لقد تسبب الهجوم الإسرائيلي على المستشفى الأهلي في 17 أكتوبر في صدمة كبيرة لدى سكان غزة، فزاد الخوف والقلق من تكشف حقيقة أن الأماكن المقدسة والطبية لم تعد آمنة من الاستهداف العشوائي.
في الحروب السابقة، كان الخطر الرئيسي يتمثل في الطريق إلى المستشفى وليس مبنى المستشفى، فخلال سير السيارة في الطرق الخالية كان يجعل المرء يشعر بأنه معرض للطائرات بدون طيار فجأة باعتبار أنها قد تصنهم “تهديدًا أمنيًا”، ورغم قصر المسافة، فقد كانت تبدو أبدية، فلا نتنفس الصعداء إلا بعد دخولنا ممرات المستشفى.
في أوقات الحرب، يحق للمرضى والجرحى الحصول على الرعاية الطبية، وفقًا للقانون الدولي، حيث تنص المادة 12 من اتفاقيات جنيف على وجوب احترام الوحدات الطبية وحمايتها في جميع الأوقات وعدم تعرضها للهجوم.
لم تجد آلاف العائلات الفلسطينية التي نزحت من منازلها في شمال غزة مكاناً للمأوى، فيما أصيب آخرون بجروح وفقدوا منازلهم بسبب القصف، ومع اختفاء الكهرباء والوقود، فقد غرق القطاع بأكمله في الظلام ليلاً، وأصبح يشبه مدينة الأشباح.
تكمن القضية الأساسية في حرمان الفلسطينيين من حقوقهم الإنسانية الأساسية وممارسة الإبادة الجماعية ضدهم، بينما يراقب العالم في صمت، فبعد 5 حروب، وحصار لـ 16 عاماً، واحتلال وحشي لـ 75 عاماً، لم يقم أحد بمساءلة إسرائيل!!
في ظل ذلك، لجأت الكثير من الأسر إلى المستشفيات، فقد أصبحت المزود الوحيد للكهرباء، التي يعتمد عليها آلاف الأشخاص لشحن هواتفهم المحمولة وملء زجاجات المياه، والأهم من ذلك كله هو الأمل بأن يكونوا بمأمن من الصواريخ الإسرائيلية، لكن قصف المستشفى الأهلي حطم فكرة أن المستشفى مكان آمن إلى الأبد!
بعد تلقي الخبر المرعب بقصف المستشفى، حبست أنفاسي فقد علمت أن أخي البالغ من العمر 47 عاماً، والذي عانى طويلاً من الفشل الكلوي، كان لديه موعد مع الطبيب في اليوم التالي، فهو يحتاج إلى غسيل الكلى 3 أيام في الأسبوع!
معاناة مستفحلة
يقع المستشفى الأهلي المعمداني في حي الزيتون جنوب مدينة غزة، ويحتل مكانة مهمة في تاريخ فلسطين، فقد أسسته جمعية الإرسالية الكنسية التابعة لكنيسة إنجلترا عام 1882، ويعد واحدًا من أقدم المرافق الطبية في المنطقة، وقد كان معروفًا أيضًا بمدرسة التمريض التابعة له حتى منتصف السبعينيات.
كانت ليلة قصف المستشفى مرعبة للغاية، لدرجة أن وائل الدحدوح، مراسل الجزيرة في غزة، فقد القدرة على التعبير على الكلمات من هول المشهد!
لقد ذكّرتني الصور المروعة بمجازر صبرا وشاتيلا عام 1982، حين دخلت الميليشيات اللبنانية، بدعم من الجيش الإسرائيلي، مخيمات اللاجئين الفلسطينيين وأخذت بقتل كل من يعترض طريقها، بمن فيهم النساء و الأطفال وكبار السن، وفي ذلك اليوم، اقتحموا مستشفى المخيم وقتلوا الممرضين والأطباء والمرضى الذين فروا من المذبحة.
كيف يمكن للعالم أن يسمح بحدوث هذه الجرائم، ناهيك عن استمرارها بعد أكثر من أسبوع؟!
مع تدمير المستشفى، تم تدمير إيماني بحقوق الإنسان والعدالة العالمية والقانون الدولي وكل ما آمنت به أو درسته ذات يوم أيضاً، فقد غلبني الحزن والغضب والأسى والقلق، وهي مشاعر باتت تتزايد يومًا بعد يوم، خاصة مع صمت العالم وعدم وجود من يرغب بإيقاف ذلك الجنون، فكل ما نفعله الصلاة، والتساؤل عما سيحدث بعد ذلك؟!
للأسف، من المرجح ألا يكون المستشفى الأهلي الوحيد الذي تستهدفه الغارات، فقد هدد الجيش الإسرائيلي مستشفيات أخرى، متجاهلاً الأعراف والأخلاق والقوانين المعترف بها دوليًا والتي تحدد هذه الأماكن كمناطق آمنة.
غياب المحاسبة!
لعل من أكثر الأمور صدمة أن الدماء في جثث الضحايا لم تكن قد بردت بعد حين بدأت وسائل الإعلام الغربية في صياغة مبررات لقصف المستشفى، فقد أنكرت إسرائيل مسؤوليتها، وأثارت ضجة في العالم بعد ادعائها أنه الصاروخ فلسطيني!
ليس ذلك فحسب، فرغم إصرار إسرائيل الدائم على أنها لا تستطيع تحديد المواقع الدقيقة التي تطلق منها الصواريخ من غزة، ولكن هذه المرة، كانت سريعة جداً وبطريقة غريبة في الوصول لاستنتاجها المزعوم حول التحقق من مسار الصاروخ المزعوم!
ومع ذلك، حتى مع تصديق الغرب للرواية الإسرائيلية، فلا أحد يستطيع أن ينكر أن إسرائيل قتلت على مدى الأسبوعين الماضيين أكثر من 3 آلاف طفل، بينهم 305 أطفال في غضون 24 ساعة فقط، وفي ظل ذلك، فإنه من المخزي والمهين والمروع أن يثير الرئيس الأمريكي جو بايدن شكوكاً لا أساس لها حول عدد الضحايا!
بعد أن قصفوا المستشفى ودمروا ما تبقى من الشعور بالأمان، قلت في نفسي “ماذا يمكنهم أن يفعلوا بنا أكثر من ذلك؟”
لقد منعت إسرائيل وصول الحاجيات الأساسية مثل الغذاء والماء إلى سكان غزة، ودمرت المخابز عمداً، ولم تسمح إلا لقافلتين فقط من المساعدات الإنسانية بالدخول بعد 14 يوماً من الإغلاق الكامل، تبع كل ذلك إغلاق كامل للاتصالات تزامن مع قصف عنيف، في خطوة لإخفاء “الفظائع الجماعية” بحسب وصف منظمة هيومن رايتس ووتش.
علاوة على ذلك، فقد استهدف الجيش الإسرائيلي سيارات الإسعاف ورجال الإطفاء وعمال الإنقاذ الذين كانوا يحاولون مساعدة المدنيين، وبعد إنكار المسؤولية عن قصف المستشفى الأهلي، هددت إسرائيل بقصف المزيد من المستشفيات، بما في ذلك مستشفى الشفاء.
تكمن القضية الأساسية في حرمان الفلسطينيين من حقوقهم الإنسانية الأساسية وممارسة الإبادة الجماعية ضدهم، بينما يراقب العالم في صمت، فبعد 5 حروب، وحصار لـ 16 عاماً، واحتلال وحشي لـ 75 عاماً، لم يقم أحد بمساءلة إسرائيل!!
لقد أدرك سكان غزة منذ فترة طويلة أن الجميع يخافون من إسرائيل، وأن قادة ووسائل إعلام الغرب يفكرون 100 مرة قبل تحميلها المسؤولية عن أي مجزرة ترتكبها، رغم وجود أدلة واضحة وضوح الشمس على أن إسرائيل ارتكبت تلك الفظائع، ومع ذلك، لا أحد يجرؤ على اتهامها، لأن ذلك يزرع الخوف في نفوس الكثيرين.
وعلى النقيض من ذلك، فقد زاد انتشار الأخبار الكاذبة التي تشوه سمعة الفلسطينيين كالنار في الهشيم تمهيداً للإبادة الجماعية، من المفترض أنه في الحالات التي تنتشر فيها المعلومات المضللة، مثل الكذبة بأن حماس قطعت رؤوس 40 طفلاً، فإن من واجب وسائل الإعلام والقادة السياسيين التعبير عن الأسف والاعتراف بالدور الذي لعبوه في إضفاء الشرعية على حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل، ولكن الذي حصل على الأرض كان التأييد الصريح لتلك المجازر!
تحت ستار “الدفاع عن النفس”، تستمر إسرائيل في تلقي الدعم المالي والعسكري والسياسي الثابت من الولايات المتحدة ودول أوروبية أخرى، فقد أرسلت الولايات المتحدة بالفعل حاملة الطائرات البحرية إلى شرق البحر الأبيض المتوسط.
وفي الوقت الذي أكتب فيه أنا هذه السطور، سمعت ابنة أخي التي تبلغ من العمر 10 سنوات ترفع أكفها بالدعاء قائلة “أتمنى ألا تصل هذه السفن إلينا! ما الذي يمكنهم فعله أكثر من ذلك؟ ماذا يفعلون بنا؟”، وبعد أن قصفوا المستشفى ودمروا ما تبقى من الشعور بالأمان، قلت في نفسي “ماذا يمكنهم أن يفعلوا بنا أكثر من ذلك؟”.
بقلم غادة عابد
ترجمة وتحرير مريم الحمد
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)