غزة خالدة رغم الدمار.. لا ترامب ولا إسرائيل سيتمكنان من محوها

بقلم سمية الغنوشي

ترجمة وتحرير مريم الحمد

يرى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي لم يكن يوماً محللاً بارعاً للتاريخ، بأن أفضل خطة لغزة هي “تسوية الموقع والتخلص من المباني المدمرة”، مما يمهد الطريق لمشروع استيلاء أمريكي على القطاع المحاصر.

وفي بريطانيا، أدلى زعيم حزب الإصلاح، نايجل فاراج، بتصريحات مماثلة في مستوى الجهل، حيث تخيل غزة مع “كازينوهات وحياة ليلية”، متحدثاً باستحقاق المستعمر الذي يعتقد أن التاريخ يبدأ من تساهله.

الهدف واضح وهو تجريد الفلسطينيين في غزة من إنسانيتهم ليبدوا بدائيين وغير جديرين بالحياة الكريمة، فمن خلال هذا التجريد يصبح أسهل على العالم القضاء عليها!

هذا هو منطق الغزو، يبدأ بالغزو والتدمير ثم يقف على الأنقاض ويعلن خلو الأرض، فتقاليد الاستعمار الطويلة والملطخة بالدماء تتحدث من خلال هؤلاء السياسيين، الذي يرون الأمر بوصول المستوطنين إلى الشواطئ المدمرة ثم ذبح السكان الأصليين وإعلان اكتشافهم لأرض نوفا، وهي أرض ليس لها ماض، ولكن ليس هذا حال غزة فهي ليست خالية!

إن ما يتكشف أمام أعين العالم اليوم ليس مجرد حرب، بل هو إبادة ثقافية ومحاولة محسوبة لمحو ماضي غزة، حتى يصبح من الممكن إنكار مطالبة شعبها بالمستقبل، فالهجوم الإسرائيلي لم يستهدف الأحياء فحسب، بل التاريخ نفسه، فقد تم طمس أكثر من 200 موقع تراثي من خلال حملة متعمدة لفصل غزة عن ماضيها.

طمس من الخريطة

تم مسح ميناء أنثيدون، الذي يعود تاريخه إلى عام 800 قبل الميلاد، والذي أبحرت منه السفن الفينيقية، من الخريطة، ولكن المسجد الكبير، وهو الأكبر والأقدم في غزة، قد نجا من إمبراطوريات سابقة ولكن ليس من هذه الحرب. 

تعرضت كنيسة القديس بورفيريوس، حيث صلى المسيحيون لعدة قرون، للقصف عندما لجأ المدنيون إلى أسوارها القديمة، فحتى أحد أقدم الأديرة في العالم تعرض لأضرار في الحرب.

تفيد التقارير بأن أكثر من 1100 مسجد في غزة قد تعرض للهجوم، وتم تدمير ثلاثة أرباعها بالكامل، كما دمرت 3 كنائس وتم استهداف 40 مقبرة، بالإضافة إلى نبش القبور وسرقة الجثث.

هذا ليس مجرد تدمير، بل هي محاولة لمحو فكرة أن غزة وشعبها كانوا ينتمون إلى هذه الأرض في أي وقت مضى! 

غزة قديمة بقدم ازدهار روما، فقد كانت مزدهرة حتى قبل أن نتصور لندن وباريس، وقد تتبع عالم الآثار البريطاني فليندرز بيتري وجود غزة قبل 5000 عام، إلى تل العجول، حيث ترك الكنعانيون والمصريون والفلسطينيون والفرس واليونانيون بصماتهم.

إن رؤية ترامب لغزة هي رؤية إبادة استعمارية، وهي لا تكتفي بمجرد القتل أو هدم المنازل أو سحق المستشفيات، بل تسعى هذه الرؤية إلى تحويل غزة إلى فراغ، أرض بلا ماضٍ ولا ذاكرة ولا شعب

لقد جعلت مملكة معين اليمنية، إحدى أقدم الحضارات العربية، من غزة مركزاً للتجارة في الألفية الأولى قبل الميلاد، ومن هنا تدفقت البضائع إلى البحر الأبيض المتوسط ​​وأوروبا ومصر وآسيا، وبعد وفاة هاشم بن عبد مناف الجد الأكبر للنبي محمد في غزة، أصبحت تعرف باسم غزة هاشم نسبة إليه، فقد قام بتأمين ثروة قريش هناك، مما مكّن التجارة التي جعلت مكة فيما بعد مركزاً للتجارة.

بعد سنوات من ذلك التاريخ، وأثناء غزوة النبي محمد إلى تبوك في السنة 9 للهجرة، جاءه أسقف غزة بقصة رائعة، فأخبر النبي أنه عندما توفي جده هاشم في غزة، تم وضع ثروته في عهدة الكنيسة المحلية، فرد الأسقف الأمانة وتوزعت فيما بعد على زعماء بني هاشم.

هذه واحدة من الحكايات التي لا تعد ولا تحصى والتي تسلط الضوء على الروابط الحميمة القديمة بين المسيحيين والمسلمين في غزة.

استهداف ممنهج

كل الإمبراطوريات نشأت ثم سقطت، فقد بنى البيزنطيون الكنائس وأقام العثمانيون المساجد والمدارس واستولى الصليبيون على غزة، لكن صلاح الدين صدّهم وواصل تحرير القدس. 

