بقلم عبد أبو شحادة
ترجمة وتحرير مريم الحمد
قبل عقدين من الزمن، كان عالم الأنثروبولوجيا الروسي الأمريكي، أليكسي يورتشاك، قد صاغ مصطلح “التطبيع المفرط” في وصف الواقع السخيف والسريالي للاتحاد السوفييتي خلال العقدين الأخيرين قبل انتهائه.
في تلك الحقبة، كان المواطنون والمسؤولون على حد سواء يدركون أن النظام السوفييتي كان مختلاً وظيفياً فلم يكن يعكس الواقع، ومع ذلك استمر وكأن شيئاً لم يحدث.
لم يكن أحد ليتخيل أن سور برلين سوف ينهار، أو أن الاتحاد السوفييتي سوف يتفكك إلى 15 دولة مستقلة، وأن روسيا سوف تعتمد على واردات القمح من الولايات المتحدة في التسعينيات!
إذا نظرنا إلى الوراء، فمن السهل تحديد زوايا الخلل في ذلك النظام وفهم مدى السريالية وعدم الاستدامة الكامنة في جوهره، وهذا ما عناه يورتشاك بفرط التطبيع، وقد كان بالفعل.
تأمل معي من واقع اليوم، فقد قام الجيش الإسرائيلي مؤخراً بإعدام 15 مسعفاً وعامل إنقاذ في غزة، وذلك بعد أن سجل أحدهم تلك اللحظات بالفيديو، وهو ما يدحض الرواية الرسمية للجيش الإسرائيلي، الأمر الذي دعا العالم لطرح الأسئلة، أما في إسرائيل، فلم تحدث القصة صدىً يذكر!
إن حقيقة إعدام عمال الإنقاذ بطريقة تذكرنا بأفلام الديستوبيا، في الوقت الذي يتصرف فيه المجتمع الإسرائيلي كما لو أن الأمر حدث على كوكب آخر، هو أمر مذهل حقاً، فلم يتقدم أي سياسي إسرائيلي لانتقاد الحادثة، وكأن المجتمع الإسرائيلي يعيش حالة من التنافر المعرفي منفصلاً عن الواقع نفسه!
تفكيك مؤسسات الدولة
في أواخر العام الماضي، رفض الفرع الإسرائيلي لمنظمة العفو الدولية قبول تقرير المنظمة حول الإبادة الجماعية في غزة، وذلك على الرغم من أن منظمة العفو الإسرائيلية، التي تم تعليقها لاحقاً من قبل المنظمة الدولية، هي الأكثر تعرضاً للفظائع في غزة والخطاب العام الذي يضفي الشرعية عليها.
لقد أدت الحرب الإسرائيلية إلى استشهاد أكثر من 50800 شخص في غزة وتسببت في مجاعة واسعة، وفي هذا السياق يأتي قبول المجتمع الإسرائيلي المفرط في التطبيع لهذا العنف في الوقت الذي يغرق فيه بالعبثية أكثر، فرئيس وزراء إسرائيل يقوم بتفكيك مؤسسات الدولة ذاتها!
خلال زيارته الأخيرة إلى المجر، حصل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة الخدمة العامة في بودابست، ويبدو أن تنظيم جريمة إبادة جماعية وكونك مطلوباً من قبل المحكمة الجنائية الدولية يؤهل الشخص للحصول على مرتبة الشرف الأكاديمية!
إن اعتماد إسرائيل على القوة وحدها بدأ يظهر بالفعل علامات الانهيار عليها، حيث بدأت التوترات السياسية بين الجماعات الإسرائيلية المختلفة تؤثر على الجيش نفسه
الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أنه وأثناء وقوف نتنياهو في مؤسسة تهدف إلى تدريب موظفي الخدمة المدنية، هاجم نتنياهو الخدمة المدنية نفسها، مستشهداً بتحذير والده حول قوة “الدولة العميقة”.
يُعتقد أن مصطلح الدولة العميقة نشأ في تركيا في تسعينيات القرن 20 تقريباً، وذلك لوصف التجمع السري للجنرالات والبيروقراطيين رفيعي المستوى الذين يعملون خارج نطاق الرقابة الديمقراطية، لكن نتنياهو يعرف تمام المعرفة أن إسرائيل لا تمتلك دولة عميقة، لأنها لا تحتاج إليها.
لنأخذ على سبيل المثال 3 من المؤسسات الأكثر مركزية في إسرائيل، الجيش والشرطة والمحكمة العليا، فالجيش يشهد اضطرابات باستقالة أو إقالة عدد كبير من القادة بعد إخفاقات 7 أكتوبر عام 2023، فيما تتفكك أجهزة الشرطة تحت تأثير وزير الأمن القومي اليميني المتطرف إيتمار بن غفير، أما المحكمة العليا هي الأكثر اهتماماً بحماية إسرائيل على المستوى الدولي.
