فلسطينيو أوروبا في اجتماعهم الكبير

بقلم حسام شاكر

بدا المشهد استثنائياً في هذا الصباح الربيعي. حشود تدفّقت صوب قاعات الاجتماع الكبير في الحاضرة الاسكندنافية وهي ترفع راية فلسطين وشعارات الإصرار على العودة إلى الأرض والديار.

توافد هؤلاء من أرجاء أوروبا إلى هذه المدينة السويدية ليبعثوا برسالة حياة من أحفاد جيل النكبة مفادها “نحن هنا”، ولن تزيدنا المنافي القاصية إلاّ تصميماً على حقوقنا الثابتة.

لهذه النسخة من مؤتمر فلسطينيي أوروبا التي التأمت في مالمو ما يميِّزها حقّاً، فهي تتوِّج عشرين عاماً من محطّات الانعقاد التي تعاقبت على عواصم ومدن أوروبية.

انطلقت القاطرة في البدء من لندن عام 2003، بمبادرة من مركز العودة الفلسطيني، المشتغل أساساً بحقوق اللاجئين الفلسطينيين، ثمّ طافت المسيرة بمشاركة تجمّعات ومؤسسات فلسطينية عدّة برلين وفيينا وكوبنهاغن وميلانو وباريس وبروكسيل وفوبرتال ومالمو ذاتها أيضاً من قبل؛ مراراً وتكراراً. أشعّ المؤتمر في نسخته الجديدة هذه بدلالات رمزية فائقة؛ فانعقاده جاء بعد ثلاثة أرباع قرن على نكبة فلسطين، ما أظهر أنّ القضية الحيّة ما زالت متأجِّجة في صدور شعبها ولا تعرف الذبول جيلاً بعد جيل، وبرزت على منصّة الحدث المركزية عدّة أجيال فلسطينية منها ما عاش ويلات النكبة وحمل المفاتيح والرايات إلى الأجيال اللاحقة.

تجدّد انعقاد المؤتمر بعد أعوام ثلاثة من الانتظار القسري، ذلك أنّ التدابير الصحية التي فرضتها سنوات الجائحة عطّلت المؤتمرات والفعاليات الجماهيرية في عموم أوروبا والعالم، لكنّ مؤتمر فلسطينيي أوروبا لم ينقطع في الواقع؛ إذ تواصل حضوره خلال ذلك من خلال تركيز النشاط وتوسعته في برامج عمل ميدانية وشبكية واكبت تطوّرات القضية موسماً بعد موسم، فعادت الوفود الجماهيرية إلى الانتظام في أعماله كما كان عليه الحال من قبل وزيادة.

يصحّ القول، بكلمة أخرى، أنّ الوجه الآخر لهذا المؤتمر هو نشاط مستمرّ ومتفاعل على الأرض في بلدان أوروبا.

ما كان لهذا الحدث الشعبي الكبير أن ينهض ابتداءً وأن يستمرّ عاماً بعد عام لولا إصرار الجماهير الفلسطينية في المنافي الأوروبية على تأكيد حضورها وإعلاء صوتها، حتى ناهز عدد المشاركين والمشاركات في الحدث الضخم المنعقد السبت، 27 أيار/ مايو 2023، عشرين ألفاً.

توافد هؤلاء إلى موقع الاجتماع الكبير من أرجاء القارّة، عبر وسائط النقل المتاحة، وتدفّق بعضهم إلى الجنوب السويدي ضمن قوافل من الحافلات والسيارات التي اختطّت مساراتها عبر بلدان أوروبا، وبذلوا في سبيل ذلك جهوداً وأوقاتاً وأموالاً من جيوبهم تقديراً لأهمية القضية ورسالة العودة.

كان الانعقاد حدثاً فريداً من نوعه عندما انطلق قبل عشرين عاماً، ثمّ صارت مواسمه الدورية في ذكرى النكبة من كل عام إشارة حياة نابضة بعث بها لاجئو فلسطين في أوروبا، لتتويج نشاطات دؤوبة عبر عام يسبقه والتهيئة لمواسم تعقبه من العمل والتطوير.

ثمّ إنّ ما يُرى في المشهد الإجمالي مؤتمراً شعبياً جامعاً؛ إنّما يحمل في طيّاته حزمة مؤتمرات وملتقيات مركّبة تحت خيمته الفلسطينية الكبيرة، تنتظم فيها موضوعات الاهتمام المشترك في حقول شتّى ومجالات عمل متعدِّدة؛ منها ما يجمع النساء والشباب والقطاعات المهنية والتخصّصية، مثل الأطباء والمهندسين وغيرهم، علاوة على ملتقيات المشتغلين بالتواصل السياسي وأطر التضامن عبر أوروبا.

من القسط الإقرار بأنّ الصورة التي يقدِّمها هذا المؤتمر لفلسطينيي أوروبا بالغة الدلالة وعميقة الأثر، إذ ينتظمون في فضاءاته حول رايتهم وقضيتهم ومطالب شعبهم، ويقدِّمون على منصّته حالات نجاح نموذجية مُلهِمة من أبنائهم وبناتهم في مجالات العلوم والتقانة والفنون والرياضة والإدارة والعمل العام في بيئاتهم الأوروبية.

من اللافت للانتباه أنّ هذه الوجوه التي نشأت في أوروبا تؤكِّد جميعها أنّ نجاحاتها لا تنفكّ عن نضال الشعب ووجهته المُبرمة نحو العودة والحرية.

حضر على منصّة مؤتمر مالمو، مثلاً، المتفوقة الأولى في الثانوية العامة الدانمركية، وشابّة مثّلت السويد في مسابقات علمية دولية، وطبيب ساهم في ابتكار علمي بريطاني حاز على جوائز أوروبية، وآخر فاز بكأس العالم في إحدى الرياضات القتالية، ومسؤول بلدي ناجح في حاضرة اسكندنافية، وغيرهم من وجوه جيل جديد يضع نجاحاته في رصيد شعبه الفلسطيني وخدمة قضيته العادلة.

ثمّ إنّ المؤتمر منصّة شعبية يقصدها ممثلو أطر ومؤسّسات وتشكيلات فلسطينية في عموم القارّة، يعرضون فيها التجارب ويتبادلون عبرها الخبرات ويتواصَوْن خلالها بتطوير الأداء.

كان من تجلِّيات هذا التفاعل والتشبيك أنْ انطلقت من فضاءات المؤتمر عبر العقديْن الماضييْن مشروعات ومبادرات وحملات وقوافل ولّت وجهها شطر قضايا القدس والاستيطان والجدار والحصار والأسرى وغيرها، ما يعني أنّ المؤتمر ليس انعقاداً محدود الزمان والمكان كما قد يُحسَب؛ فهو في حقيقته ذروة جهد سنوي يتراكم عاماً بعد عام.

بدا منطقياً، والحال هذه، أن تنهمك دعاية الاحتلال في مطاردة مؤتمر فلسطينيي أوروبا في محطّات انعقاده سنة بعد سنة، لكنّها عجزت طوال عقديْن من الزمن عن تعطيله أو تثبيط جماهيره أو صرف المتضامنين عنه؛ رغم حملات التحريض والترهيب التي مورست ضدّه. ما لم يكن مفهوماً، في المقابل، أن تنبري السلطة الفلسطينية إلى إطلاق حملة تحريض ضد مؤتمر يرفع راية فلسطين من المنافي ويعلن التمسّك بحق العودة الذي يعبِّر في حقيقته عن جوهر القضية الفلسطينية.

أظهرت هذه الحملة، في الواقع، أزمة السلطة الذاتية وانقطاعها عن واقع شعبها وخشيتها من أي تحرّك جماهيري مستقلّ عنها، بينما يتزايد اعتمادها على سطوة أجهزتها الأمنية لقمع الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال وإحباط نشاطاته الجماهيرية.

لكنّ موجة التشهير المفتوحة التي انخرط فيها مسؤولو السلطة وأجهزتها الأمنية ومنصّاتها الدعائية ضد مؤتمر فلسطينيي أوروبا العشرين لم تنجح في النهاية في ما عجزت عنه دعاية الاحتلال جولة بعد جولة.

مقالات ذات صلة