في خضم الهجوم الإسرائيلي الأمريكي على غزة، وصف أحد مضيفي قناة فوكس نيوز الفلسطينيين في غزة بأنهم “غير متعلمين”، مردداً نفس الخطاب الاستعماري الذي تم استخدامه دائماً لتبرير الإبادة الجماعية، فالهدف واضح وهو تجريد الفلسطينيين في غزة من إنسانيتهم ليبدوا بدائيين وغير جديرين بالحياة الكريمة، فمن خلال هذا التجريد يصبح أسهل على العالم القضاء عليها!

الحقيقة عكس كل ذلك على أية حال، ففلسطين تتمتع بواحد من أعلى معدلات معرفة القراءة والكتابة في العالم، حيث كانت تبلغ حوالي 97% من قبل هذه الحرب، وكان في غزة 12 جامعة تخرج علماء وأطباء ومهندسين ومفكرين، ولكن تم تدمير كل هذه المؤسسات الآن، كما تم استهداف مدارس غزة وقتل أكثر من 90 أستاذاً جامعياً، إلى جانب مئات المعلمين وآلاف الطلاب.

“علينا أن نقتل ونقتل”

غزة ليست مجرد مدينة، ولكنها العمود الفقري للهوية الوطنية الفلسطينية، فبعد نكبة عام 1948، عندما تم طرد 750 ألف فلسطيني من مدنهم وقراهم لتمكين إنشاء دولة إسرائيل، أصبحت غزة ملاذاً لمئات الآلاف من الناس.

من مخيماتها وشوارعها خرج قادة النضال الفلسطيني، من ياسر عرفات وخليل الوزير وصلاح خلف والشيخ أحمد ياسين وغيرهم، ومن أهلها جاء سعيد المزين شاعر الثورة الذي نظم كلمات النشيد الوطني الفلسطيني.

في غزة اليوم، يجلس صبي صغير وسط الأنقاض، وقد تضاءل جسده الصغير أمام الدمار المحيط به، فيرتفع صوته ثابتاً وهو يغني: “وطني، وطني، وطني هو أنا”، فكلماته المؤثرة تحمل عقوداً من النضال والصمود، هو لا يغني فقط ولكنه يعلن حقيقة غير قابلة للكسر، هي أن الفلسطينيين هم الأرض وأن محو أحدهما يعني محو الآخر.

لم يبدأ تدمير غزة في 7 أكتوبر عام 2023، بل كان دائماً جزءاً من خطة إسرائيل المدعومة من الغرب، فقبل عقدين من الزمن، قدم الخبير الاستراتيجي الإسرائيلي أرنون سوفير توصيفاً مروعاً لما يعتبره مستقبل غزة فيقول: “عندما يعيش 2.5 مليون شخص في قطاع غزة المغلق، ستكون هناك كارثة إنسانية، فهؤلاء الناس سوف يصبحون حيوانات وسوف تكون هناك حرب رهيبة، لذا، علينا أن نقتل ونقتل ونقتل طوال اليوم وكل يوم”.

أول الخطوات كانت إغلاق قطاع غزة ثم تجويع سكانه والآن محاولة  القضاء عليه!

حسابات استعمارية 

إن رؤية ترامب لغزة هي رؤية إبادة استعمارية، وهي لا تكتفي بمجرد القتل أو هدم المنازل أو سحق المستشفيات، بل تسعى هذه الرؤية إلى تحويل غزة إلى فراغ، أرض بلا ماضٍ ولا ذاكرة ولا شعب.

هي نفس الحسابات الاستعمارية التي بررت ذبح الملايين من السكان الأصليين في الأمريكتين ونفس اليد القاسية التي مسحت الأمم القديمة من على وجه الأرض في أستراليا وباسم الحضارة والتقدم دائماً، فكل نصب تذكاري محطم وكل مخطوطة ممزقة وكل صوت مكتوم جزء من جريمة قديمة مألوفة تنكر وجود أي شيء يمكن قتله في المقام الأول.

في غزة اليوم، يجلس رجل في منتصف العمر بصمت على أنقاض منزله وغبار الدمار ملتصق بجلده، وعندما سُئل عن سبب عدم رحيله، كانت إجابته واضحة: “لقد مات ابني هنا وقد أراق دمه هنا وعظامه موجودة تحت هذا الركام وعندما أجلس هنا أشعر أنني قريب منه”، وفي تلك الجملة 1000 قصة لم تروى.

بالنسبة للعالم، غزة مجرد أنقاض يجب إزالتها، ولكن بالنسبة للفلسطينيين الذين يعيشون فيها، فهي أرض مقدسة تتنفس فيها الذكريات تحت الغبار في الصمت، فكيف يمكنهم التخلي عما تبقى من أحبائهم؟ كيف يرحلون وكل حجر مكسور هو شاهد قبر؟

إن أهل غزة لا يقفون فقط على أنقاض منازلهم، بل يقفون على أنقاض تاريخ مسروق، على ذكريات مدن وقرى مُحيت من الأرض، فقد قيل لهم “أرض بلا شعب”. 

“لم يكن هناك شيء اسمه فلسطينيون”، هذا ما أعلنته رئيسة الوزراء الإسرائيلية السابقة غولدا مائير، وهي امرأة كانت تحمل جواز سفر فلسطينياً قبل ولادة دولة إسرائيل.

النفي جريمة واحدة، ومحوها هو شيء آخر، ولهذا السبب يبقى الفلسطينيون في أرضهم، لأن الرحيل يعني الاستسلام للكذب والسماح بإعادة كتابة التاريخ في غيابهم، فكل حجر وشارع وكل خراب يهمس باسمهم والتخلي عنه سيكون بمثابة خيانة لمن سار قبلهم.

يجب على العالم ألا يسمح بنجاح هذه الإبادة الجماعية، يجب استعادة غزة وليس محوها.

للاطلاع على  النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة