابعة لدولة الاحتلال المتورطة في جرائم الإبادة والفصل العنصري ضد الفلسطينيين.
إن هذه الأحداث ليست مجرد مناسبات فنية، بل مواقف أخلاقية كبرى في وجه واحدة من أبشع الجرائم في التاريخ الحديث، ذلك أن استهداف الفلسطينيين بالإبادة في معسكر الاعتقال الجماعي المسمّى غزة، وفي كل أنحاء وطنهم، هو فعل من أعمق أشكال الانحطاط الأخلاقي في العصر الحديث.
إن دولة الاحتلال تمثل رأس الحربة في آلة الغرب الاستعمارية التي تزرع الموت والدمار في العالم، والفلسطينيون اليوم يقفون في صفّ البشرية، بينما يقف الغرب في صفّ آلة القتل.
كيف أعادت غزة تعريف السينما
وفي خضمّ الإبادة الجماعية المستمرة بحق الفلسطينيين، والتي تتواصل منذ أكثر من عامين بعد مئة عام من الاضطهاد الاستعماري، أصبحت المأساة الفلسطينية في صميم الضمير الإنساني العالمي.
ولطالما حاول الباحثون في مجال السينما العالمية تعريف هذا المفهوم الغامض الذي يقوم على فكرتين: ما هو غير معروف بعد، وما هو خارج نطاق هيمنة هوليوود، لقد كان الهدف دومًا تفكيك مركزية الغرب في السينما، وفتح المجال أمام سينما الآخرين من آسيا وإفريقيا والعالم العربي وأمريكا اللاتينية لتروي قصصها بنفسها.
غير أن السؤال الجوهري يبقى: ما معنى السينما العالمية في زمن الإبادة؟ وما الذي تبقى من هذا المفهوم بعد أن تحولت غزة إلى مرآةٍ للضمير البشري؟
انقلاب في الرؤية
ولم تكن “السينما الهامشية” التي تقدمها الدول النامية أو بلدان العالم الثالث يومًا سوى رؤية تخضع لنظرة الباحث الغربي، فحتى تلك السينمات التي وُصفت بأنها بديلة كانت، في جوهرها، تُعرض وتُقيّم من منظور المركز الغربي ذاته.
أجل، لقد آن الأوان لعكس الرؤية، فاليوم من ينظر ليس الغرب، بل الفلسطيني، والعربي، والإيراني، والهندي، والافريقي، واللاتيني، وهم الذين يوجّهون العدسة، وهم الذين يكتبون التاريخ بالصورة والصوت.
وتؤدي مهرجانات السينما الكبرى في فينيسيا وبرلين وكان وتورنتو وهوليوود دورًا مهمًا في رفع الوعي العالمي تجاه فلسطين، لكنها ليست المكان الذي يولد فيه الفن الحقيقي، بل إن السينما التي تنتمي إلى الحقيقة لا تُصنع على السجاد الأحمر، بل تنبثق من الركام والدخان ومن شهادات الناجين، نعم المركز الحقيقي للسينما العالمية اليوم هو بيسان عودة في غزة.
بيسان عودة.. كاميرا في مواجهة العالم
لقد تحولت الصحفية والمخرجة الفلسطينية الشابة بيسان عودة من خلال هاتفها المحمول إلى رمز عالمي للمقاومة البصرية، فتحت عنوان “أنا بيسان من غزة وما زلت على قيد الحياة”، وثّقت لحظة بلحظة الهولوكوست الذي يرتكبه جيش الاحتلال ضد شعبها.
وبأسلوبها الصادق، وصوتها المرتجف، ونظراتها التي تختصر التاريخ، أعادت عودة تعريف معنى الشهادة في زمن الصورة، لتصبح السينما ذاتها فعلًا من أفعال الصمود.
وقد نال عملها جوائز عالمية كبرى منها جائزة بيبودي لعام 2024، وجائزة إدوارد آر مورو، وجائزة إيمي لكن تلك الجوائز لا تُكرم بيسان بقدر ما تكتسب ذات الجوائز قيمتها من صدق بيسان، هذه الجوائز لا تضيف شيئًا إلى بيسان، بل عملها هو الذي يضفي الشرعية على تلك الجوائز نفسها.
وبيسان ليست وحدها، فقد ترك عشرات الصحفيين والمصورين الفلسطينيين الذين استُشهدوا أثناء توثيق العدوان خلفهم إرثًا من الصور والفيديوهات التي أعادت تعريف ماهية الفن السينمائي.
هنا لم تعد الكاميرا مجرد وسيلة فنية محايدة، بل درعًا أخلاقيًا في وجه آلة القتل، وسلاحًا في معركة الذاكرة ضد محو الحقيقة.
ومن خلال شهادات الفلسطينيين الذين دفعوا حياتهم ثمنًا لكلمة الحق، أعيد مركز العالم السينمائي من أوروبا وأميركا إلى أنقاض غزة، وقد منح العصر الرقمي لهذه الشهادة بُعدًا كونيًا لا يمكن لأي قوة في الأرض إسكاتها.
الغرب فقد سرديّته
في هذا التحول العميق، فقدت الأنظمة الحاكمة في دولة الاحتلال والولايات المتحدة حبكة القصة التي حاولت ترويجها منذ عقود، وباتت هاتان الحكومتان اليوم تجلسان على قمة أكثر آلة قتل وتدمير في التاريخ الحديث، ظنًا أنهما انتصرتا لأنهما تمتلكان ترسانة من أسلحة الدمار الشامل، وهما في الحقيقة كيانان في طور الانهيار الأخلاقي والروحي، فهذه الإبادة ستكون سبب سقوطهما، والعالم يقف الآن وجهًا لوجه أمام المسخ الكولونيالي المسمّى بالغرب ودولة الاحتلال، ومقاومة هذا المسخ هي التي تعيد إلينا إنسانيتنا المنتصرة.
إن جوهر الإنسانية الحقيقية يتجلى اليوم في فنّ الفلسطينيين وثقافتهم وشعرهم وسينماهم وأدبهم، فمن بين الركام، تولد الكاميرا الفلسطينية لا لتُصوّر الموت، بل لتشهد على الحياة ولتعلن أن غزة ليست فقط مأساة، بل بداية سرد جديد للعالم.
في قلب هذه الإنسانية المنتصرة تقف فلسطين، بثقافتها وفنّها وأدبها وشعرها وسينماها وبروحها العصية على الانكسار.
لقد أعادت غزة تعريف معنى الفن، والسينما، والإنسانية نفسها، فبعد أن كانت الكاميرا أداة بصرية غربية، أصبحت اليوم مرآة للضمير العالمي، يديرها أبناء فلسطين ليكتبوا بدمهم وفنّهم فصل الحرية القادم.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)