عندما تواجه المحكمة قضايا الهوية الأساسية، مثل قانون الدولة القومية المثير للجدال والذي يرسخ التفوق اليهودي على المواطنين الفلسطينيين، فإن المحكمة توفر المصادقة القانونية الكاملة، ولكنها في نفس الوقت نفس المحكمة التي تشرع الاستيلاء على أراضي المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.
خلافاً لما يحدث في الديمقراطيات الطبيعية، فإن الشخصيات الأمنية الإسرائيلية لا تحظى بالإعجاب فحسب، بل يتم توجيههم بشكل احترافي إلى السياسة، من موشيه ديان إلى إسحق رابين وأرييل شارون وشاؤول موفاز وبيني غانتس وآخرين كثيرين، تشكل المؤهلات الأمنية طريقاً مباشراً للوصول إلى السلطة.
في الوقت نفسه، بينما ينتقد نتنياهو السيطرة البيروقراطية، فقد اتُهمت زوجته وابنه بالتدخل في تعيينات رفيعة المستوى في الدولة، رغم عدم تمتعهما بأي سلطة قانونية، ومع ذلك تحول كل منهما إلى شخصية مستقطبة يقدسها قسم من السكان ويحتقرها آخرون.
رفض القوة الناعمة
إضافة إلى الانهيار الداخلي في إسرائيل، يواصل نتنياهو ملاحقة طموحاته الإقليمية الخطيرة، فلدى عودته من زيارة أخيرة للبيت الأبيض، ورد أنه كان قد ضغط على واشنطن للنظر في توجيه ضربة إلى إيران إذا لم يتم استيفاء شروط معينة في المفاوضات الأمريكية الإيرانية، وفي الوقت نفسه، فهو يدفع باتجاه تجزئة سوريا بطرق تحابي المصالح الاستراتيجية الإسرائيلية.
فكرة أن يستمر هذا الجنون إلى أجل غير مسمى أمر خطير، فمغامرات نتنياهو الإقليمية المتهورة لا تؤدي إلى زعزعة استقرار الشرق الأوسط فحسب، بل تمزق المجتمع الإسرائيلي نفسه من الداخل أيضاً
في نفس الوقت، يواصل نتنياهو الحديث عن خطة التهجير من غزة، رغم رفض العالم العربي والمجتمع الدولي للفكرة باعتبارها تهديداً خطيراً للاستقرار العالمي، كما نشر عبر الطرق السريعة الإسرائيلية، لوحات إعلانية عملاقة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب وولي العهد السعودي محمد بن سلمان تحت شعار: “إسرائيل مستعدة للتطبيع مع السعودية”.
خلافاً لما يرغب نتنياهو والعديد من الإسرائيليين في تصديقه، فمن غير الممكن أن تكون إسرائيل قوة مهيمنة إقليمياً، وهذا ليس بسبب افتقارها إلى القوة العسكرية؛ بل على العكس من ذلك، فهي تتمتع بقدر كبير من القوة، بدعم من الولايات المتحدة والغرب، بل لأن إسرائيل ترفض بشكل أساسي مبدأ القوة الناعمة.
تعمل القوى النووية في مختلف أنحاء العالم على الموازنة بين القوة الصارمة والقوة الناعمة، وهي تدرك تمام الإدراك أن الدبابات والعقوبات لا يمكنها السيطرة على كل شيء، فالثقافة والتغير الاجتماعي والمناخ والناس، كلها عوامل تشكل تفاصيل العالمية.
إضافة إلى ذلك، هناك الديموغرافيا والجغرافيا والأراضي التي ترغب إسرائيل في السيطرة عليها وملايين الشعب السوري واللبناني والفلسطيني الذي تريد السيطرة عليه.
إن اعتماد إسرائيل على القوة وحدها بدأ يظهر بالفعل علامات الانهيار عليها، حيث بدأت التوترات السياسية بين الجماعات الإسرائيلية المختلفة تؤثر على الجيش نفسه، فجنود الاحتياط مرهقون جداً، كما أن التأثيرات النفسية طويلة الأمد التي تخلفها الحرب على الجنود أصبحت حقيقية، وقد بدأ الثمن الاجتماعي في الظهور للتو.
ليس هناك أي شيء طبيعي فيما يحدث في إسرائيل الآن، ففكرة أن يستمر هذا الجنون إلى أجل غير مسمى أمر خطير، فمغامرات نتنياهو الإقليمية المتهورة لا تؤدي إلى زعزعة استقرار الشرق الأوسط فحسب، بل تمزق المجتمع الإسرائيلي نفسه من الداخل أيضاً.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)